كان الوقت عصراً في ذلك اليوم العصيب في أواخر أيام أغسطس من عام 76، عندما أذن مؤذن القوم، داعياً كل المعتقلين للاستعداد للانتقال إلى مكان جديد! كان اليوم حاراً وريح السموم تلفح الوجوه الحائرة.. والجسوم الناحلة المثخنة بالجراح حقيقة ومجازاً.. من التعذيب البدني والنفسي والجوع والعطش . .لقد سمعنا في الصباح همساً يدور حول تقديمنا للمحاكم العسكرية.. بعد اكتمال التحريات اللازمة.
كانت أعداد المحتجزين كبيرة جداً. . فلابد من إعادة تصنيفهم وتحديد التهم الموجهة إليهم. .وتحويل من لم توجه لهم تهم إلى الاعتقال التحفظي حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا. .
لقد حشر الضحايا في عنبر الشرطة العسكرية نفسه.. والذي أخذوا منه من قبل إلى أماكن التحقيق. . عصرا.. لقد تبدل حال المعتقلين. . فالذين كنا نرى في وجوههم نضرة النعيم.قد تبدلت حالهم ونحلت أجسادهم. . حفاة وأنصاف عراة ترهقهم ذلة. . تكاد لا تعرفهم إلا بعد توهم. . كان هناك العقيد عثمان الأمين. .والذى أصبح فيما بعد عضواً بالمجلس العسكري الانتقالي بعد انتفاضة رجب(أبريل) 85. . ومعه مجموعة المتحريين وعلى رأسهم الهلالي الذين اشرف شخصيا على تدوين الافادات المطلوبة من الضحايا بكل الوسائل! !
كان العنبر في ذاك اليوم كأرض المحشر جمع فأوعى. .أناس من كل الأعمار وألوان الطيف السياسي والاجتماعي. . كل واحد يفكر في نفسه. .فلكل إمريء منهم يومذاك شأن يغنيه. . ينظر من طرف خفى إلى كتابه بين يدي الهلالي وصحبه. .لا يدرى ما فيه! !
التقينا بعد فرقة خلناها من فرط المعاناة دهرا. .كان هناك للمثال لا الحصر. .على محمود حسنين. .عبدالله محمد بدر منسق الإخوان المسلمين في الداخل. ابراهيم أحمد عمر ابوالجدى. .القائد الإدارى للانتفاضة. . بعض رجال الأعمال أمثال ابراهيم سعيد. .د احمد البدوي، الناظر عمر إدريس هباني السيد مهدى حسين شري ومجموعة د. سعيد نصرالدين وإبراهيم تيمس وآخرون.
كان العنبر مكتظاً والحر لا يطاق. . والنفوس قلقة تمور فيها الأفكار السوداء للمصير المجهول. .فكنا لحظتئذ إلى الموت أقرب منا إلى الحياة. . ولكن أملنا في الله الحى القيوم لم يضعف. .فلعل الله يجعلنا من العسر الذى نحن فيه يسرا…تصطرع فى دواخلنا الآمال والاحتمالات. . عيوننا مشدودة نحو باب العنبر، نرصد كل الحركات والسكون. .نأمل ونخشى. . الشائعات تسرى كالنار في الهشيم. .متى تعقد المحاكم وأين ؟ ومن هم المرشحون لوجبة الإعدامات القادمة؟ كل واحد فينا يظن أنه منهم. . وكاد المريب أن يقول خذوني. .الدقائق تمر بطيئة كئيبة. . كنا نريد أن يقضى الأمر الذي فيه يتشاورون لنا أو علينا. . ونحن نردد كتلوك ولا جوك. . جوك …
ثم جاء الليل بظلامه وهمومه. . ليل كليل امرئ القيس. .الذى أرخى سدوله بأنواع الهموم عليه ليبتليه. . فكانت حالنا حاله. .أسرا وضيقا وحيرة .
لقد رأينا ما يحدث في جنح الظلام من قبل من ظلم وآثام. .والآن جاء دورنا.. فليست كل مرة تسلم الجرة. . فليكن ما قدر الله وما شاء فعل. .
عندما سمع كسري قول الشاعر القديم . .
لم يطل ليلى ولكن لم أنم. .
ونفى الكرى عنى طيف ألم.
قال هذا لص فاقبضوا عليه. .قالوا له إنما عاشق شفه الوجد والهوى فسهر قال زوجوه من يحب وعلى مهرها. .فلم يكن سهرنا فى تلك الليلة من الزمان. .إلا من ما اعترانا من غم وهم وحيرة ونحن نواجه مصيراً غامضاً مجهولاً.
ولم يطل انتظارنا بحساب الوقت.. وان خلناه أمدا بعيداً. . إذ انقطع الشك باليقين. ..فقد وقع ما ليس منه بد. . لقد أضيئت الأنوار الكاشفة وأحاط بنا الجند المدججون بالسلاح إحاطة السوار بالمعصم. وصمت الناس كأنما على رؤوسهم الطير . . وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً. .سبحان الله ونعم الوكيل. .
ثم نودى على اسموهم باكابر مجرميها ..وهم خمسة وعشرون متهماً ..على رأسهم على محمود حسنين. .والعميد سعد بحر يوسف. . وزملائي الذين كنت معهم وهم د. يس الحاج عابدين ود.عبدالله ميرغنى وعبدالفضيل ابراهيم.. فتيقنت انى حيث صار القوم صائر..ولما نودى على ابراهيم أبو الجدى. نهضت قائما فسمعت إسمى كاملاً. . قلت لنفسى أن ما كنت تخشينه قد وقعا. .فسألت الله اللطف والثبات. . وقد كان ولله الحمد. .حشرنا حشراً فى الشاحنات لا يكلم بعضنا بعضا. .سارت بنا الشاحنة المشؤومة فى جنح الليل عبر طرق ملتوية للتمويه. .وأخيرا وقفت أمام عنبر مهجور في سلاح المهندسين. .نزلنا في مقر اقامتنا المؤقت الجديد. .وتلك قصة نرويها في الحلقة القادمة بإذنه تعالى.
- الكاتب: سياسي قيادي وكاتب