قاهرة التسعينات
أكثر من عقد كامل شكلت أحداث السودان على مسرح القاهرة بؤرة اهتمام تحلق حولها العديد من المهتمين سياسياً ومهنياً وثقافياً واقتصادياً وإنسانياً إلي آخره. هي ذات الأحداث والأزمات التي سبق أن عبر عنها الدكتور حسن الترابي قبل الانقسام الشهير بين القصر والمنشية وهو في قمة النشوة والزهو بمشروعه الحضاري بإن هذه الأزمات أعادت تعريف السودان وجعلته على سطح الأحداث. وللأسف فقد كان أهم مظهر تلك الأزمات إتهام السودان بالإرهاب وعزله ومعاقبته وضمه للقائمة الأميركية لرعاة الإرهاب ثم تمضي السنوات ليأتي الترابي ويصرح في أول زيارة له إلى القاهرة في حوار تلفزيوني بعد ثورة يناير المصرية معترفاً على رؤوس الأشهاد بأن أكبر خطأ إرتكبه هو تآمره على الديمقراطية ووأدها وأنه لن يكرر نفس الفعل إذا ما عادت به الأيام للوراء مرة أخرى وذلك بسبب ما ألحقه نظام الإنقاذ ( حكم الرئيس عمر البشير) من دمار بالسودان وبأهله من معاناة .
ثقوب في جدار الصمت
بعد وصولي القاهرة بأيام وتحديدا في أغسطس 89 ” بدأت أتلمس طريقي في هذه المدينة في ظل أجواء مشحونة بالقلق والتوتر إزاء تطورات الوضع في السودان ولم تكن الحكومة المصرية قد حددت موقفها بشأن النظام الانقلابي الجديد في السودان بشكل كامل، خاصة بعد تواتر الأنباء عن اجراءات القمع والتعذيب التي بدأت تلفت انتباه المنظمات الحقوقية في العالم .
كنت يومها في طريقي إلى مقر اتحاد المحامين العرب ايفاءا لموعد مسبق مع الأمين العام الأستاذ فاروق أبوعيسي الذي كان مقره قبلة السودانيين والمهمومين بما يجري في البلاد في تلك الفترة. وأنا أعبر شوارع وحواري “وسط البلد “مشيا على الأقدام في طريقي الى قاردن سيتي تجسدت أمامي صور درامية لأغنية عمرو دياب ” رصيف رقم خمسة ” التي كتب كلماتها مدحت العدل وحملت اسم الفيلم نفسه، أتأمل حركة الناس في شوارع المدينة وأزقتها وهي تصور نمط الحياة اليومية في الشارع المصري بين الزحام والضوضاء ،بين أحلام كبيرة بحجم وول استريت وأخرى صغيرة بحجم طابع البريد على رأي غادة السمان .
تقول كلمات الأغنية:
رصيف نمرة خمسة والشارع زحام، وساكت كلامنا ما لاقي كلام
تسالي يا خال، تدخن يا عم، تتوه المعاني وتنسى اللي كان
كلكس الترولي بيصفر وداني
وشحتة المزين بياكل وداني
يا نادي باريس تعالا وحاسبني
وكمل ديونه عشانه وعشاني
وعبد الله رشدي محامي قدير
بيرفع أضية في باب الوزير
بقالة الأمانة ونصحي السروجي
عاملينلي شركة في مشروع بوتيك
ونادو لعبده الفرارجي يشاركهم
فرد بألاطة محبش شريك
وجت واقعه سوده في سوق الإمام
عشان عم لمعي بتاع الحمام
مقدرش يوصل لأي اتفاق
مع سبع افندي في قضية سلام
مررت في طريقي بمكتبة مدبولي على ناصية ميدان طلعت حرب أتأمل عناوين الصحف فوقع نظري على مانشيت أحمر يعلو صورة لرئيس الوزراء السوداني المعتقل في تلك الأيام ، بعنوان – محضر التحقيق مع المهدي – فحملت الصحيفة – التي يصدرها حزب مصر الفتاة ويرأس تحريرها الأستاذ مصطفى بكري محاولا التعرف عليها عن قرب .
بعد اطلاعي على نص المحضر ،والذي ألحقه الأستاذ بكري بتعليق متعاطف مع معاناة المعتقلين مطالبا المصريين بمساندة حقيقية للشعب السوداني.
دفعني ذلك الشعور بالتعاطف والمساندة إلى الاتصال صباح اليوم التالي بمكتب الأستاذ مصطفي بكري لتحديد موعد معه، كان ذلك في اليوم الثاني بمقر الصحيفة بعمارة معروف قرب ميدان التحرير.
استقبلني بكري بترحاب واهتمام مقدر ودار حوار مطول بيننا دام لما يقارب الساعتين حول الوضع في السودان ما نريده من زملائنا الصحافيين المصريين بصفة خاصة لدرء ما يواجهه أهل السودان من ابتلاءات.
كان بكري يعمل إلي جانب مسؤوليته في الصحيفة مراسلا لراديو مونت كارلو في القاهرة الذي كان يولي اهتماما خاصا بالتطورات في أفريقيا والشرق الأوسط، بالإضافة إلي دوره النشط من خلال علاقاته وصلاته ببعض المسئولين وقادة الرأي..
تمددت بيننا علاقة صداقة حميمة اتسعت لتشمل عدداً من السودانيين المقيمين في مصر، والذين يترددون علي القاهرة منهم الفاتح سلمان الذي كان ينتمي إلي مجموعة رجال الأعمال السودانيين و هو صاحب اهتمامات إعلامية وصحفية وقد كان داعماً ومشجعاً لمشروع صحيفة (الوحدة ) التي أنشأناها في القاهرة في مطلع التسعينات والتي ترأس تحريرها الاستاذ مصطفى بكري .
وكانت اهتمامات الفاتح سلمان الإعلامية قد أثمرت في لندن تأسيس نشرة ” سودان مونيتور” التي أوكل تحريرها للصحافية البريطانية إيما شارب .وهي نشرة تعنى بأوضاع حقوق الإنسان وقضايا الديمقراطية في السودان. التقيت ايما شارب في القاهرة في طريقها الى نيروبي لإجراء حوارات مع زعماء “الحركة الشعبية” وقد كانت مهتمة بشكل خاص بمايجري في السودان ومنفعلة مع الأحداث الجارية فيه
مصطفى بكري
تعرفت من خلال الاستاذ مصطفى بكري الذي اصبح إعلامياً وسياسياً ونائباً برلمانياً معروفاً في مصر سيما بعد الثورة المصرية فيما بعد على عدد مقدر من الزملاء الصحافيين والإعلاميين المصريين، منهم شقيقه محمود بكري الذي كان محررا بصحيفة الشعب، ومحمد عبد السلام الباحث بمركز الدراسات السياسية والإستراتجية بالأهرام ،وعدد من كبار الصحافيين والأدباء منهم الأساتذة عادل حمودة و جمال سليم والروائي جمال الغيطاني وعد كبير من الزملاء والأصدقاء .وقد اتسعت لنا دار بكري في حلوان الجديدة في جلسات مع هذه النخبة المميزة عبر أمسيات متفرقة لأحاديث في الأدب والسياسة وتوصيف أواصر العلاقات بين شعبي وادي النيل .
الكاتب الصحفي عادل حمودة
الأديب والروائي جمال الغيطاني
لعب الأستاذ مصطفى بكري في تلك الفترة دوراً مهما في دعم قضية الشعب السودان الذي كان يتطلع للحرية والديمقراطية وهو دور ظل يتواصل ويتبلور في اشكال عديدة تؤكد قناعاته الراسخة بتطوير العلاقات بين الشعبين على أساس من الإدراك والوعي والمصالح المشتركة .
ضربة البداية
منذ أطلق حزب الامة بداية التسعينات نشاط المعارضة الخارجية بقيادة مسؤول العمل الخارجي المكلف السيد مبارك المهدي شكل ذلك الحراك ازعاجا كبيرا للنظام، حيث تمكن حزب الأمة من بناء شبكة خارجية فعالة مواصلة مع قوى المجتمع المدني ومنظمات حقوق الانسان ومؤسسات الاعلام الحر واتسمت ادارته التنظيمية ومكاتبه الخارجية بالانضباط والمتابعة وبقدرتها على الحصول على المعلومة .
ويسجل للأخ مبارك المهدي رغم اختلاف البعض معه في تلك الفترة انه نجح بتكويناته التنظيمية المختارة من كوادر الحزب التي تحملت المسؤولية في إدارة أضخم حملة اعلامية وسياسية ودبلوماسية معارضة بمعاونة مكاتب الحزب الخارجية التي شكلها حيث أصبح صوت المعارضة يشكل هاجسا حقيقيا للنظام الانقلابي.
ثم جاءت بعد منتصف التسعينات عملية “تهتدون” ووصول رئيس الحزب السيد الصادق المهدي إلى اسمرا ثم القاهرة لتشكل بدورها فتحاً جديداً من فتوحات المعارضة السياسية المنظمة والتي جذبت الأضواء والاهتمام لقيادة حزب الأمة لقدرتها على التأثير إقليمياً ودوليا بشهادة كثير من المراقبين وبشهادة الوقائع والتفاصيل التي نورد بعضا منها.
شملت أهم مكاتب حزب الامة الخارجية التي لعبت ذلك الدور في محاصرة النظام إعلاميا ودبلوماسيا مكتب واشنطن بقيادة الاخوة اسامة نقدالله ،الزين الصادق، احمد الدابي وآخرين، ولندن التي كان يمثلها أحمد عقيل والحارث ادريس الحارث، ثم اديس ابابا التي تولى المسؤولية فيها صديق بولاد ونجيب الخير وكمبالا التي اوفد اليها حماد عبدالرحمن صالح وألمانيا أحمد حسين آدم ثم منطقة الخليج محمد عبدالباقي، واصبح مكتب القاهرة في بداياته الذي ضم نخبة مختارة من الكوادر منهم مهدي داؤود وحسن أحمد الحسن وهو المكتب الذي يمثل الذراع السياسي والثقافي والاعلامي قبل أن يتسع ليضم قيادات وكوادر سياسية فاعلة كصلاح جلال ومامون شرفي وتجاني السيسي ونجيب الخير وابراهيم الأمين واحسان كزام وبازرعة على العمدة وعبد الحفيظ عباس وعباس الفكي وثريا عبد اللطيف ومجموعة من الكوادر القيادية الطلابية وغيرهم وغيرهن، بينما مثل مكتب اسمرة والذي يرعاه ويقوده الامين العام الراحل الدكتور عمر نور الدائم بجناحيه المدني والعسكري، والذي ضم أيضا كوكبة من كوادر الحزب القيادية والادارية الذراع المسلح الذي يدير نشاط “جيش الامة للتحرير” ويدير العلاقات السياسية مع القرن الافريقي ومنهم على سبيل المثال لا الحصر بازرعة على العمدة وأبوهريرة زين العابدين ونعمان ويونس ومهدي عمر نور الدايم ومجموعة كوادر وخريجو القاهرة وزملاؤهم الأخرون الذين اسسوا مجموعة جيش الامة للتحرير بقيادة احمد خالد المالكي وعبدالرحمن الصادق المهدي وعدد من الضباط والقادة الاحترافيين .
