لم تُجرِّب النُخب السودانية على مستوى القيادات الحزبية والثقافية والفكرية والأكاديمية يوماً ما منذ الإستقلال ومن منظور تأثيرها على الرأي الجماهيري العام ، الإلتفاف حول مبدأ الإعتداد الأوحد بـ (المصلحة الوطنية العامة) ، في الكثير من القضايا السياسية والأزمات الإقتصادية والرؤى الإستراتيجية لمستقبل البلاد ، وبالتحديد في موضوع علاقاتنا الخارجية وإنتماءاتنا الدولية والثقافية ، خصوصاً وأن مواقفنا السياسية تجاه مجتمعنا الإقليمي والدولي كانت على الدوام مُتجاذبة ومُشوَّشة و(مُتهمة) بالإنحياز وعدم تعبيرها (الصادق) عن تطلُّعات المكوِّن الثقافي (الكُلي) للأمة السودانية ، وفي هذا الإطار علينا أن لا نغفل مشكلتنا الأزلية المُتعلِّقة بـ (ضبابية) هويتنا السودانية وتنازعها بين العروبية والأفريقانية والتي دعت الكثير من المُفكرين الذين عالجوا هذا الموضوع يصلون إلى نتيجة توافقية واحدة (تكفي المؤمنين شر القتل) والتي تمثلَّت في ضرورة إتفاق السودانيين على الإلتفاف حول (السودانوية) كهوية مُحايدة تستطيع التعبيرعن كافة الأصول الثقافية التي تنحدر منها جميع الأعراق التي إنتمت إلى هذه الأرض الطيبة.
السؤال الذي يفرض نفسهُ ، لماذا يتهِّم معارضو التطبيع مع إسرائيل المؤيدين للخطوة بالخيانة ، وكذلك يتهم المؤيدون المعارضين للتطبيع بالتطرُّف وعدم تقديرهم للمصلحة الوطنية العامة ؟ ، في إعتقادي أن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي الإعتراف بأننا ما زلنا نُعمل صراع (الهوية الثقافية) كآلة للمنافسة السياسية والمصلحية ، في حين أن الأوجب من منظور (المصلحة الجماعية) ألا يتمدَّد نطاق (التنافُس) السياسي والفكري والثقافي ، لأكثر من محاولات (تنافسية نزيهة) للإستئثار بأوسع نطاق (تأثيري) يمكن بمُقتضاه أن (تذوب) ثقافةً ما في ثقافةٍ أخرى ، ولكن عبر إستحقاقات التميُّز والقُدرة على الطرح المُقنع و(التغلغُل) بذكاء لإجتذاب المساحات الشعبية الثقافية (الخاوية) والجاهزة للإستقطاب والإندماج في ثقافات جاذبة من حيث الطرح والسلوك والموروث والقُدرة على الإبداع والتأثير الإيجابي.
في حين أن مبدأ الإعتداد الأوحد بـ (المصلحة الوطنية) أو الجماعية ، كان مبداءاً فلسفياً وفكريا أساسياً عند قدامى الفلاسفة الذين أنتجوا عبر التجريب الفلسفي المُستمر والمُتطوِّر فكرة (الدولة) ونظرية (العقد الإجتماعي) بأركانها المعروفة حالياً وفي مُقدمتهم المفكر الصيني كونفشيوس ، وإنتهاءاً بالحداثيين منهم من أمثال أرسطو وإفلاطون ، فالمصلحة العامة في أمور تنفيذية أو (مشاريعية) هي في الأصل من واجبات الحكومات تجاه شعوبها ، إنطلاقاً من تفديراتها ومُخططاتها الإستراتيجية في شتى الأمور ومن ضمنها تخطيط العلاقات الخارجية ومستويات تطوُّرها وإتساع مداها بين دولةٍ وأخرى ، إذن من وجهة نظري فإن التطبيع مع إسرائيل ليس سوى (مشروع) تنموي إستراتيجي مُتعلِّق بمصالح البلاد والعباد ، ولا علاقة لهُ بالمباديء والقيَّم الإنسانية و(الإنجرافات العاطفية) التي تُعتبرأصلاً من صميم عمل الجمعيات والمؤسسات والمنظمات الطوعية والحزبية ، أما الدولة فليس لها من سبيل لإتخاذ القرار الصائب خارج إطار (الإبتعاد) عن كل ما يضُرُ بالمصلحة العامة ،
و(الإقتراب) من كل ما من شأنهِ تحقيقها والحصول عليها.
ليست هناك حربٌ قائمة الآن بين الفلسطينيين وإسرائيل ، بل هناك (تعايش) و(تعاون) لا يُنكرونهُ ويعلنونهُ على الملأ كل يوم ، فالسُلطتين الإسرائيلية والفلسطينية تعملان في تناغم تام يستهدف بالدرجة الأولى حصول شعبيهما على أقصى ما يمكن من رفاهية وتنمية مُستدامة رغم الخلاف الإستراتيجي ، وذلك من باب مبدأ (تقديس الحياة) ، فما الذي يجعلنا أكثر (حرصاً) و(ألماً) من أصحاب الأرض على جراحهِم ، وما الذي يدفعنا للإستمرار في إختيار المنهج العاطفي في تقدير(سياساتنا الدولية) دون إعتداد بالمصلحة العامة لشعبنا والظروف والمخاطر الإستثنائية التي تمُر بها البلاد ، وما ذنب شعبنا في ما تُمليه (توجُّهاتنا) العاطفية التي لا مرد شرعي ولا منطقي يؤيِّدها ؟ خصوصاً وأن (الثقافة) التوهُمية الدافِعة لمُناهضة التطبيع مع إسرائيل (لا تُمثِّل) أغلبية الشعب السوداني ؟.