في شهر ديسمبر/كانون الأول من العام 2019، أصدر مجلس الوزراء الانتقالي، ونشر جماهيريا، الإطار العام لبرنامج عمل الحكومة الانتقالية، مؤكدا في ديباجته التزام حكومة الثورة بقيم «المشاركة والعمل الجماعي والشفافية والاستجابة والفعالية في إدارة شؤون الدولة ومواردها» ومحددا عشر أولويات ستعمل الحكومة الانتقالية على تنفيذها تحقيقا «لبرنامج انتقالي يُؤسس لسودان يُّلبي طموحات وتطلعات الشعب السوداني». والأولويات العشر هي: إيقاف الحرب وبناء السلام العادل والشامل والمستدام. معالجة الأزمة الاقتصادية وإرساء أسس التنمية المستدامة. مكافحة الفساد والتزام مبدأ الشفافية والمحاسبية. إشاعة الحريات العامة والخاصة وضمان حقوق الإنسان.
ضمان تعزيز حقوق النساء في كافة المجالات مع التمثيل العادل بإعمال مبدأ تكافؤ الفرص وخاصة في هياكل الحكم في الفترة الانتقالية. إعادة هيكلة وإصلاح أجهزة الدولة. وضع سياسة خارجية متوازنة تخدم مصالح السودان. ترقية وتعزيز التنمية الاجتماعية والمحافظة على البيئة. تعزيز دور الشباب من الجنسين وتوسيع فرصهم في كافة المجالات. تحقيق مهام التحول الديمقراطي، وتنظيم عملية صناعة الدستور والترتيب لانتخابات حرة ونزيهة.
وفي 22 أغسطس/آب الماضي، الذكرى الأولى لتوليه منصب رئيس الوزراء، قال الدكتور حمدوك أنهم سينجزون خلال فترة وجيزة تقريرا تفصيليا حول أداء الحكومة، سيُقدم إلى اجتماع مشترك لمجلسي السيادة والوزراء. لا ندري، هل أُعد هذا التقرير، أم أن «الفترة الوجيزة» تقترب من الشهرين ولم تنته بعد، وظننا أنها لن تتجاوز الأسبوعين أو الثلاثة؟! وهل سيتضمن التقرير أسباب تعثر تنفيذ أي من تلك الأولويات العشرة المذكورة أعلاه طالبا مساعدة جماهير الثورة؟
قد يحاجج البعض، بأن وضع البلد المنهار، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، لا يحتاج إلى تدبيج تقارير أو كتابة مقالات، وأن أغلبية ما جاء في البرنامج الانتقالي وأولوياته العشر، ظل حبيس الورق. وبالطبع لن أعترض على هذه المحاججة لأن لسان الحال فعلا أبلغ وأصدق من لسان المقال. ولكني أعتقد بأن صدور مثل هذا التقرير ونشره على الناس، أو لو أن الحكومة التزمت بما جاء في ديباجة برنامج العمل الانتقالي حول الشفافية والمساءلة والاستجابة، وتخلت عن هذا الصمت العجيب والمريب، وبالأخص إزاء الانتقادات والاتهامات الخطيرة التي وجهت لها من بعض قيادات الفترة الانتقالية، وخاطبت الناس بما يعترضها من معوقات وعراقيل، وحددت بكل شجاعة مكامن الخلل في أدائها، لما كان هذا الغضب والسخط تجاهها، ولما كان المناداة بالهتاف ضدها في الموكب المحدد له الحادي والعشرين من الشهر الجاري. وفي النهاية، لابد أن تواجه الحكومة وقيادات الحرية والتغيير واقع البلاد الراهن والتعامل معه بكل جدية بدلا عن دفن الرؤوس في الرمال، فإما تقديم حلول حقيقية لعلاج الأوضاع المتأزمة في البلاد، أو الإقرار بالفشل والعجز، وعندها سيقرر الشعب الخطوة التالية، في اتجاه حماية ثورته والانتصار لها.