وبانطلاق نشاط حزب الامة بجميع أبعاده بدأت قيادات الفصائل والأحزاب الأخرى السياسية في التسلل إلى القاهرة بكثافة وبدأت انشطة مماثلة حيث دفع حراك حزب الامة في القاهرة الحزب الاتحادي الديمقراطي ايضا إلى انشاء دار له لتحويل وجوده المعنوي التاريخي في القاهرة إلى وجود سياسي وتنظيمي بجهد مجموعة من الشباب والكوادر الاتحادية كأحمد السنجك وبكري النعيم ومحمد عثمان عبدالله ومعتصم حاكم وآخرين ممن كانوا في القاهرة او من أتوا تباعا في فترات لاحقة مسنودين بعدد من القيادات التاريخية الاتحادية التي كانت موجودة في القاهرة .
غير أن انطلاقة عمل المعارضة جاءت عمليا بعد إطلاق حزب الامة لمبادرة تأسيس “التجمع الوطني الديمقراطي” الذي بدأ بلجنة التنسيق العليا والتي انطلقت بنخبة محدودة قبل ان تأخذ شكلها النهائي ضمت من الأمة الفاتح محمد سلمان ، مهدي داؤود وحسن احمد الحسن وصلاح جلال وبمشاركة عدد من الاخوة القياديين والكوادر القيادية الذين ترددوا على القاهرة في تلك الفترة ومنهم من الاتحاديين بكري النعيم وعلى أبوسن ومحمد الحسن عبدالله يسن واحمد السنجك و احمد السيد حمد ومحمود زروق ثم حاتم السر لاحقا ، ومن الشخصيات العامة الفنان محمد وردي وطه إبراهيم وحيدر إبراهيم والتي تطورت فيما بعد إلى عملية سياسية مطولة وهيكل تنظيمي سمي التجمع الوطني الديمقراطي لتبلغ غاياتها بعد صراعات واختلافات عديدة بين فصائل المعارضة شهدتها القاهرة بإعلان ميثاق التجمع الوطني الديمقراطي وتشكيل هيكله الجديد واعلان برنامجه رسميا في اسمرا عام خمسة وتسعين بعد تجاوز كل تلك الخلافات .
ويشار في هذا المجال إلى أن ضربة البداية في قاهرة المعز كانت بوصول القيادي في مجموعة رجال الاعمال في حزب الامة الفاتح سلمان الي القاهرة شتاء عام 1989 حيث بدأنا نشاطا محموما من الاتصالات واللقاءات شملت عددا من الشخصيات السياسية والصحافية والنقابية كانت أهم اللقاءات التي أجريناها لقاءا مع الدكتور مصطفي الفقي الذي كان يشغل مدير مكتب الرئيس مبارك لشئون المعلومات، و كان الفقي كعادته بشوشا ومرحبا ومهتما وقد أسهمت تلك القنوات مع جهود أخري في تطور اهتمام القيادة المصرية تدريجيا بضرورة الاستماع لرؤية حزب الأمة وفتح قنوات الاتصال معه وهو ماتم فيما بعد من خلال زيارة مبارك المهدي إلى القاهرة ولقاء المسؤولين المصريين علي أعلي المستويات وهي اللقاءات التي أشرعت الباب لأنشطة المعارضة السودانية بكاملها وترحيب القاهرة بها خاصة وأن القاهرة قد استبانت طبيعة وتوجهات النظام الجديد في السودان والذي بدأ ينكشف وجهه المتطرف وانتماءه العضوي إلى جماعة “الاخوان المسلمين” التي ينعتها المصريون بالمحظورة، ما افقد النظام الجديد تعاطف الرأي العام العربي والعالمي وللقاء الدكتور مصطفى الفقي وما تطرق له حيثيات وحواشي .
العبور إلى الدكتور مصطفى الفقي
كما سبق وعلى خلفية المشادات التي شهدتها الديمقراطية الثالثة في العلاقة مع مصر الرسمية والمزايدة عليها من قبل بعض الأطراف من السودانيين في إطار المزايدات السياسية ظلت بعض الدوائر الرسمية في مصر تعتقد لفترة أن الانقلاب الجديد في السودان عام 1989 ربما يكون بردا وسلاما على العلاقات بين البلدين، وفقا لتقارير استخبارية مصرية لم تكن دقيقة حول هوية الانقلابيين، وعزز على ذلك الاعتقاد تلك الحالة من التوتر المشار اليها بين الحكومة الديمقراطية المنتخبة في السودان والقيادة المصرية التي يبدو أنها لم تكن مرتاحة لوجود نظام ديمقراطي على حدودها الجنوبية يفتح ابوابه ومنابره المدنية للناشطين المصريين من قوى المجتمع المدني والنقابيين المطالبين بالحريات والحقوق المدنية .
القيادة المصرية والصادق المهدي
لعل من الضروري الاشارة هنا إلى ان القيادة السياسية في مصر لم تكن راضية عن حكومة السيد الصادق المهدي المنتخبة تحديدا حتى وقوع الانقلاب بعد مسلسل من الأزمات والاتهامات المتبادلة بين البلدين والتي كان الحزب الاتحادي الديمقراطي طرفا فيها حيث كانت قيادة الحزب الاتحادي تعتقد انها وكيل حصري لمصر في السودان والأمين على مصالحها وتصوير حزب الامة كأنه عدو لمصر على خلفية مواقف تاريخية منذ وقائع معركة الاستقلال وهي الاتهامات التي وصفها حزب الأمة بأنها مجرد مزايدة سياسية لا معنى لها حول العلاقة مع مصر. غير ان الجانب المصري قد تفهم فيما بعد ان مواقف حزب الأمة من بعض السياسات المصرية تجاه السودان ليست عداءا كما يصوره البعض بل سعيا إلى اقامة مصالح تقوم على المصالح المشتركة والادراك المتبادل وان تكون العلاقات الخاصة سياجا حاميا لتك المصالح وهو الوعي والادراك الذي تحقق فيمابعد بوضوح الدور الذي لعبه السيد الصادق المهدي في تطوير تلك العلاقات .
هذا المناخ جعل أي تغيير في السودان يطيح بالحكومة المنتخبة أمرا مقبولا للجهات الاستخبارية في مصر وهو ما حدث بالفعل قبل ان يتبين لاحقا لتلك الجهات خطأ التقارير التي وصفت الانقلابيين الجدد بالضباط الوطنيين المستقلين بعد أن اتضح ان الانقلاب مجرد خدعة وهو ناتج عن مخطط للجبهة القومية الإسلامية بزعامة الدكتور حسن الترابي اتخذ من الكذب والتمويه وسيلة لتثبيت أقدامه وكانت اولى مسرحيات الخداع اعتقال عراب الانقلاب الدكتور الترابي مع المنقلب عليهم في سجن كوبر والذي اعترف بذلك فيما بعد .
بعد وقوع الانقلاب كانت البدايات جد صعبة في القاهرة حيث كانت الحركة منحصرة في مجموعتنا الصغيرة والوحيدة الي كانت موجودة في القاهرة بعد وقوع الانقلاب بشهرين باستثناء الدور الذي كان يقوم به الاستاذ فاروق ابو عيسي بحكم موقعه كأمين عام لاتحاد المحامين العرب ، كانت تلك المجموعة تتلمس المداخل لإسماع صوت المعارضة للحكومة المصرية وكان للأستاذ مصطفى بكري وللعلاقات الاجتماعية والإنسانية المباشرة دورا في تمهيد السبيل لذلك الحوار. عبر ذلك الجسر الإنساني عبرنا إلى الدكتور مصطفى الفقي .
د مصطفى الفقي
الدكتور مصطفى الفقي مفكر سياسي وأستاذ جامعي درس في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بالقاهرة حصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة لندن ثم التحق بالسلك الدبلوماسي سفيرا فعمل في العديد من السفارات قبل أن يصبح سكرتيرا للمعلومات في رئاسة الجمهورية ورئيسا للجان الشؤون الخارجية المختلفة .
ويمثل الدكتور الفقي مدرسة خاصة في السياسية والدبلوماسية المصرية، فهو سياسي مثقف يعتبر الحوارات العقلانية مدخلا ومفتاحا لحلول العديد من التعقيدات ، وهو محب للسودان والسودانيين ومؤمن بحتمية بناء علاقات راسخة وموضوعية تقوم على العقل والمصلحة بين الشعبين فضلا عن الخصوصية التي تربطهما .
بعد الثورة المصرية انتقد د الفقي السياسة المصرية تجاه السودان وبشكل اساسي ايكال الشأن السوداني لجهاز الاستخبارات المصري، بعيدا عن اروقة وزارة الخارجية وقال ان سبب التوتر المستمر في العلاقات بين البلدين من وقت لآخر يكمن في هذا الأسلوب الخاطئ وعدم رضا السودانيين عن هذا التعامل .
من خلال موقعه السياسي في تلك الفترة وبواسطة الاستاذ بكري التقينا د الفقي وهو يشغل منصب سكرتير الرئيس للمعلومات كسياسي فاعل لشرح التطورات على الساحة السودانية من وجهة نظر معارضة ، فكان لقاءا مثمرا وعميقا عبر من خلاله الدكتور الفقي عن تفهمه وقناعته التي تطابقت مع قناعتنا في ضرورة ان تلعب مصر دورا أساسيا في الضغط على النظام الحاكم في السودان والسعي لإيجاد مخرج سلمي من الأزمة السياسية والتواصل مع جميع الأحزاب التيارات السياسية في السودان من خلال مسافة واحدة .
