في العام ١٩٩١، وعندما رفض صدام حسين الإنسحاب من الكويت التي غزاها في أغسطس ١٩٩٠، نشِطت عدة وساطات لإثنائه عن عِناده لينسحب ويتجنب الضربة الأميركية..ولكن صداماً رفض حتي مجرد إبداء إستعدادِه للإستماع..وصدّٙ كلّ تلك الوساطات والرجاءات والمناشدات عربيةً ومحليةً وإقليمية ودولية..وأعلن ضمّٙ الكويت إلي العراق محافظةً جديدةً وأسماها (كاظمة)!! وكان يقول إنّٙ عنده (الكيماوي المزدوج) الذي سوف يُغنيه حتي عن السلاح النووي!!..وكانت تلك طبعاً كذبةً عظيمة وورطةً عظيمةً كذلك..
أقول ورطةً عظيمة لأنه ورّٙط بها بعض الدول العربية فصدّقته أن عنده سلاحاً فتاكاً ومرعباً يُخيف به الأميركان وسوف لن يقربوه..وبكل أسف صُنِّف السودان ضمن الدول التي إنطلت عليها كذبة صدّام تلك، وإُعتبرت تلك الدول (ضِدّاً) لبقية الدول العربية التي وقفت إلي جانب الكويت (وبالمناسبة كانت بقيادة السعودية).. ومنذ ذلك الوقت وحتي الآن ظلّ السودان يدفع غالياً ثمن موقفِه ذاك..
قُبيل الضربة العسكرية الماحقة التي وجهها الأميركان لاحِقاً للعراق لإخراجه من الكويت أعلن الرئيس البشير أنه سيقوم بوساطة لدي العراق ليخرج من الكويت..وكان ذلك الإعلان مكانٙ تندُّرٍ وسخرية من الكثيرين..إذ لم يكن البشير وقتذاك إلّٙا عسكرياً إنقلابياً شاباً ومبتدئاً في دروب السياسة (وللتذكير إنقلاب الإنقاذ كان في ١٩٨٩).. كما كان غير معروفٍ لدي كثيرٍ من زعماء العالم..ولم يكن له من ذِكْرٍ ولا إنجاز يعرفُه به العالم..كما لم يكن له من فضلٍ ولا (خاطر) لدي العراق ليكرمه به صدّام ويجبر وفادته ويقبل وساطتٙه إكراماً لعينه -كما هي عادات العرب حين يقبلون وساطةٙ أحد-..بل علي العكس، كان العراق هو صاحب الفضل علي السودان..إذ أمدّٙه بالأسلحة والعتاد ليحارب بها في الجنوب حين منعٙه كل العرب..وبذلك أوقف السودان هجومٙ الحركة الشعبية التي كادت أن تجتاح معظمٙ الجنوب في ذلك الوقت..وربما لهذا السبب كان موقفُ البشير أكثرٙ تعاطفاً مع العراق !!
كان رأي الرئيس حسني مبارك وقتذاك أن الضربةٙ الأميركية واقعةٌ لا محالة -إذ كان كثيرٌ من العرب يتشككون فيها بخاصةٍ في دول (الضد)-!! وقال إنه خاطب الرئيس صدام شخصياً وقال له وترجّاه أن ينسحب من الكويت ولكنه رفض!! فسأله الصحافيون رأيه في وساطة الرئيس البشير فقال لهم بسخرية (والله شايفو آيم وآعد..وآهو ربِّنا يجري الخير علي يديه !!!) وطبعاً لم يُجرِ الخير علي يديه ولا حاجة..وإنما ضُربٙ العراق والرئيس البشير علي مشارفه ولمّٙا تجِف فناجين القهوة العربية التي قُدِّمت له !!
الرئيس البشير يقوم الآن بمحاولة وساطة بين قطر (والمتحالفين ضدها) قيل إنه سيبدأُها بزيارة للكويت تليها الإمارات العربية المتحدة (وطبعاً السعودية) ..ولا أعلم ما إذا كانوا سيضعون له إعتباراً ويجبرون بخاطره.. كما لا أدري ما إذا كان له خاطرٌ لديهم أصلاً.. ولا أدري ماذا سيقولُ لهم بعدما قالت أميركا قولتها وخرج وزير خارجيتها تيلرسون بإتفاقات وموجِّهات للخروج من الأزمة.. كما لا أدري ما إذا كان سيادته يعلم أنه لا (معقِّبٙ) لما قالت أميركا بشأن هذه الأزمة!!
ولكن ما أعلمه أنّٙ هذا (المعروف) الذي يود الرئيس البشير فعله بشأن الأزمة الخليجية كان أولي به أهله وشعبه، وأنّ جهود المصالحة التي يود سيادته بذلها كان أجدر بها ذوو رحِمـِه في دار فور والنيل الأزرق وجنوب كردفان لا بل حتي الخصوم السياسيين في قلب الخرطوم..!!!
إنّٙ بلداً ممزقاً ومشتتاً ومتنازعاً ومحاصراً ومغضوباً عليه دولياً وتأكلُه الحربُ من أطرافه لن يكون رئيسُه مؤهلاً لِـلٙعب أيِّ دورٍ في مصالحة خصومٍ آخرين..وأيّ (مشوبرة) لتقمُّص لعب دور الوسيط لن تكون إلا مصدراً للسخرية والتندُّر مثلما كانت كذلك قبل ربع قرنٍ من الآن !!
فيا سيدي الرئيس أهلُنا في دارفور يقولون: (الما كٙسٙا أمُّو ما بٙكْسِي خالتو)..بالله عليك أكسِ أهلك وذوي أرحامك الأقربين بهذا (المعروف) المتمدد قبل أن تشمل به من هم أبعد ممن كانوا يتوسطون لديك لتصالح أهلك وترحمهم وتترفق بهم !!!
ومع هذا نقول كما قال الرئيس حسني مبارك قبل ربع قرنٍ، وفي (مشوبرةٍ) مشابهة : (ربِّنا يجري الخير علي يديك)!!