faldaw@hotmail.com
يفر السودانيون من الكذاب فرار السليم من الأجرب، ولكن هذا لا يعني كلهم من جنس الملائكة، فالكذابون بيننا كُثر خاصة وسط فصيلة السياسيين، حيث يكثُر الأنبياء الكذبة. ولكن أن يكون قاسماً مشتركاً بين بعض من دخل (قصر غردون) فذلك لعمري ما يدعو للدهشة والرثاء. أثناء إعدادي كتابي الأخير (الطاعون) وردت إليَّ معلومة فحواها بحسب ما ذكرت في صفحة 32 ما يلي: (استهلكت زمناً ليس بالقليل استقصي في أي وسط أعلم فيه من كان عشيراً له في المجتمع أو زميلاً في القوات المسلحة (الدفعة 18) أي الدفعة التي تخرَّج فيها، أو الحاميات التي عمل بها. وأصدقكم القول إنني لم أعد خائباً مما سألت، فقد أيقنت تماماً أن اللقب الذي كان يهمس به البعض سراً، وفي أحايين أخرى جهراً، بأي من صيغ المزح أو الاستخفاف هو (عُمر الكضاب). أي الكذاب!
نعم الكضاب لقبُ المخلوع، ولكن أن يجلس على سدة السلطة رئيساً لثلاثين عاماً فتلك إهانة لا تضاهيها إهانة، فالأديب الفرنسي المرموق جان دو لافونتين وضع اللوم كله على كاهل الشعب: (إن الكذاب والدجال والمتملق يعيشون على حساب من يصغى إليهم) وتلك حقيقة رغم أن الاعتراف يؤذي مشاعرنا ويُقزِّم إنسانيتنا. واقع الأمر ليس المذكور وحده، فالنظام كله كان عبارة عن إكذوبة كبرى، استمر زبانيته يلوكونها بذات السهولة التي يدلقون بها جرعة ماء في جوفهم. ولن يجد الناس مثالاً ساطعاً لأكبر كذبة في تاريخ السودان مثل تلك التي هرف بها الترابي وأودت به للسجن حبيساً والمذكور للقصر رئيساً!
لقد فَجَرت العُصبة في تسيس الدين مثلما ابتذلت تديين السياسة. أحد أزلامها المأفونين ممن كانوا يبثون ترهاتهم في برنامج (ساحات الفداء) اعترف بأنه يكذب لأن الحرب خدعة بحسب قوله، ولمثل هذا يقيم الناس سرادقاً للعزاء. أما مقتها عند الله سبحانه وتعالى فتؤكده ورود كلمة الكذب في القرآن لما يناهز الثلاثمائة آية. وتعلمون كلما جاءت سيرة الكذب تذكر الناس الحديث الشريف: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خِلَّة منهم كانت فيه خِلَّة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر) غير أن بني قينقاع الذين غدروا بنا كان قدوتهم جوبلز وزير دعاية هتلر القائل: أكذب.. أكذب حتى يصدقك الناس!
نقول دائماً إن ما يميز ثورة ديسمبر المجيدة هو الوعي والاستنارة. وسيظل الأمل معقوداً في نواصيها حتى تترسخ على أرض الواقع لتصبح ثقافة نهتدي بنبراسها. لكن ذلك لن يتأتى إلا بالصدق والصراحة والشفافية، أي على نقيض ما كان يخرج صديداً من أفواه الأبالسة. ولأن بضدها تتبين الأشياء كما قال المتنبي، لم يكن غريباً أن يكرر الشباب في ميدان الاعتصام لازمتهم الشهيرة (زمن الغتغتة والدسديس انتهى) أو هكذا كانوا يحلمون كدلالة على اشمئزازهم من ممارسات أصحاب الأيكة، وقيل إن أصحاب الأيكة كانوا مثل أبالستنا موصومين بالكذب والنصب والاحتيال!
بيد أنه ظننا أن ذلك عهد مضى، ولكن ما بال من يتعمدون إيذائنا باجترار ذات الكذب البواح كما هواته المندحرين. ففي فترة زمنية قصيرة تواترت علينا أكاذيب.. تقاطعت مداً وجذراً وتركتنا في حيرة من أمرنا. ومن المفارقات أن الجنرال البرهان كان قاسماً مشتركاً فيها. ضربتنا الحيرة أول مرة وعشعشت في رؤوسنا حينما باغت عموم السودانيين وذهب إلى يوغندا منفرداً، حيث التقى رئيس وزراء إسرائيل في عنتيبى. ويومها لم ينشغل القوم بصواب أو خيبة الخطوة، مثلما هو حالي الآن، ولكننا جميعاً اندهشنا من هدف التسلل الذي أحرزه في مرمانا ونحن صاغرون!