ومن خلال اقتناعه الفكري والسياسي ودوره المؤثر تمكن الفقي من توسيع دائرة المساندين للمعارضة السودانية حيث شملت الدائرة الرجل النافذ د اسامة الباز وكيل وزارة الخارجية مما كان له الأثر المباشر في دفع التطورات الإيجابية تجاه موقف المعارضة السودانية التي بدأت رموزها وقيادات منها تتسرب إلى القاهرة، ما كان له أبلغ الأثر في بلورة موقف يتناسب ودور مصر وتفاعلها مع الشأن السوداني .
ويتصل اهتمام الفقي بالسودان اجتماعيا وسياسيا وهو مشدود إلى النخبة السودانية من سياسيين ودبلوماسيين، ففي ندوة نظمها مركز الأهرام الإقليمي للصحافة بعد منتصف التسعينات تحدث فيها السيد الصادق المهدي قال الدكتور الفقي وهو يقدم السيد الصادق في محاضرة بمركز الأهرام ،
” إن أول لقاء له بالمهدي كان من خلال محاضرة قدمها الأخير في جامعة لندن حول أفريقيا ،وهي محاضرة نالت إعجاب الحاضرين ومن بينهم أساتذة جامعيين كبار وساسة بريطانيين ، ودبلوماسيين وأشار إلى أنه أحس باعتزاز كبير لكون المتحدث سوداني ولكونه هو مصري فالتفت إلى من يجلس إلى جانبه قائلا ” يشرفني أنني أنتمي إلى نفس المنطقة التي ينتمي إليها هذا المتحدث وهو يشير إلى المهدي .”
قدم الفقي من خلال تلك الندوة بدار الاهرام مساهمة هامة في ضرورة بناء علاقات مشتركة تقوم على الوعي ولمصلحة الشعبين دون التركيز فقط على الشعارات.
هذا الشعور يعكس في الواقع صدق المشاعر الشعبية للإنسان المصري تجاه الانسان السوداني وهي مشاعر تلقائية ومتبادلة وغير مصطنعة تتباهى كلما وجدت سبيلها للتعبير عن مكنونها.
تواصلت اهتمامات مصطفى الفقي بالسودان كمفكر وسياسي كما استمرت إسهاماته في جميع المحافل الفكرية والثقافية والفكرية والسياسية لدعم التواصل السوداني المصري وفتح آفاق ثقافية جديدة لتأصيل هذه العلاقات ودفعها إلى الأمام .
من خلال الدكتور الفقي اشرع باب مصري واسع نحو الهم السوداني عبر مساهمات الدكتور أسامة الباز وكيل وزارة الخارجية في تلك الفترة ، والدكتور يوسف والي الأمين العام للحزب الوطني الحاكم و الدكتور محمد عبد الله رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشعب المصري وعدد من المسؤولين في وزارة الخارجية المصرية الذين كانت أبوابهم مفتوحة لتبادل المعلومات بالإضافة طبعا لمكتب شؤون الرئاسة بإشراف جهاز المخابرات المصري الذي اصبح اكثر حماسا لاستمرار وتطور نشاط المعارضين في القاهرة .
هذه العلاقات المباشرة بين السياسيين السودانيين والمصريين خلقت قاعدة عريضة من التفاهم وتبادل الآراء وتنسيق الجهود وهي علاقات شكلت بدورها مرجعية سياسية هامة في بلورة علاقات مستقبلية لاسيما بعد تحقق الوفاق الوطني في السودان وعودة المعارضة إلى ممارسة دورها من داخل الوطن.
فيما تواصل الاهتمام بالقضايا السودانية من خلال الندوات والحلقات التي يساهم فيها متخصصون في منابر عديدة سواء من خلال لجنة السياسة الخارجية التي تضم كبار السفراء المتقاعدين أو من خلال النادي الدبلوماسي في القاهرة او من خلال العديد من المراكز والجمعيات والهيئات المتخصصة الأستاذ أحمد بهاء الدين
حبا الله مصر بقامات ثقافية كبيرة أعطت كثيرا لشعبها ولأمتها. في تلك البدايات كان لقاؤنا بقامة ثقافية وفكرية وأدبية مصرية كبيرة من هذه القامات في مصر والعالم العربي، فعلى مدى أكثر من خمسين عاماُ كان أحمد بهاء الدين كاتباُ ورئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة بالعديد من المؤسسات الصحفية المصرية منها الفصول ، روز اليوسف ، صباح الخير ، الشعب ، أخبار اليوم ، دار الهلال والأهرام كما شغل منصب نقيب الصحفيين وأمين عام اتحاد الصحفيين العرب لدورات متعددة .
اما فى الوطن العربي فقد ترأس تحرير مجلة العربي الكويتية بجانب كتاباته في العديد من المجلات العربية وقد حصل خلال هذه الفترة على العديد من الأوسمة المصرية والعربية والعالمية .
بلغت مؤلفاته له أكثر من 34 كتاباُ وقد أصيب الكاتب بأزمة صحية أقعدته عن الكتابة منذ مطلع عام 1990 حتى وفاته ، تاركاً لوطنه ولامته تراثاً من الكتابة الصحفية والسياسية وعطاءً كبيراً من الدعوة لنهوض الأمة العربية ولتحديثها كما ترك مدرسة صحفية تتلمذ فيها العديد من مفكرى اليوم.
أحمد بهاء الدين
كان موعدنا معه بمكتبه بمقر صحيفة الأهرام. في ظهر اليوم السابع من شهر ديسمبر من عام 1989 بناء على موعد مسبق في إطار برنامج مكثف نقوم به في القاهرة لشرح ما يجري من تطورات في السودان. استقبلنا الأستاذ بهاء الدين بترحاب ودفء كبير في مكتبه بجريدة الأهرام، كنا ثلاثتنا، الأخوين الفاتح سلمان وصلاح جلال وشخصي كان هاشا باشا وهو ينظر إلينا بنظارته الطبية السميكة مستأذنا في أكواب من الشاي والقهوة ،وسرعان ما لبي الساعي المهمة.
بدأ مهتما بالاستماع إلينا عن وقائع ما يجري في السودان من قمع في تلك الفترة المبكرة من الانقلاب ومتتبعا لإجاباتنا على أسئلته حول التطورات الجارية، يبدو علي وجهه تأثرا غير مصطنع تلحظه من نظارته المنحية نحو انفه لما يسمع، استفرعن أوضاع بعض أصدقائه من السودانيين الذين هم قيد الاعتقال وتساءل عن ما إذا كان الصادق المهدي يواجه خطرا يهدد سلامته الشخصية ” مشيرا إلى أنه سمع في الأخبار عن تعرضه لمحاولة اغتيال صوري بقصد التهديد واجباره على توقيع بيان مؤيد للانقلاب .
لم يكن الأستاذ بهاء الدين مجاملا بقدر ما كان مهموما وهو الذي طالما كان بقلمه نصيرا للديمقراطية والحرية، لذا كان إيجابيا حين أعلن أمامنا أنه سيبدأ منذ اللحظة حملة يحتمها عليه واجبه القومي والوطني وارتباطه الخاص بالشعب السوداني. وقال انه من حسن الحظ سيلتقي مساء نفس ذاك اليوم الرئيس مبارك وعدد من المسؤولين. ويعتقد أن الوقت سيكون مناسبا لتقديم مبادرة لعمل شيء ما من أجل السودانيين وحض الجهات المعنية للتفاعل الايجابي الذي يحتمه الواجب.
طلب منا الأستاذ احمد بهاء الدين في ختام جلستنا معه أن نزوده بمجريات الأحداث والتطورات حول ما يجري في السودان أولا بأول مقدما إلينا مساعده في حال عدم وجوده بالمكتب.
ولم يخلف الأستاذ بهاء الدين وعده فقد كان تأثيره قويا وإيجابيا فسرعان ما استبانت المواقف ووضحت الرؤيا مناصرة لا لبس فيها للشعب السوداني .
بعد صراع مع المرض في 24 أغسطس 1996 رحل الأستاذ احمد بهاء الدين وبقيت مواقفه المضيئة وسيرته العطرة كعلم من أعلام الفكر والثقافة والأدب. وهي الذكرى التي ستنهل منها الأجيال المتعاقبة ما يروي ظمأ طلابها في شتي ضروب المعرفة كما بقي حاضرا في وجدان السودانيين حبا وتقديرا له .
لم يكن احساس بهاء الدين ناتجا عن فراغ فقد جرب القمع والسجن والابعاد عن عمله الصحافى وكان قلمه ممنوعاً من الكتابة في الصحافة المصرية، ضمن 120 كاتباً وصحافياً آخرين صدرت بأسمائهم قوائم متتالية ما بين شهري فبراير ومارس 1973 ايام عبد الناصر والسادات ضمت كتابا وصحافيين مثل يوسف إدريس ومكرم محمد أحمد ولطفى الخولى وثروت أباظة وأحمد حمروش وكامل زهيرى ومحمد عودة وفيليب جلاب وغيرهم، وصدرت توجيهات غير مكتوبة بمنع التعامل في الصحافة والإذاعة والتليفزيون مع كل من توفيق الحكيم ونجيب محفوظ.
وبعد التضييق عليه في مصر سافر أحمد بهاء الدين إلى بيروت واستمر فى مباشرة أعماله كأمين عام لاتحاد الصحفيين العرب وقبل أيام من اندلاع حرب أكتوبر قرر الرئيس السادات إعادة المبعدين من الكتاب والصحفيين إلى عملهم، وأعلن ذلك فى الخطاب الذى كان يلقيه سنوياً فى ذكرى رحيل جمال عبد الناصر يوم 28 سبتمبر، فعاد بهاء الدين إلى عمله لتشهد مفارقة أخرى هي أن يصبح خلال أسابيع قليلة موضع ثقة الرئيس السادات الكاملة، وأن يصدر خلال شهر فقط وفى يوم 23 مايو 1974 قراراً بتعيينه فى أهم موقع صحافى في البلاد وأكثرها حساسية وهو رئيس تحرير “الأهرام”.