لابد أن تواجه الحكومة وقيادات الحرية والتغيير واقع البلاد الراهن والتعامل معه بكل جدية بدلا عن دفن الرؤوس في الرمال، فإما تقديم حلول حقيقية لعلاج الأوضاع المتأزمة في البلاد، أو الإقرار بالفشل والعجز
إن تهاون الحكومة الانتقالية في ضرب بؤر النظام البائد، شجّع هؤلاء للانتقال من حالة الدفاع والكمون إلى حالة الهجوم لتصفية الثورة. ولكن، وكما كتبنا مع بدايات حراك الشعب، أن ثورة السودان اندلعت لتنتصر، مع أن تحقيق أهدافها سيتطلب فترة طويلة نسبيا، بل وربما سيحتاج إلى ثورات فرعية أخرى حتى يتحقق. وهذا ليس أمرا غريبا، فثورة السودان، مثلها مثل كل الثورات الأخرى في التاريخ، قد تحتاج للمرور بعدة مراحل قبل ان تكشف عن كل إمكانياتها وتتبلور في نهاية الأمر بوصفها تكويناً جديداً جذرياً. صحيح، أن استقرار وتحقيق أهداف تلك الثورات الأخرى، تطلب فترات طويلة جدا، مثلما كان الأمر بالنسبة للثورة الفرنسية العظمى، 1789، وبريطانيا في اعقاب ثورة كرومل 1649، وألمانيا بعد ثورة 1818. لكن، تلك الثورات اندلعت في ظروف مغايرة تختلف كليا عن واقع اليوم، من حيث عدم استنادها إلى تجارب ثورية سابقة لها، ومن حيث تطور المهارات والقدرات المكتسبة عند قوى الثورة اليوم مقارنة بقوى الأمس، ومن حيث دور الثورة الرقمية والتكنولوجية الحديثة في تفجير الثورات وتقصير الفترات بين مراحلها، ومن حيث آثار العولمة ودور الظروف الإقليمية والدولية في عالم جديد…الخ.
كل ذلك سيقلل، إلى حد كبير، طول الفترة بين المراحل المختلفة للثورة. لكن، النقطة الجوهرية وحجر الزاوية والأساس لاستمرار ثورتنا المجيدة وتحصنها ضد الانتكاس حتى تبلغ أعتاب بوابات تحقيق أهدافها، يكمن، حسب وجهة نظري، في التمسك والتقيد بثلاثة أركان رئيسية، أولها العمل بشتى الوسائل، ودون كلل أو ملل، لأن تستمر جذوة الثورة متقدة، لا تهمد أبدا، وتتغذى يوميا بالوقود الكاف المتمثل في تسخير إمكانات وإبداعات الشباب في اجتراح الوسائل والأدوات المتجددة يوميا، والحذر من الفخاخ المنصوبة تجاه الثورة لكي تنطفئ شعلتها أو تضعف شحنتها أو تبرد نارها. وبالنظر إلى ما يبدعه شباب السودان اليوم، فإن درجة الاطمئنان عندي أكبر بكثير من درجة القلق. والركن الثاني، هو التمسك بوحدة قوى الثورة، والتقيد بأسس التحالفات المعروفة. فالمرحلة لا تحتمل إعلان المواقف والرؤى الفردية لهذا الفصيل أو ذاك لمجرد إبراء الذمة، حتى ولو كانت هذه المواقف والرؤى صحيحة، بل المرحلة تتطلب التقيد الكامل بالصبر والحكمة ونقاش الأمر داخل مؤسسات التحالف وإقناع الآخرين به، حتى لا تتفتح ثغرات تنفذ من خلالها قوى الثورة المضادة لتمزيق وحدة قوى الثورة وإجهاض الحراك الثوري.
أما الركن الثالث، فيتمثل في تحديد أن الهدف الآني للثورة هو اقتلاع جذور النظام البائد، وإصلاح ما خربه هذه النظام في جسد الوطن. وأعتقد أن زخم الثورة وما اكتسبته من إجماع غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث، يجب أن يدفعنا إلى ضرورة بناء أوسع جبهة ممكنة لتحقيق هذا الهدف. وفي هذا السياق، أرى فتح عضوية قوى الحرية والتغيير لتضم كل المؤمنين بهذا الهدف، غض النظر عن توجهاتهم السياسية، ولا نعزل أحدا إلا أذناب النظام البائد.
نقلا عن القدس العربي