لا أعرف إن كان الأستاذ محمد عبد القادر قد اطلع على اتفاقية جوبا قبل أن يرفع عقيرته ب”سيرة” الفريق أول كباشي الذى قضى بغير تردد على مخرجات ورشة جوبا. وهي الورشة التي قال محمد إن من نظمها (وهي حكومة السودان) أراد لها توريط الحكومة في موقف لفصل الدين عن الدولة لن تستطيع تسويقه للناس.
لو قرأ محمد الوثيقة لعرف أن الحكومة “تورطت” لأم رأسها في فصل الدين عن الدولة. فإذا ساغ له أن يشتكي من فرط التنازلات الكبيرة التي أزعجته بشأن علاقة الدين بالدولة فدونه وثيقة جوبا الصادرة عن المجلس الأعلى للسلام الذي كباشي بعضه. وسيرى التنازلات التنزيلات لو شاء. وإن أثني علي الكباشي لفضه ورشة جوبا على بينة مما سماه المرجعيات “التي تبناها المفاوض الحكومي الرسمي” في تعاطيه مع قضية الدين والدولة. فكذباً كاذب. فمرجعية اتفاق جوبا لم تترك فرضاً ناقصاً في وجوب اعتزال الدولة الدين.
فلا أعرف وثيقة مهجسة بشأن فصل الدين عن الدولة تبدي وتعيد فيه مثل هجس اتفاق جوبا. واتخذ الهاجس طريقين للتعبير عن نفسه. فالطريق الأول كان عن طريق الالحاح في اتفاق القضايا القومية ودرفور والمنطقتين تلاتة (جبال النوبة والنيل الأزرق بإضافة ولاية غرب كردفان) ومساري الشمال والشرق والوسط على أن المواطنة هي الفيصل في التشريع. فمثلاً نَقّى اتفاق الشرق المواطنة من ميز الدين وغيره بقوله بقيام الحقوق والواجبات في السودان “على أساس المواطنة دون تمييز بسبب العرق أو الدين أو الثقافة أو الجنس أو اللون أو النوع أو الوضع الاجتماعي والاقتصادي أو الرأي السياسي أو الإعاقة أو الانتماء الجهوي أو غيرها من الأسباب”. وظل الاتفاق يستعيد هذه الصيغة التي اعتزلت الدوله فيها الدين في أول كل نص اتفاق مع حركة أو مسار.
ولم يكن الطريق الثاني لتهجيس وثيقة جوبا باعتزال الدولة الدين بوروده نصاً صريحا فحسب، بل وفي إعطاء المنطقتين حق التشريع بما يتفق لهما.
فجاء في المادة ٧،١ من اتفاق القضايا القومية من وثيقة جوبا وجوب “الفصل التام بين المؤسسات الدينية ومؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة. ووقوف الدولة على مسافة واحدة من جميع الأديانK وكريم المعتقدات على أن يُضَمن ذلك في دستور البلاد وقوانينها”. وجاء عن مبادئ تقاسم السلطة في اتفاق درافور وجوب “الفصل التام بين المؤسسات الدينية عن مؤسسات الدولة لضمان عدم استغلال الدين في السياسة”.
وجاء في اتفاق المنطقتين (البقن تلاتة) أن المواطنة بلا تمييز هي أساس كل الحقوق والواجبات “وتقتضي أن تقف الدولة على مسافة متساوية من الأديان والثقافات دون أي انحياز إثني أو ديني أو ثقافي يؤدي للانتقاص من هذا الحق. ويجب أن يضمن ذلك في الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية”.
وأخذ هاجس الدين والدولة صورة مغالية (حتى لا أقول متطرفة) بمنح المنطقتين البقن تلاتة حق التشريع. فجاء في باب السلطات الحصرية لحكومة الولاية-الإقليم في المنطقتين تلاته حقها في “صياغة واعتماد وتعديل دستور الولاية-الإقليم وفق ما نص عليه اتفاق السلام النهائي، وتضمين الوضع الخاص للمنطقتين بما في ذلك حق التشريع كحق أصيل لا يتعارض مع الدستور القومي”. ورأينا أن الدستور القومي قائم في الاتفاق على فصل الدين عن الدولة.
ربما كان لمحمد رأي في الثورة أو قحت أو حمدوك إلخ. وهذا من حقه. وربما كانت هذه مرته الأولى كان له رأي خالص لا يراقب غيره فيه. ولكن استغربت منه أمرين: خلقي ومهني. أما الخلقي ففي قوله إن مثل ورشة جوبا دسيسة أرادت أن تخرج السودان من وسطيته “التي جعلت بلادنا أنموذجاً باهراً في التعايش السلمي”. لا تعليق. أما المأخذ المهني فإنه لم يقرأ اتفاق جوبا ليقف على ما انتهت إليه المفاوضات التي نوه بها حتى لا يجدف تجديف الصحف المؤممة أو شبه المؤممة في زمن الرقابة القبلية والبعدية. وهو زمان القائد الفارس المقدام بلا قيد ولا شرط في مثل قول محمد إن الكباشي يؤسس لصورة جنرال ومواطن (ود بلد) قلبه على السودان والجيش إلخ.
في خاطر المرأة الزوجة، في قول عبارة سودانية، طلقة وإن طال الزمن. وعلى ما يبدو من تهوين العبارة للمرأة إلا أنها احتجاج صقيل على الرعب الذي تعيش فيه لمصيرها المعلق بكلمة لا رجوع منها. وفي خاطر الصحفي، ممن عاش اقتصاد الصحف المؤممة وغير المؤممة في الديكتاتوريات، وإن جاءت الديمقراطية ضابط عظيم ود بلد مدخور للبيان الأول.
IbrahimA@missouri.edu