صحيفة الوحدة
من خلال عدة حوارات ومناقشات دارت بيني وبين الاستاذ الفاتح سلمان انضم إليها الأستاذ مصطفى بكري مطلع التسعينات تولدت لدينا قناعة مشتركة بضرورة إصدار صحيفة أسبوعية سودانية مصرية تساهم في إثراء الوعي والإدراك الشعبي لما يجري في السودان في تلك الفترة ، كما تعمل على دعم العلاقات الأخوية بين الشعبين وتشكل مدخلا لقوى المجتمع المدني المصرية فتكفل الأخ سلمان بالعمل علي توفير كلفتها المبدئية لإصدار الأعداد الأولي التي قد تساهم بعد ذلك في توفير ما يضمن استمرارها من خلال الاشتراكات ودعم المهتمين من السودانيين خاصة في منطقة الخليج التي لمسنا منها تشجيعا مبدئيا بعد شرح الفكرة خاصة في الإمارات التي رحب عدد من السودانيين فيها بالفكرة وعلي رأسهم الاستاذ والناشط محمد عبد الباقي مسؤول حزب الأمة في منطقة الخليج الذي وجه لنا الدعوة لزيارتهم وطرح الفكرة تفصيلا .
محمد عبد الباقي يعتبر بمثابة الدينمو المحرك لكثير من التفاعلات والاتصالات خاصة مع ضباط القوات المسلحة الوطنيين من المعارضين سرا للانقلاب وذلك بحكم علاقاته الواسعة معهم وقد آثر دائما أن يكون بعيدا عن الأضواء وقد كان من أهم إسهاماته الاشراف على تنفيذ قرار حزب الامة بالترتيب لتأسيس هيئة القيادة الشرعية للقوات المسلحة من خلال الاتصالات مع عدد من الضباط داخل الخدمة وخارجها داخل السودان وخارجه ليصبحوا نواة للضباط الوطنيين بغية الحفاظ على قومية القوات المسلحة التي بدأ الانقلاب في تصفية ضباطها وقادتها للصالح العام وتشريد الوطنيين منهم .
في ضوء الشجيع والمساندة من عدد من المغتربين السودانيين أصبح ميلاد الصحيفة أمرا متوقعا حيث تمكنا بمساعدة الاستاذ مصطفي بكري الذي قبل تولى رئاسة تحرير الصحيفة من الحصول علي مكتب للصحيفة في موقع ممتاز في عمارة الثورة بشارع الألفي وهو المقر الذي انطلقت منه أولي الأنشطة الثقافية والسياسية السودانية في قلب القاهرة بعد أن كان مكتب الأستاذ فاروق أبوعيسي باتحاد المحامين العرب نقطة الانطلاق الأولي .
لم تمض أيام حتى أصبح مكتب صحيفة الوحدة وهو اسم الصحيفة الذي اخترناه قبلة للسودانيين والمصريين من المهتمين ، ومصدر يستقي منه الصحافيون المصريون والأجانب تفاصيل ما يجري من تطورات في السودان فيما أصبحت عمارة الثورة بشارع الألفي معلما بارزا للباحثين عن أخبار السودان .
استطاعت الصحيفة أن تجذب إليها كوكبة ممتازة من الكتاب والمحررين الذين وجدوا فيها منبرا للتعبير عن تضامنهم وتعاطفهم مع الشعب السوداني منهم الأساتذة محمد الحنفي مدير مكتب مجلة المجالس ومحمود بكري بصحيفة الشعب وجمال سليم بروز اليوسف وساهم أيضا بالعديد من مقالاته المرحوم الفريق محمود فوزي وزير الحربية المصري الأسبق ومن باريس فريدة الشوباشي الإذاعية المعروفة بإذاعة مونت كارلو ، د محمد عبد السلام من مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية، الأستاذ عادل حمودة روز اليوسف ورسامي الكاركاتير جمعة فرحات و عمرو سليم بالإضافة إلي مجموعة أخري مساعدة في السكرتارية والإدارة فيما كنت والأستاذ معاوية جمال الدين النصف السوداني المقابل من طاقم التحرير بالإضافة الي بعض الزملاء الصحافيين السودانيين الذين كانوا يتعاونون من وقت الي آخر من مواقع مختلفة .
ساهمت صحيفة الوحدة في إثراء التواصل الاجتماعي وتنمية العلاقات الأسرية المشتركة بين طاقمها من سودانيين ومصريين كما ساهمت في تهيئة الظروف والمناسبات التي عززت من هذا الهدف الذي كان من أهم ثماره أنه خلق نخبة مميزة من أدباء وكتاب وصحافيين متعاطفة ومساندة ومؤمنة بحتمية دعم وتطوير العلاقات السودانية المصرية من خلال منظور جديد يحقق مصالح الشعبين وينظر إلى المستقبل عبر آفاق جديدة.
لعبت صحيفة الوحدة رغم توقفها بعد ذلك بسبب تداعيات حرب الخليج الثانية وأثرها علي عملية التوزيع التجاري في الخليج دورا أساسيا في خلق منبر مصري سوداني عمق من أواصر الإخاء وقدم تعريفات إضافية لحيوية العلاقة التلقائية بين الأشقاء كما ساهم الرصيد المعرفي المتبادل الذي أوجدته أسرة صحيفة الوحدة في تقديم معان جديدة لمفهوم المصير المشترك ومدلولاته.
إلى جانب ذلك شهدت مدينة القاهرة في تلك الأيام صور من القصص التضامنية بعد أن تحولت إلى عاصمة ثانية للسودان في منتصف التسعينات تنتشر فيها المراكز الثقافية ودور الأحزاب السياسية السودانية ومعارض المبدعين السودانيين وعروضهم المواكبة للإيقاع السياسي المتسارع والندوات والمؤتمرات والكثير من ضروب الأنشطة المختلفة التي عّرفت الأشقاء المصريين بتفاصيل الحياة السودانية بكل جوانبها التي شملت حتي الثقافة الغذائية .
وكان لتضامن منظمات المجتمع المدني السودانية والمصرية والنقابات تحديدا مدخل لتواصل أوسع شهدت له نقابات واتحادات كاتحاد عمال السودان من خلال القيادات العمالية السودانية كالمرحوم محجوب سيد أحمد وعبد الوهاب عبد الغني والطاهر الرقيق وتجاني داؤود والمرحوم محمد حاج الأمين ورصفائهم من المصريين وعلي رأسهم الأستاذ أحمد العماوي وكذا الحال بالنسبة لنقابة الصحافيين السودانيين التي أنشأت لها فرعا في القاهرة أدارت من خلاله نشاطا واسعا بعد اعتراف إتحاد الصحافيين المصريين والعرب برئاسة الأستاذ إبراهيم نافع بها والتعامل معها كنقابة شرعية وكذلك الحال بالنسبة لاتحاد الصحافيين الأفارقة برئاسة الأستاذ محفوظ الأنصاري حيث كان يمثل مجلس النقابة في القاهرة برئاسة الأخ حيدر طه من الزملاء عوض أبو طالب وفيصل محمد صالح ومعاوية جمال الدين وحسن احمد الحسن ومحمد المصطفي الحسن ومعتصم حاكم والزين احمد محمد ، مراسل صحيفة الشرق الأوسط في القاهرة ونجاة عبد السلام وسكينة كمبال والاستاذ بدر الدين حسن على والاستاذ سامي سالم وعدد من أعضاء النقابة الذين توافدوا الي القاهرة تباعا.
وقد لعبت نقابة الصحافيين المصريين من خلال مجلسها ومنهم الأساتذة إبراهيم نافع و أمينة شفيق وجلال عارف وآخرين دورا تضامنيا مع الصحافيين السودانيين كما قدموا كافة أنواع الدعم المتاحة وفتحوا دور النقابة ووضعوا إمكاناتها تحت تصرف زملائهم السودانيين، ما مكّن فرع النقابة السودانية في القاهرة من المشاركة حتي في المؤتمرات الإقليمية والدولية ومؤتمرات اتحاد الصحافيين العرب والأفارقة كل علي حده .
الزميل حسن أحمد الحسن مع محفوظ الانصاري رئيس اتحاد الصحافيين الأفارقة
ولم تكن نقابة المحامين السودانيين بقيادة الأستاذة فاروق ابوعيسى وأمين مكي مدني وهاشم الرفاعي وعبدالمجيد وصفي بعيدة عن ملحمة التواصل المصري السوداني المدني فقد قدم لها إتحاد المحامين العرب بكامل أعضائه الدعم الكامل حيث أسهمت بعد تزايد أعداد المحامين السودانيين في القاهرة في وضع العديد من المشاريع القانونية وأسهمت بتقديم الاستشارات القانونية والدستورية لدفع عمل المعارضة بكل أشكاله القانونية ورغم الدور المميز الذي لعبه الأستاذ فاروق أبوعيسي الأمين العام بحكم منصبه في تلك الأيام وموقفه الوطني إلا أن الدور الذي تبناه المحامون المصريون في كافة محافلهم برئاسة الأستاذ المرحوم أحمد الخواجة وكوكبة من كبار رجال القانون في مصر في دعم قضية الشعب السوداني كان الأكثر إيقاعا وتأثيرا أذكر منهم علي سبيل المثال الأساتذة يحيى الجمل وتهاني الجبالي وأحمد المغربي وآخرين لا يتسع المجال لسرد أسمائهم .
كما لعبت منظمات شعبية أخرى كمنظمة وآدي النيل التي تولى إدارتها توفيق بيومي والتي ضمت معظم الشخصيات السودانية والمصرية على رأسها الأستاذ ميلاد حنا وجمعية التضامن السودانية المصرية برئاسة الأستاذ أحمد حمروش ومن الجانب السوداني احمد السيد حمد وعبدالله عبيد وعلى ابوسن وطه إبراهيم وتجاني سيسي ومهدي داؤود وشخصي وعدد آخر والتي أقامت العديد من المنتديات والمؤتمرات والأنشطة الفكرية. ولأول مرة في تاريخ العلاقات المصرية السودانية تتفاعل الأحزاب المصرية مع الهم السوداني فضلا عن منظمات حقوق الإنسان وحلقات المبدعين التشكيليين ومنتديات الباحثين في كليات العلوم السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي استضافتها قاعات جامعة القاهرة ومبني جريد الأهرام ومركز بن خلدون فضلا عن المراكز والدور السودانية المتنوعة المتناثرة في القاهرة.
في هذا المناخ كانت تفاعلات وإسهامات عدد من الصحافيين المصريين قد بلغت حد الانتماء العضوي للسودان وأهله وهمومه وتحدياته.
