لولا أرواح الشهداء الغالية، وعزم الثوار – الأحياء منهم، والجرحى، والمفقودين، لما تحققت لنا إزالة النظام البائد من الوجود ورفع اسم السودان للخلود. فهذا المسعى الدبلوماسي الذي أتى اكله بدأ مبكراً بالحوار مع الإدارة الأميركية، وثابرت الحكومة حتى نجحت في رفع العقوبات. ولا بد أن نشيد بدور رئيس الوزراء، وفريقه من مسؤولي الخارجية، وسفارة السودان في واشنطن، الذين تابعوا هذا الملف منذ حين، وأغلقوه بالنجاح في تحقيق أجنداته.
ولعل من شأن هذه الخطوة أن تعزز ثقتنا في الديموقراطية وسط أصوات نشاز تحاول هذه الأيام إعادتنا لمربع الديكتاتورية الإخوانية في ظل الأزمات التي تحيط بالبلاد. فلا شيء غير الديموقراطية يساعدنا في حللة قضايانا التاريخية التي عقدها نظام الثلاثين عاما الماضية، ولا منجاة لنا من الحس القومي في النظر لقضايانا، والذي يضمن مصالح أقاليم البلاد جميعها، وإلا حققنا استراتيجية النظام البائد في تغذية الروح الجهوية المتطرفة.
إذ هو نظام العنصرية الذي بسياسة “فرق تسد” دمر مكتسبات الدولة الاقتصادية، وشن الحرب الجهادية ضد مواطنين أعزاء، وأوجد محنة دارفور، وبقية مناطق النزاع، بكل أهوالها، وفتن الناس وسط المركبات الاجتماعية، والاثنية. ودخل ذلك النظام منذ أوائل حكمه في مواجهات بائسة مع الدوائر الإقليمية والعالمية، وامتهن كرامة الجندية السودانية، وجعل طاقات أبنائنا موئلا للارتزاق. وما نزال حتى يوم الناس هذا نوظف وجودنا في حرب اليمن لفك ضوائقنا السياسية، والاقتصادية. ولعله هو النظام السابق المسؤول في الأساس عن هذا الضنك المعيشي، حيث لم ترث حكومة الثورة غير الخراب في كل المؤسسات التابعة للدولة.
خطوة رفع العقوبات لا تعني شيئاً خلاف عودة السودان للمجتمع الدولي نظيفا من مساعي التطرف، والإرهاب، التي استمرأت أيديولوجيا الإخوان المسلمين القيام بها لمحاربة أميركا وروسيا في ذات اللحظة!. وخطوة تنظيف اسم السودان دولياً، بهذا المستوى، من المتوقع أن تفك بعضاً من الضوائق الاقتصادية، والدبلوماسية، التي واجهت حكومة الثورة، وما تزال. ولا نظن أن ما يجنيه السودان من رفع اسمه من قائمة الدول الداعمة للإرهاب، والتطبيع مع العالم، سوى الأساس المتين الابتدائي لتوظيف هذا الانفتاح لبناء قاعدة مشاريع تنموية جديدة، وإعادة تأهيل مؤسسات الدولة الإنتاجية التي خربها النظام البائد، ودعم القطاع الخاص في هذا المجال وتحفيزه، واستقطاب رساميل استثمارية. وهذا هو السبيل الوحيد لنهضة البلاد لتجاوز عثراتها، والاعتماد على ذاتها بالشكل الذي يجعلنا نقطع مع سياسة الارتزاق التي حرمت البلاد من امتلاك قرارها السياسي.
فالسودان ما يزال أغنى دول الإقليم من حيث موارده، ويمكنه أن ينهض في بضع سنوات. ذلك إذا حدث التوافق السياسي وسط الحاضنة السياسية للدولة، وقدمت مصلحة البلاد عوضاً عن مصالحها الحزبية. ولعل كل الدول المحيطة ببلادنا تعاني من غياب كامل الديموقراطية، وتتعثر في سياستها التنموية في ظل غياب الموارد. ولذلك يستطيع السودان لو وظف ثرواته الطبيعية عبر خطط مدروسة سيكون نموذجا في الإقليم في كيفية ربط الديموقراطية بالتنمية الشاملة، وهذا هو الرهان.
يخطئ كثيرون لو ظنوا أن رفع العقوبات يعني أن تحديات الحكومة الأخرى ستكون أسهل. فما ندركه هو أن هذه التحديات الماثلة كثيرة، ومعقدة. إن تعلقت بملف السلام بكل متطلباته، والتوافق وسط مكونات الثورة، واجتثاث التمكين، تعلقت أيضا بالتجهيز للانتخابات، واستكمال هياكل الحكم المركزي والإقليمي، وتحقيق العدالة، وبناء الخدمة المدنية من جديد عبر وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، والابتعاد عن المحاباة الحزبية، والجندرية، والجيلية، والجغرافية.
إن نجاح الحكومة في مساعيها الدبلوماسية هنا وهناك ينبغي أن يشجع قوى الحرية والتغيير لإعادة ترميم المنظومة، والتوافق على دعمها، ومراقبتها في ذات الوقت، لتنفيذ كل متطلبات الانتقال. ونأمل أن يكون موكب الواحد والعشرين من اكتوبر القادم بمثابة دعم معنوي لسياسة الحكومة، مع التأكيد على تنبيهها بضرورة مضاعفة الجهد لإصلاح هيكليتها بما يضمن تحقيق أهداف الثورة.
على الصعيد الآخر فإن انتصار حكومة الثورة في رفع الدعم لن يزيد الفلول إلا نشاطا مهموما لعرقلة الفترة الانتقالية، وقطع الطريق أمام تنفيذ البند السادس، والذي سيكون داعماً أيضًا للانتقال السلس نحو ديموقراطية الانتخاب، وترسيخ التداول السلمي للسلطة. ومع ذلك لن تعود عقارب الساعة للوراء حيث كان هناك نظام مستبد ورط الشعب السوداني في مشاريع إيديولوجية متخثرة فيما عطل قدرات السودانيين دون السير نحو ترسيخ السلام، والتقدم، والاستقرار.