لمَّا عاد أدراجه قال إن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك كان يعلم. لكن حمدوك نفسه استبقه وقال إنه لا يعلم. وقبل أن (تضيع لحانا بين حانا ومانا) كما تقول الأعراب، فك الاشتباك صديقنا الشفيع خضر بما له من علاقة شخصية مع رئيس الوزراء، وقال في حديث المزرعة (العفوي) إن حمدوك كان يعلم. وحينها سكت شهريار عن الكلام المُباح، وذلك يعني أن أحدهما كذب (تحت القسم) كما تقول الثقافة الغربية، وران صمت رهيب تململت فيه أجساد الشهداء في قبورهم. ومرة أخرى لم يسأل آل بوربون أنفسهم عن ماذا فعل البرهان ونتنياهو هناك؟
قبل أن ينجلي مثار النقع فوق رؤوسنا، جاءت الثالثة تتهادى. إذ قال رئيس الوزراء عند زيارة بومبيو للبلاد آتياً من إسرائيل إنه ليس من اختصاص حكومته تطبيع العلاقات مع إسرائيل. لكن الخرطوم مدينة لعوب لا تعرف الأسرار. فكلما علا صوت الفرقاء في جدلية الربط بين المسارين أقسم رئيس الوزراء بالنفي وأغلظ في القسم حتى بتنا نشفق عليه. ولكن بُهت الذي كفر عندما رأينا بأم أعيننا الغرماء يتناجون في تلك المحادثة الرباعية، وتساءلنا همساً: ولكن لماذا نتنياهو هناك؟ فقيل لنا: حضر ليهنئ برفع العقوبات!
بعدئذ تأبط الجنرال شراً وقال إن 90% من الحكومة وحاضنتها يعلمون كل ما جرى خلف الكواليس، بل لم يجد في نفسه حرجاً من تسمية السيدين الصادق المهدي وعلي السنهوري. أخرج الأخير أسلحة صدئة عفا عنها الزمن في تسجيل مُصوَّر استمر لعشر دقائق، كان فحواه قوله للبرهان (كضباً كاضب) يا جنرال. وكذلك أصدر السيد الصادق المهدي بياناً يوم 26/10/2020م نفى فيه ما ادعاه البرهان بطريقة داوني بالتي كانت هي الداء!
ثمَّ ظهر لاعب جديد في مسرح اللا معقول، إذ أطلَّ عضو مجلس السيادة صديق تاور عبر فضائية الجزيرة، فسألته المذيعة المليحة عن ما يجري سراً وعلناً دون أن تنسى تذكيره بهويته الحزبية كمن يضع السم في الدسم، فقال ما هو أخشن، إذ نفى علمه بكل ما حدث، وزاد مؤكداً أن ما جرى هو من صنع البرهان وحمدوك ولا ثالث لهما. وبينما استأثر الأخير بصمت هو قمين به، قال الأول إنه تشاور معهم جميعاً في أكثر من جلسة للمجلس السيادي، ولربما اسمعت كلماته من به صمم. وتساءل إن لم يكن تاور موجوداً؟
وبمنطق أنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً دخل الحلبة الفريق ياسر العطا ليقول ليس بعد الكفر ذنب (التطبيع شئنا أو ابينا مربوط تماما بمسألة إزالة اسم السودان من القائمة السوداء، اضطررنا إلى ذلك) وبذات المنطق كان الجو مغرياً لوزير العدل عبد الباري ليدلو بدلو منح فيه الحكومة إشارة خضراء للمضي قدماً، فقال في بيان يوم 24/10/2020م (الحكومة الانتقالية مفوضة بموجب الوثيقة الدستورية لإدارة السياسة الخارجية ولا تمنع إقامة علاقات مع إسرائيل)
قيل إن لصاً فرَّ هارباً من أناس كانوا يتوعدونه بالقتل. فلجأ للشيخ فرح ود تكتوك لينقذه منهم، فأشار له الشيخ بأن يختبئ في كوم قش قريب منه. وعندما وصل المطاردون سألوا الشيخ عن الهارب؟ فأشار لهم بيده نحو القش، فاستهانوا بقوله واعتبروه رجلاً مُخرِّفاً. وبعد انصرافهم خرج الهارب الذي كان يسترق السمع ولوّم الشيخ على صراحته. فقال له: يا ولدي الصدق لو ما نجاك الكذب ما بنجيك!
آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!
عن الديمقراطي 2/11/2020