فقد برزت أسماء وشخصيات قدمت الكثير والمثير تضامنا مع الشعب السوداني ضمت الصحافيين العاملين في الوكالات المختلفة المعتمدة في القاهرة ومن خلال جمعية المراسلين الأجانب منهم من الزملاء الذين تركوا بصماتهم واضحة الدكتورة سامية عباس مديرة التحرير بالقسم الدبلوماسي بوكالة الشرق الأوسط حتى انتقالها إلى احدي الدول الأفريقية وقد تفاعلت مع الشأن السوداني الى حد بلغ التصدي الحاد للمسؤولين السودانيين الذين زاروا القاهرة في تلك الأيام.
ومنهم الأساتذة طارق حسن، ومحمد حمدي، وأماني الطويل ومجدي الحسيني بالأهرام ، مكرم محمد أحمد ،وحمدي رزق بالمصور، وبسيمة نفادي وعباس الطرابيلي و سعيدة رمضان، ومحمد عصمت بالوفد ،وفريدة النقاش وأمينة النقاش وحسين عبد الرازق، والمرحومين لطفي واكد ،ولطفي الخولي وفيليب جلاب، وأحمد مجاهد والمخرج السينمائي توفيق حمزة وأسماء أخرى عديدة من محرري الصحف القومية الأخرى من متابعين ومهتمين .
أماني الطويل
ومنذ منتصف التسعينات انفتحت وسائل الإعلامية المصرية على الشأن السياسي السوداني حيث أجرت العديد من اللقاءات والحوارات مع قادة المعارضة السودانية من أبرزهم الصادق المهدي الذي استقر في القاهرة بعد خروجه الشهير من السودان عام 96 كألمع نجم سوداني في سماء فضائيات القاهرة وكان ضيفا محتفى به في جميع المحافل الثقافية والفكرية والسياسية والدبلوماسية تبارت القنوات المصرية والعربية في استضافته على شاشاتها حول الأزمة السودانية وقضايا المنطقة مما شكل ضغطا نفسيا كبيرا لنظام الانقاذ.
أسماء الحسيني
وانضم جيل جديد من الصحافيين والإعلاميين على رأسهم الزميلة أسماء الحسيني التي استطاعت أن تسجل حضورا وتبني بنجاح جسورا مع كل ألوان الطيف السياسي السوداني في القاهرة والخرطوم حكاما ومعارضين وأن تبني صداقات حميمة مع قطاعات الصحافيين السودانيين والكتاب والمثقفين والناشطين في مختلف مجالات العمل المدني والسياسي والثقافي . وأن يمتد اهتمامها ونشاطها بالسودان الذي طافت العديد من أقاليمه إلى مجالات خدمية وإنسانية في دارفور وغيرها .
كما كان للجهد المقدر لعدد من الباحثين في مركز الأهرام للبحوث والدراسات وفي مقدمتهم الدكتور السيد ياسين صلاح الدين حافظ هاني رسلان وعدد من الباحثين في المركز ، إلى جانب كوكبة من العلماء في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة منهم على سبيل المثال لا الحصر الأساتذة
د نازلي معوض عميدة الكلية ، د إجلال رأفت ، د حسن نافعة ، د سيد فليفل د يونان لبيب رزق د أنور عبد الملك وآخرين أو في مجلس السياسة الخارجية الذي يضم عشرات السفراء والدبلوماسيين المصريين والجمعية الأفريقية والعديد من المؤسسات الأكاديمية والثقافية في القاهرة كان لكل هؤلاء دورهم في التعريف بتعقيدات الملف السوداني ودقائقه كما فتحو ابوابهم للقيادات السودانية للحوار والنقاش حول العديد من الملفات.
وأحسب أن السودانيين في مختلف الأحزاب والمنظمات السودانية ممن شهدوا وقائع تلك السنوات يختزنون في ذاكرتهم الكثير من هذه المشاهد المشرفة التي ساهمت في إزالة الركام والغمام وأكدت على الكثير من معاني التواصل التلقائي والحقيقي بين المصريين والسودانيين دون تكلف أو مجاملة. لقد كان للقاءات المكثفة التي جمعت بين السودانيين والمصريين اثر هام في الكشف عن آخر التطورات والمعلومات حول ما يجري في السودان، ما أسهم في التأثير الإيجابي على الرأي العام المصري والعربي ولعب عدد من الفنانين أيضا جهدا محل تقدير من خلال العديد من المنتديات منهم محسنة توفيق وعزت العلايلي وسمير إسكندراني وسهير المرشدي وكرم مطاوع وعبد الرحمن الأبنودي وعطيات الأبنودي وكوكبة أخرى مميزة .
أحمد حمروش
وفي منظمة التضامن المصرية شكلّ الأستاذ أحمد حمروش المنظمة المصرية السودانية للتضامن وجعلها حقيقة مادية من مقر المنظمة بشارع أبي المحاسن المتفرع من القصر العيني. فقد تجسدت لجنة التضامن مؤسسياً قبل كونها برنامجا شعبيا. ويتكامل مع ذلك دور المنظمة العربية لحقوق الإنسان بقيادة الأستاذ محمد فائق مع سائر المنظمات الأخرى والنقابات المهنية والمراكز البحثية الراصدة والمدافعة عن حقوق الإنسان.
وشهدت قاعة مركز ابن خلدون برئاسة د سعد الدين إبراهيم في جبل المقطم العديد من الحوارات والمناظرات المميزة حول الشأن السوداني والدور المصري والرؤية المستقبلية للعلاقات بين الشعبين .
خلية النشاط
الامام الصادق المهدي و الصحافي المخضرم عبدالله عبيد في القاهرة
على الصعيد السياسي في القاهرة السوداني بادر حزب الأمة منذ بداية التسعينات قل غيره من القوى أو المجموعات سياسية نشاطا إعلاميا مميزا من مقر مكتبه الإعلامي بشارع الألفي، باستثناء نشرة تعنى بحقوق الانسان كان يصدرها اتحاد المحامين العرب تسلط الضوء على تجاوزات النظام في السودان .ساند حزب الامة و ساهم في ذلك النشاط مجموعة من الصحافيين والناشطين المعارضين وقام المكتب بإصدار كتب ومجلات ونشرات وصحف ومطبوعات عديدة بإشراف الأستاذ السر احمد قدور بالإضافة للأنشطة الثقافية والفنية والتضامنية مع الجمعيات والمنظمات المصرية المختلفة .
اما سياسيا فقد اتسعت قائمة قيادات وكوادر حزب الامة في القاهرة والتي انطلقت بمهدي داؤود وحسن احمد الحسن وصلاح جلال والفاتح سلمان وبشير على آدم في بداياتها لتضم قيادات جديدة ضمن مكتب القاهرة وفدت للقاهرة من لندن في تلك الفترة المبكرة منهم احمد عقيل ممثل الحزب في لندن قبل عودته إلى مقره ومامون شرفي ورشيدة عبد الكريم وتجاني السيسي واحسان كزام سهام ابراهيم وحسن عبدالله ويوسف حسن وثريا ابراهيم عامر نورين ورقية عبد القادر، محمد عبد الوهاب ، تجاني داؤود ، الطاهر الرقيق، ثم تمددت لتضم القيادات الطلابية التي خبرت القاهرة من الشباب والشابات الذي حملوا مشعل النشاط في كافة المنابر منهم على سبيل المثال لا الحصر بازرعة على العمدة وعبدالحفيظ عباس وعباس الفكي وعاطف زكريا وصديق مساعد الفاتح الرشيد ،الصادق البشير والكوادر القيادية من خريجي الجامعات المصرية والعشرات من الكوادر الشبابية والتنظيمات النسوية والانسانية والطلابية والقيادات التي وفدت من السودان ومن السعودية والخليج من الجنسين ممن ابلوا بلاءا حسنا وأضافوا بعدا حيويا للنشاط السياسي والاجتماعي والتي لا يتسع المجال لذكر اسمائها من القيادات الشبابية والنسوية ثم وفدت قطاعات العمال والمهنيين والموسيقيين والنقابيين والاكاديميين المنتمين لحزب الامة حيث اصبحت القاهرة ملاذا لمئات الناشطين من حزب الأمة والاف الناشطين في القوى السياسية الأخرى في اطار نشاط المعارضة السودانية .
هذا الحضور المكثف افرز الحاجة إلى تنظيم هذه القطاعات في اطار منظمات مدنية متخصصة.
ومن السابقين من أوائل المعارضين في بدايات تكوين اول حلقة للمعارضة في القاهرة إلى جانب حزب الامة الذي مثله مهدي داؤوود وحسن أحمد الحسن ثم لاحقا صلاح جلال الاخوة الاتحاديين وفي مقدمتهم الأخ بكري النعيم، أحمد السنجك وعلى أبو سن والسيد محمد الحسن عبدالله يسن الذي شهدت داره الاجتماعات الأولى قبل ان تنتقل الاجتماعات إلى شقة احمد السنجك ثم بكري النعيم وأبو سن من وقت لآخر وقد شارك أيضا في تلك الاجتماعات الأساتذة محمد وردي وطه ابراهيم المحامي والأستاذ محمود زروق وتوالى بعد ذلك ممثلو الأحزاب والنقابات والتكوينات الاجتماعية والمهنية كحيدر إبراهيم الذي شارك في عضوية لجنة الاعلام قبل إنشاء مركز الدراسات السودانية والذي تم في بداياته في القاهر برعاية مباشرة من بعض الأحزاب والقيادات السياسية وفي مقدمتهم السيد الصادق المهدي من خلال دوره الفكري المنبري في المركز.
دور منظمات المجتمع المدني
وبعد منتصف التسعينات وبتزايد موجة القادمين إلى القاهرة من السودانيين وتوسع القاعدة الاجتماعية للمجموعات السودانية بمختلف مكوناتها السياسية انتشرت منظمات المجتمع المدني السودانية في أنحاء القاهرة فتأسس المركز السوداني للثقافة والإعلام برئاسة الأخ زين العابدين صالح واحمد البكري ويحي فضل الله ونخبة من المسرحيين والتشكيليين السودانيين ثم المنظمة السودانية لحقوق الإنسان برئاسة الدكتور حمودة فتح الرحمن ثم مركز الدراسات السودانية برئاسة الدكتور حيدر إبراهيم – مجموعة الموسيقيين برئاسة الموسيقار الفاتح كسلاوي – منظمات المرأة السودانية – منظمات الطلاب – مجموعات رجال الأعمال – مجموعة أساتذة الجامعات وفي مقدمتهم البروفيسور فاروق محمد إبراهيم والدكتور الواثق كمير – المحامون – الأطباء وعدد من المنظمات الطوعية الإنسانية التي تساعد بعض اللاجئين كما عقدت العديد من المؤتمرات المتخصصة ضمن ايجاد برامح مستقبلية للسودان .
