لو صح ما يتم تداولهُ عبر الأسافير وحكايات أُمسيات السمر السياسي ، و(ونسات) الكادحين في طوابير الخبز ومحطات التزوُّد بالوقود ، حول عودة غول الفساد عبر بوابة المُحاصصات المناصِبية والمصلحية ، في ما يتم بناءهُ الآن من هياكل الحكومة الإنتقالية بوجهها الجديد ، والذي يتميَّز عن الوجه القديم بميزتين ، الأولى مُتعلِّقة بتشرزُم وتصدُّع الحاضنة السياسية للحكومة الإنتقالية ، وتحوُّل قوى الحُرية والتغيير من (تحالُف) وطني يستهدف الصمود والإستقواء على مُهدِّدات الثورة بالوحدة والتكاتُّف ، إلى (حلبة) صراع سياسي ومنهجي وآيدلوجي ومصلحي ، والثانية مُتعلِّقة بما يدور في خُلد حركات الكفاح المُسلَّح الموقِّعة على إتفاق جوبا من (توقُّعات) وآمال وارفة في نطاق ما ستنالهُ من (كمِ) و(كيفِ) في ما هو مُتاح من سُلطات ومنافِع عبر مشاركتها في التشكيلة القادمة للحكومة الإنتقالية.
فقبولنا بإنتقال طاقة الجُهد النضالي لإستعادة الديموقراطية من منصة التصويب تجاه المصلحة العامة إلى مغبة التركيز نحو المصالح والمنافع الحزبية الخاصة ، حتى وإن تم تجميلها بنسبها إلى قواعد المُهمَّشين والمُتضررين من آفة الحروب الأهلية التي أشعلتها الإنقاذ البائدة تلبيةً لمصالحها الخاصة ، دون توجيه أية مصالح أو منافع (فرعية) أخرى يستفيد منها المنتمين إلى أعراق أو جهويات أخرى ، إقراراً بأن دمار الإنقاذ كان شاملاً ولم يستثني أو ينجو منه أحد ، فجميع الجهات والأعراق غير المُنتمية للإخطبوط الإسلاموي كانت قد دفعت الثمن وكلها عبَّرت عن وجعة الغبن والظُلم والقهر بطريقتها الخاصة وبحسب ثقافتها وإمكانيتها المُتاحة ، ذاك القبول يجعلنا إن كُنا من المُناصرين لإفساح المجال بلا مواراة لقولِ الحق المُطلق الذي لا يقبلُ شكاً ولا تحويراً ، نُقِرُ وللأسف بأن شُبهات الفساد قد بدأت تُسفر عن وجهها القبيح من جديد ، والثورةُ لم تزل مِرجلاً يغلى على لهيب الحُزن على أرواح الضحايا ودماء الجرحى ولوعة غياب المفقودين ، ولم تزل حظوظنا العاثرة فيما ورثنا من (أدبيات) إنتقالية بعد كل عهدٍ مقيت ، نضطرُ قسراً وإجباراً للحديث عن الفساد وما أدراك ما الفساد.
فالفسادُ لا ينحصر فقط في التعدي على المال العام ، ولا ينحصر نشاطهُ فقط في مغبة إزدهار المحسوبية وتعطيل القانون وتحطيم أدوات إرساء العدالة والمساواة ، الفساد الأكبر هو أن تسعى الأحزاب والمُنَّظمات السياسية في الفترة الإنتقالية وعبر الإنكباب المقيت على حصد الموارد والمناصب والإمتيازات إلى تلبية المصالح الخاصة المحدودة في نفعها ، على حساب المنافع والمصالح الوطنية العامة ، من وجهة نظر خاصة إن سلَّمنا بأنا متورطين في أمرين أحلاهما مُر ، فإن فساد الحزب الأوحد في عهد الإنقاذ ، هو أقل ضرراً وأفضلُ مآلاً من فسادٍ تلعبُ على أوتارهِ كل الأحزاب والتنظيمات السياسية مُجتمعة من باب ما يوفِّرهُ ذلك من (تنوُّع) و(إبداع) في أشكال ومضامين المؤامرات التي تحتضن الفساد وتُغذيه و(تُخفيه) عن أعين الناس ، كما أن تضارُب المصالح وإنفراط أمر الإتفاق على مستوى تنظيمات سياسية مُتعدِّده ومُتناحرة ، يوفِّر مناخاً خصباً ومُناسباً لـ (التطرُّف) والحِدة و(الجشع) والجُرأة في الولوج إلى غياهب الفساد الذي على ما يبدو أصبح واحداً من أهم أدبيات الحِراك السياسي في السودان في كل الحقب ،
ديموقراطيةًً كانت أم شمولية ، لكن ما زال وجهاً للأمل يلوحُ مع إطلالة كل فجرِ جديد ، طالما ظلننا نتمسَّك بثقتنا في الشارع الثوري وقُدرتهِ على حسم الفوضى ومواجهة الصعاب ونُصرة الحق وهزيمة الباطل وقتما نادى المُنادي ، فإستعدوا وإنصتوا الآذان.