وأصبح مقر صحيفة الخرطوم بعد اعادة إصدارها من القاهرة في قاردن سيتي مقرا للصحافيين السودانيين ومساهماتهم كما أضفى وجود الأساتذة فضل الله محمد والباقر احمد عبدالله والسر قدور ومجموعة الصحافيين والمحررين وهجا خاصا على مقر الصحيفة منهم عوض أبو طالب – محمد مصطفى الحسن – فيصل محمد صالح – حيدر طه – محمد دسوقي – أحمد عبد المكرم – مزمل المقبول – وديع خوجلي – سكينة كمبال، نجاة عبد السلام معاوية جمال الدين – وبقية الزملاء من الصحافيين المتعاونين بأقلامهم ومنهم سامي سالم وبدرالدين حسن على – والمخرجة حورية حاكم وآخرين .
ومع توسع نشاط المعارضة ضمت القاهرة أيضا في تلك الفترة شخصيات سودانية مميزة من مثقفين ورجال أعمال أسهموا بطرق مختلفة بعيدا عن الأضواء في دعم انشطة المعارضة وتعزيز الصورة الإيجابية للسودانيين في المجتمع المصري منهم كمال ابراهيم احمد ، محمد عثمان صالح ، قنجاري ، كمال محمد عثمان صالح ، د سيد محمد عثمان ، اسماعيل المهدي وغيرهم من رجال الاعمال ووجوه ثقافية وفنية كالأساتذة يونس ، والشاعر الشعبي الزين الجريفاي ،واحمد الفرجوني ،والفنان الموسيقار محمد وردي الذي جعل من منطقة حلوان مقرا له قبل مغادرته إلى أميركا .
أما سياسيا فقد أصبحت دور حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي في مصر الجديدة وميدان الحجاز مقرات يومية للسودانيين وأنشطتهم السياسية والاجتماعية والثقافية شملت اللقاءات التنويرية لقادة المعارضة في كل مراحل عمل المعارضة في تلك الحقبة وحفلت بالمهرجانات والندوات والمعارض الثقافية والمناسبات الاجتماعية.
وقد نجحت مكاتب حزب الأمة المتخصصة في القاهرة بشهادتين سودانية ومصرية في قيادة وإدارة النشاط السياسي والإعلامي والثقافي المخطط والممنهج وتسجيل اختراق اجتماعي نوعي في المجتمع المصري، ما ساهم في دفع وتشجيع قيام دور مماثل مع اختلاف درجته من الاخوة الاتحاديين تأثرا بحزب الامة بقيادة الزملاء محمد المعتصم حاكم واحمد السنجك وميرغني مساعد في دار الحزب الاتحادي أسهم في دفع وتطوير نشاط دار الحزب بدرجة مقدرة .
أما في العاصمة الاريترية أسمرة فقد غلب الطابع العسكري على وجود السودانيين بحكم وجود معسكرات فصائل المعارضة في منطقة هايكوتا على الحدود الشرقية السودانية الإريترية. بالإضافة لنشاط إذاعة المعارضة.
ومثل نشاط الاذاعة ولقاءات قادة المعارضة الوجه المدني الوحيد ورغم انعكاس خلافات فصائل المعارضة على نشاط الإذاعة إلا ان بداياتها قد حققت نجاحا وتجاوبا من المستمعين في مساحات واسعة من السودان وقد جاءت فكرة الإذاعة بعد نجاح مؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية والدور الكبير الذي لعبه الأخوان مبارك المهدي و الراحل د عمر نور الدائم في اقناع القيادة الاريترية بانطلاق اذاعة سودانية معارضة من اريتريا حيث تم تكليفي والأخ ياسر عرمان ممثل الحركة الشعبية من قبل الدكتور عمر نور الدائم بلقاء الأمين العام للجبهة الشعبية السيد الأمين محمد سعيد، للبدء في تنفيذ مقررات أسمرة و بحث موضوع الإذاعة معه تفصيلا .
رحب بنا الأستاذ الأمين محمد سعيد في مكتبه بمقر الجبهة وابلغنا الموافقة على إعطائنا موجة للبث وطلب منا مناقشة التفاصيل مع وكيل وزارة الإعلام الاستاذ محمد بادوري بعد ذلك اللقاء الفني ، تم تخصيص استديو لنا بمعاونة مهندس صوت اريتري وبدأ التحضير للبث التجريبي بمشاركة عدد من الزملاء كممثلين لفصائلهم منهم محمد عثمان من الحزب الاتحادي والموسيقار عبدالرحمن عبدا لله من الحزب الشيوعي وممثل آخر للحركة الشعبية ألير، بدأت مرحلة الإعداد والبث التجريبي . لتنطلق الإذاعة في رسالتها بعد ذلك بإدارات في مراحل عمل المعارضة المختلفة بسياسات اخرى وزملاء آخرين .
مصر تفتح منابرها بعد محاولة اغتيال مبارك
اما مصر الرسمية فقد فتحت أيضا منابرها الاعلامية للمعارضة بصورة اكثر وضوحا في اعقاب محاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك في اديس ابابا في نفس العام الذي عقدت فيه المعارضة مؤتمرها في اسمرة عام خمسة وتسعين والتي اتهم بها النظام السوداني كرد فعل غاضب .
زيارة قرنق للقاهرة ودور “الأمة”
سياسيا وبعد مجهود كبير ومتصل بذله حزب الامة مع المصريين رحبت مصر باستقبال الدكتور جون قرنق في القاهرة لأول مرة ومخاطبة الرأي العام السوداني من خلال قاعة مركز المؤتمرات بمدينة نصر وقد كانت مصر تنظر إلى قرنق بعين الشك والريبة لفترة طويلة، الأمر الذي شكل اختراقا كبيرا لصالح المعارضة، رغم ان العلاقة بين قرنق وحزب الامة تعرضت فيما بعد لكثير من سوء الفهم والمشاحنات السياسية لدوافع شتى عززه الطموح المتنامي لدور الحركة القيادي والذي كانت تسعى من خلاله لتحقيق اهدافها واجندتها التي تجلت فيما بعد بابرام اتفاق ثنائي مع النظام قاد إلى انفصال جنوب السودان.
بدأت القنوات الفضائية المصرية والعربية تتسابق كما أشرت لذلك في إجراء مقابلات تلفزيونية حول الأوضاع في السودان مع زعماء المعارضة كما ظلت الدعوات تتوالي من منظمات المجتمع المدني المصرية والأندية الثقافية والاجتماعية المصرية وجامعة القاهرة ومنتديات الدبلوماسيين والمبدعين للمهدي لإلقاء محاضرات ولقاءات حول مختلف القضايا.
قد ساهم هذا الحراك المتصل في تقديم صور حية عن المشهد السوداني لشريحة هامة من المصريين لأول مرة في تاريخ العلاقات المشتركة بين البلدين على مسرح القاهرة حول المكونات ورؤى واتجاهات المواطنين السودانيين المختلفة، الأمر الذي خلف رصيدا جيدا لأي عمل تكاملي مستقبلي بين البلدين بغض النظر عن طبيعة الأنظمة الحاكمة في كليهما.
لقد انتجت حقبة التسعينات سودانا مصغرا في قلب القاهرة بكل اطيافه وتوجهاته والوانه واجتهاداته ومبادراته رغم ان هذا الطيف لم يحقق أهدافه المعلنة في نهاية المطاف بل انتهى إلى عودة مجانية للبلاد باستثناء من راوا أن يسدلوا على حكاياتهم ستارا من الغربة الكثيفة المجهولة الإياب، يحملون تاريخهم على اكتافهم إلى جغرافيا ومدن جديدة.
يوسف الشريف عمدة السودانيين في مصر
يوسف الشريف
الكاتب والصحافي المصري يوسف الشريف من الخبراء الحقيقيين بالشأن السوداني وبتفاصيل الحياة السودانية ، وذلك لعدة اعتبارات ،اولا لحبه للسودانيين وثانيا لإيمانه بالوحدة بين الشعبين المصري والسوداني، وثالثا لصلاته العائلية المباشرة. وهو كاتب مرموق في مصر ينبض قلبه بروح قومية عالية لا تغفل المتغيرات ولا تتجاوز الواقع لذا كان من الطبيعي أن يلقبه بعض السودانيين بعمدة السودانيين في مصر .
كان يتردد على السودان في معظم المناسبات العامة والاجتماعية والأسرية ويمتاز بعلاقات وثيقة مع معظم السودانيين مع اختلاف مدارسهم الفكرية والسياسية وله كتابات حول السودانيين وعاداتهم وحول علاقاته بالسودانيين .
تعمقت علاقتي به أكثر عندما عملت معه محررا للشؤون السودانية في مكتب صحيفة الشرق القطرية الذي يديره في القاهرة عند مطلع التسعينات إلى جانب دوره ككاتب في مجلة روز اليوسف وعدد من الصحف والدوريات .
ومنذ اتخذت المعارضة السودانية من القاهرة منطلقا لأنشطتها السياسية والفكرية والثقافية نشط يوسف الشريف في عقد الندوات واللقاءات في أروقة النخبة المصرية والتي يدعو لها الناشطين السودانيين حول قضايا العلاقات السودانية المصرية والأوضاع السياسية في السودان وكان كثيرا ما يلقي باللائمة على النخبة المصرية لتقصيرها في فهم الشخصية السودانية وما يجري في السودان.
وقد عبر يوسف الشريف عن هذه الانتقادات في كثير من المنابر المصرية خاصة من خلال منبر نقابة الصحفيين المصريين.
وقد حاول من خلال كتابه “السودان وأهل السودان ” ان يقدم صورة لقيم السودانيين وتقاليدهم واتجاهاتهم وروابطهم الاجتماعية بمصر. كما سجل يوسف الشريف الكثير من حكاياته في ذلك المؤلف الذي صدر في القاهرة في أكثر من طبعة .
في ندوة عقدت بنقابة الصحفيين في القاهرة ضمن أنشطة ” منتدى محمد عودة بالتضامن مع نقابة الصحفيين السودانيين ” أدارها الأديب المصري بهاء طاهر قال الشريف إنه زار السودان نحو خمسين مرة وفي كل مرة يختلف مع السفارة المصرية في الخرطوم لان الدبلوماسيين هناك لا يعرفون السودانيين ولم يدخلوا بيت أحدهم مشيرا إلى أنه فوجئ بأن مسؤولا سابقا لشؤون السودان بالخارجية المصرية لم يقرأ كتابا واحدا عن السودان.
ودعا الى ضرورة صياغة استراتيجية ثابتة لا تخضع للعواطف ولا تتأثر بتغير الحكومات ضمانا لعلاقات قوية بين مصر والسودان.
وأبدى دهشته من معرفة كثير من المصريين بقضايا دولية وعربية في أوروبا والخليج في حين لا يعرفون شيئا عن السودان، مستشهدا بأن الكاتب محمد حسنين هيكل زار السودان عام 1953 ثم زارها مرة ثانية في الستينيات بصحبة الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر وهى زيارة اعتبرها سريعة وغير كافية مثل زيارة الدكتور محمد حسنين هيكل التي سجلها في كتابه عشرة أيام في السودان.
ولا يكف يوسف الشريف عن انتقاداته رغبة منه في حث المصريين على التواصل والتعارف مع أشقائهم، فقد أشار في نفس المنتدي في معرض مداخلته أن كثيرا من المثقفين والفنانين المصريين مثل نجيب محفوظ ومحمد عبد الوهاب لم يزوروا السودان الذي احتفى شعبه بأم كلثوم مثل استقباله لعبد الناصر واستقبلها استقبال الفاتحين حين ذهبت للغناء في السودان نهاية الستينيات.
وقال الشريف ان أم كلثوم سألته في القاهرة قبل الزيارة التي طلبت أن يصطحبها فيها عن ذوق السودانيين في الغناء والموسيقى فقال لها ان تذوق الغناء السوداني معيار لفهم الشخصية السودانية التي تميل الى الايقاع الراقص السريع واستجابت أم كلثوم حين غنت “هذه ليلتي” التي رقص على موسيقاها الجمهور السوداني بعد زيادة الإيقاعات الراقصة في اللحن.
وأشار إلى أن زيارة أم كلثوم كانت فتحا مبينا فما فعلته أم كلثوم في السودان لم تفعل مثله الثقافة ولا الدبلوماسية المصرية.
وكثيرا ما يردد يوسف الشريف أمام زواره علاقات عبد الناصر بالسودانيين منذ أن كان ضابطا في السودان قبل الثورة وقد دون العديد من هذه القصص في كتابه حول السودان.
يوسف الشريف من الناصريين التجديديين الذين يرون أن الديمقراطية وحقوق الإنسان هي مرحلة تتصل بالناصرية ولا تتناقض معها وقد كان يعتبر الأستاذ محمد حسنين هيكل أحد أساتذته الذين يدين لهم بالولاء كامتداد للمدرسة الناصرية التي أصبحت اليوم تجتهد اليوم في بلورة نفسها من جديد لتتواءم مع احتياجات العصر .
في يوم من ايام صيف عام 96 كنت أتجاذب أطراف الحديث مع الأستاذ يوسف الشريف في مكتب صحيفة الشرق القطرية بالدقي، طرح علىّ وهو يدخن بشراهته المعهودة ما وصفه بمبادرة لكسر الجمود في العلاقة بين محمد حسنين هيكل والنخبة السودانية وكان يوسف من المقربين لهيكل مثلما كان مقربا ومحبا للسودانيين ويعتبر نفسه واحدا منهم لما يربطه بهم من علاقات مصاهرة وصداقات قديمة فاتفقنا على تحقيق ذلك الهدف . كلفني يوسف بالاتصال بنخبة من السودانيين الموجودين في القاهرة في تلك الأيام والتزم هو بطرح الفكرة على هيكل وتحديد موعد للقاء به وبالفعل فقد تمكن من إقناع هيكل بفتح ملف علاقاته مع السودان . وتم اتفاقنا أن ندعو عددا محدودا من المهتمين حيث شملت الدعوة الدكتور عمر نور الدائم الذي تصادف وجوده في القاهرة قادما من أسمرة التي يتخذها مقرا له وكل من الأستاذة على أبوسن ، الدكتور حيدر إبراهيم والأستاذ فضل الله محمد .
قمت بنشر محصلة اللقاء الذي عكفت على تدوين حيثياته خلال اللقاء في صحيفة الشرق القطرية كما قام الأستاذ يوسف الشريف بنشره على صفحات مجلة روز اليوسف وعدد من الصحف المتخصصة .
حوار هيكل والمعارضة
هيكل
كان لقاؤنا بهيكل في ضحى يوم 26 يونيو 1996 في مكتبه بكورنيش النيل حيث قدم الأستاذ يوسف الشريف لذلك اللقاء ونحن جلوس في مكتب الأستاذ بمقدمة مطولة قال فيها نصا :
” منذ 46 عاما بالكمال والتمام توقف الأستاذ محمد حسنين هيكل عن الكتابة في شئون السودان، واحتجاجا ضمنيا إزاء الحساسية المتواترة لدي البعض من الأشقاء في الجنوب حين يهم أشقاؤهم في الشمال إلي الكتابة التي لا تروقهم عن أوضاع السودان!.
وكان الأستاذ هيكل قد كتب مقالا شهيرا في «الأهرام» إثر اندلاع ثورة أكتوبر 1964 في السودان تحت عنوان «ثم ماذا بعد؟» خرجت في أعقابه المظاهرات العارمة إلي شوارع الخرطوم صوب مقر صحيفة «الأهرام» والسفارة المصرية تعلن غضبها المستطير، حتي أمكن احتواء ما لا تحمد عقباه.. وبعدها تحقق ما ذهب إليه هيكل في مقاله!.
ولعله نفس رد الفعل الغاضب الذي صادف كتاب «عشرة أيام في السودان» للدكتور محمد حسين هيكل باشا في الأربعينيات، حيث انبري له السودانيون بالنقد والتقريع!.
لعل من هنا ظل الأمر يراودني دوما لإقناع أستاذنا هيكل لعله يلقي بثقله وثاقب فكره جديدا في خضم القضايا والمشكلات المدلهمة في السودان، لكنه آثر أن يكتفي كلما جلست إليه بالاستماع إليها، وتوجيه تساؤلاته الذكية عنها، حتى أدركت كم هو متابع دؤوب له، وكم لديه من المعلومات الطازجة والمهمة عما يجري في السودان وحوله من تطورات خطيرة!.
علي إنني في يونيو عام 1996 عرضت علي الأستاذ هيكل فكرة أن يلتقي بعدد محدود من المثقفين السودانيين ومن رموز المعارضة لحكومة الإنقاذ ( حكومة عمر البشير)، فلعل لديهم جديدا يراكم من معلوماته حول ما يجري في السودان، وفكر قليلا وقال: لك ما أردت وعلي الرحب والسعة!.
ونلتقي اليوم في هذه «الفراندة» الزجاجية الملحقة بمكتب الأستاذ والمطلة علي النيل ونحن نرقب تدفق مياهه العذبة وهي تحمل الخير والنماء من الجنوب إلي الشمال، بينما نحن نجتمع اليوم وبيننا «الأستاذ» وضيوفه من أهل السودان وهم الدكتور عمر نور الدائم الأمين العام لحزب الأمة والدكتور علي أبوسن السفير السابق والدكتور حيدر إبراهيم رئيس مركز الدراسات السودانية وفضل الله محمد رئيس تحرير صحيفة «الخرطوم» والأستاذ حسن أحمد الحسن مراسل وكالة «يونايتدبرس» بالقاهرة!. وانفتح باب الحوار :”
ثم جاءت تفاصيل الحوار كالاتي :
بادر الدكتور عمر نور الدائم إلي مدخل للحوار، عرض فيه لبانوراما الساحة السياسية في السودان، وأحاطه بالمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية التي أفرزتها مناهج وسياسات “الإنقاذ”، وما طرأ من المتغيرات السلبية في علاقاته بدول الجوار ومشكلة الجنوب السوداني بوجه خاص، ثم طالب بضرورة أن يولي الأستاذ هذا الواقع الجديد قدرا من فكره وجهده وقلمه بقدر أهمية السودان بالنسبة لمصر علي الصعيد السياسي والشعبي والاستراتيجي.
هيكل: كتبت مقالي «ثم ماذا بعد؟» وهو كان أول تناول لي حول قضايا السودان الحديث، فأثارت هذه المقالة كثيرا من الزعل، وأنا لدي كثير من الزعلانين الذين لا أود أن أضيف إليهم المزيد!.
نورالدائم: الواقع السياسي والفكري والمعرفي السائد الآن في السودان حكايات يفرض تناوله بصورة واضحة عبر إسهاماتك القيمة في معالجة هذه المتغيرات علي مدي 30 عاما مضت، نحن نريد لمصر أن تلعب دورا مهما ورائدا كما عودتنا دوما في المنطقة وهي مؤهلة لذلك، ولأن تصبح كما حدث في شرق آسيا وعلي غرار تجربة اليابان في حشد إمكاناتها وطاقاتها حتي تنهض بالمنطقة!.
هيكل: أنتم تتحدثون كلاما غير صحيح.. التراكم المادي أو الحضاري لليابان مختلف في المواريث.. لذا فإن المقارنة بينها ومصر غير واردة!.
قاطعه علي أبوسن وقال: لا شك أن غياب كتاباتك عن السودان قد انعكس تلقائيا علي الصحافيين المصريين، بل وأصبحت سنة علي حد ما أكده لي الأستاذ أنيس منصور عندما سألته عن عدم كتابته حول أوضاع السودان.. وقال «إنهم سيلعنونني» أنتم يا أستاذ هيكل تتحملون مسئولية كبيرة في عدم الكتابة عن السودان، فأنت رمز قومي كبير، ولا يجوز أن تعاقب الشعب السوداني بالسكوت والإمساك عن الكتابة حول قضاياها، وربما الوحيد الذي صمد من الصحافيين في علاقته بالسودان هو الأستاذ يوسف الشريف علي مدي 40 عاما وقدم مؤخرا كتابه «السودان وأهل السودان»، نحن بالطبع سعداء بالجلوس معك، فأنت دون شك بحضورك تفعل، وبغيابك تفعل، وأنت الآن غائب عن الساحة السودانية، وبغض النظر عن ردود أفعال الآخرين.. يظل هناك الكثرة من الرجال في مصر والسودان الذين يمثلون ضمير الأمة وأنت علي رأسهم (دون منازع) ونحن نريد اليوم عقد مصالحة تاريخية معك، ونريد أن تستجيب لهذا الرجاء بإلقائك نظرة شاملة ومتعمقة لدعم الوحدة الحقيقية بين شعبي وادي النيل!.
د. حيدر إبراهيم: هناك مثل سوداني يقول: «فلان مثل شجر الدليب» أي أنه يرمي بظله بعيدا، وأخشي أن يكون الأستاذ هيكل يرمي بظله بعيدا عن السودان، وهذا بالطبع خلل في العلاقة، ليست فقط لدواعي القربي بل للعوامل الاستراتيجية في العلاقة السياسية والثقافية، فإذا كانت هذه الدواعي لا تستقطب انتباه الأستاذ هيكل واهتماماته الصحافية وشواغله الفكرية، يكون هنا إذا ما أقصده من خلل و.. اسمح لي بالاستطراد، فأنا أري مصر تبحث عن دورها شمالا وشرقا وكأنها تقلل من دور السودان، بينما المتعين أن تضطلع بمسئوليتها ودورها في السودان العربي والإفريقي في السودان وهذا الدور الغائب الآن للأسف الذي كان موضع عناية جمال عبدالناصر في كتاب «فلسفة الثورة»؟!.
دور مصر المقدر والمتاح ليس في الشرق الأوسط أو الأقصى فحسب، وإنما في إفريقيا علي وجه اليقين. مصر عندما تحاول نسج خيوط علاقاتها مع دول البحر الأبيض مثلا، ينظرون إليها كدولة أقل أو أدني كما هو الحال بالنسبة للسودان، ولا يسمحون لنا إلا بدور التابع، هذه الصورة موجودة حتي بالنسبة لنظرة دول الخليج لمصر برغم كل ما قدمته مصر من تضحيات علي صعيد تحررها وتقدمها!.
هنا حاول بعض الحضور مقاطعة د. حيدر إبراهيم لكن الأستاذ هيكل طالبه بالاستمرار في عرض رؤاه مكتملة.. وقال: السودان ومصر إذن لهما مصلحة استراتيجية مهمة جدا لا خلاف حولها، وهو مكسب كبير للدائرة الإفريقية، وتأثير واضح ومؤكد فيما لو أحسن توظيفها.
هناك جانب آخر في العلاقة بحاجة إلي إيضاح وتصويب، هناك من يكتب عن المجتمع السوداني من إخواننا المصريين، لكنهم رغم قربهم جغرافيا من السودان إلا أنهم أبعد ثقافيا، بمعني أن هناك تعثرا في فهم الشخصية السودانية، فحساسية السودانيين تفسر من منظور خاطئ، بينما السودانيون لديهم حس ديمقراطي ولدي المتعلمين وحتي البسطاء منهم ولع بالحوار، وهذا المفهوم الخاطئ شكل حاجزا لا مبرر له، وإذا كان السودانيون لا يقبلون من يمتن عليهم أحد، فهذه حساسية معاكسة من جانبهم.
د. علي أبوسن أود التعليق علي ما كتبه المؤرخون العرب والأجانب حول تزامن اندلاع الثورة المهدية في السودان، وأضاف أن أول شهيد في المهدية كان مصريا اسمه أحمد العوام وهو كان مستشارا للإمام المهدي، ثورة المهدي وثورة عرابي كانتا مصرية سودانية الهوية والتوجهات سواء ضد الأتراك أو الإنجليز، وقيام دولة نيلية قوامها الشعبان ذات هوية وطنية وقومية وهذا يحتاج إلي إبراز، فالمصريون هم الذين أخذوا علي عاتقهم تدريب جيش المهدي علي الحرب الحديثة واستخدام الأسلحة النارية، ولما حوصرت مدينة «الاُبِيض» انضمت الحامية المصرية للإمام المهدي تلقائيا، وعندما اقتحم الأنصار الخرطوم وقتلوا القائد البريطاني غودرون وجاءوا برأسه إلي الإمام المهدي، عندئذ بكي وقال: كنت أنتظر أن تأتوني به حيا حتي افتدي به عرابي، وكان آنذاك أسيرا محكوم عليه بالإعدام إثر إجهاض من الإنجليز ثورته التحررية!.
كان قد مضي من الوقت أكثر من ساعة ونصف الساعة والأستاذ هيكل ينصت كعادته في يقظة واهتمام لحقائق الأوضاع المتدنية في السودان وقتئذ، بينما كان حرصه كذلك علي تدوين المعلومات التي رآها مهمة وجديدة عبر توالي حديث ضيوفه من أهل السودان وعندئذ انبري يقول: أولا أؤكد أنكم لستم أول من فاتحني بشأن الكتابة عن السودان.. إبراهيم شكري وعادل حسين ويوسف الشريف علي سبيل المثال.
لقد زرت السودان أول مرة عام 1951 وقابلت السيدين عبدالرحمن المهدي وعلي الميرغني إثر إلغاء النحاس باشا اتفاقية عام 1936، دفعني إلي ذلك الكاتب الشاعر كامل الشناوي وقال لي: أنت تكتب عن الحرب في كوريا وعن مشاكل العالم ولا تعرف السودان!.
كنت مأخوذا جدا بالسيد عبدالرحمن المهدي، إذ كان يتحدث معي بلغة صريحة وكلام واضح لا لبس فيه، خاصة فيما يتعلق بمطلب استقلال السودان، بينما السيد علي الميرغني لم يكن واضحا مثلا، وكأنه لا يريد الحديث عن السياسة معي!.
السودان بالنسبة لي يمثل شحنة عاطفية في شبابي، كان إخواننا السودانيين يشكون آنذاك من عقدة «الضم» و «التاج» لدرجة أن هناك في مصر من قال إن عبد الناصر منع حقنا في السودان، وحقيقة إنني ترويت في الكلام في السودان لا لشيء رغم أنني مدرك للمصالح المتبادلة وللبوابات الحيوية، ومدرك حتي من الناحية المصرية البحتة أن السودان هو حامل الحياة.. ليس الماء فقط، بل ومحورا من قوي لا نستطيع أن تقامر به، لكن عندما تأتي لتواجه مشكلة مشحونة بحساسية وتتحدث عن روابط مصالح، فضلا عن تركيبة السودان الإنسانية، فالأمر إذن يحتاج إلي تدقيق في الحسابات، علما بأننا أسأنا التعرف في مرات كثيرة، وليس أدل علي ذلك من إدارة علاقاتنا مع السودان عن طريق أجهزة خاصة، وعندئذ يجد الإنسان نفسه محاطا بدوائر مغلقة، أنا رد فعلي ليس عن عدم اهتمام، أو قلة تقدير، لكنني أود أن أكتب في وضوح بعيدا عن الغموض.
أذكر مرة كنا في طريقنا إلي الرباط علي طائرة واحدة كانت تقل الرئيس جمال عبدالناصر وبرفقته الرئيس جعفر نميري، وأنا كانت لدي اهتمامات وقتئذ بالثورة الليبية واتجاهاتها القومية، ولم أكن حقيقة أتابع ـ بنفس القدر ـ ما يدور في السودان، وحين سأل عبدالناصر نميري: هل تعرف هيكل؟.. قال: نعم.. ولكني آخذ عليه تجاهله لثورة السودان وكان حينها يقرأ في مجلة «المصور».
أنا مقدر جدا لهموم وشجون أهل السودان، واتصور أن لدي شحنات عاطفية ورغبة معرفية تجعلني أضع السودان بالقرب مني حتي وأنا علي البعد منه، وأذكر بالمناسبة عندما حدث انقلاب الجبهة الإسلامية إنني تحدثت مع الدكتور أسامة الباز بالتليفون، والباز كما تعلمون كان يعمل معي في وقت سابق، وسألته عن الانقلاب.. قلت له أنتم تتحدثون وكأنكم أنتم الذين أحدثتم التغيير، إذ كانت الصور والمقالات التي تملأ الصحف تكاد توحي بذلك!.
حقيقة إذن لدي مبررات من خلال تعقيدات وغموض الواقع الراهن في السودان، كذلك فإن تشابه وتضارب الاختصاصات حول السودان، ومن هنا أصبح الحديث محفوفا وشائكا عندما نتحدث عن مقدراته، والشاهد أن هناك تعقيدات تحول بيني وبين المعلومات الصحيحة، مثال ذلك مجيء الرئيس عمر البشير إلي مصر مؤخرا، وحدوث لقاءات علي مستويات عليا شوشت الصورة أمامي، وهذه الضبابية هي التي تجعلني أشعر بمسئولية كبيرة تجاه ما أكتب، أنا لا أود أن ألمس حقل ألغام، وليس لدي القدرة علي الحديث بوضوح.
رحم الله الأستاذ إبراهيم فرج، فقد طلب مني أن أكتب عن السودان إيمانا بوحدة وادي النيل، لكنني قلت له إنني أريد أن أذهب أولا للسودان حتي أكتب عنه عن قرب وبحرية كاملة ـ ماذا أفعل؟ ـ هذا ليس اختياري أن أمارس ديكتاتورية الصمت عن السودان!.
د. علي أبوسن: أعتقد إذن أن الرد ايجابي!.
هيكل: أنت تتصور أنني متجاهل السودان وأمره.. هذا ليس صحيحا، أنا أكتبت رأيي وحددت مواقفي من عدة دول وقوي سياسية من خلال معرفة موثقة، محاذيري معروفة بالنسبة للسودان حين تختلف القضية، ستقول لي إنك بعدت أو تخوفت وقد زالت الأسباب الآن، وأنا أقول ليس لدي معلومات. فأخر مرة رأيت فيها السودان عام 1997 عند عقد القمة العربية بالخرطوم، بينما المرات المؤثرة كانت عام 1956، الأوطان عندي ليست جغرافيا، إنما بشر، ومن هنا ولأهمية الموضوع وحساسيته وحيويته ومواقف وسياسات القوي والجبهات المتباينة، لا بد وأن تكون لدي معلومات، فمثلا لا أتصور مقابلة مبارك للبشير إلا أن كان يعلم أن هذا النظام ليس منتهيا، وعلي ما يبدو أن الجملة الأخيرة في حديث هيكل كانت مفاجأة انتهي بعدها الكلام المباح وغير المباح.. وإذ الأيام تؤكد علي صدق نبوءة الأستاذ هيكل.
*المؤلف: صحافي وكاتب سِوداني