لست ضد العسكر، ولكنني مع الديمقراطية، التي تساوي بين الجميع، وتجعل كل فرد في المجتمع يقوم بدوره من دون أي شعور بالزهو والتميّز.
يجب أن نعترف أننا في السودان وغيرنا في العالم دفعنا ثمناً غالياً لمغامرات العسكر، وزعمهم أنهم الأجدر بالحكم، وما يعيشه عالمنا العربي اليوم ليس إلا نتاج عقليّة عسكريين رمونا إلى التهلكة، تحت شعارات واهية، ولا نعفي كثيراً من المنظرين الذين زينوا لهم أعمالهم.
إن إعلان اللجنة القانونية التي شكلها النائب العام عن العثور على مقابر جماعية يرجح أنها تضم جثامين أكثر من 25 شاباً يقف دليلاً على تهور كثيرين ممن يمسكون السلاح، وتوجيههم له في الاتجاه الخاطئ.
إن شباباً تراوح أعمارهم بين 14 و35 عاماً ظلوا مفقودين منذ جريمة فضّ اعتصام الثورة السودانية المجيدة أمام القيادة العامة في الثالث من يونيو 2019م، فما ذنبهم، وما ذنب أسرهم كي تعيش مغبونة، وفي داخلها شعور بالقهر، لأن أبناءهم الذين حملوا الوطن في حدقات العيون، وخرجوا لتخليصه من حكم طاغٍ مستبد تصبح مصائرهم مجهولة، في دولة أرادوها مدنية، ترفرف فيها أعلام الحرية والسلام والعدالة.
قال أحدهم بحرقة “إن حجم المأساة التي لحقت بهم كبيرة، ويصعب تصور أي نوع من العقوبة يمكن أن يخفف من تلك المأساة”.
لقد تعهدت اللجنة “بالقيام بكل ما يلزم لاستكمال إجراءات النبش وإعادة التشريح بعد أن تم تحريز الموقع، ووضع الحراسة اللازمة عليه لمنع الاقتراب من المنطقة، لحين اكتمال الإجراءات، وتوجيه الجهات المختصة باتخاذ كافة الإجراءات اللازمة”.
وهذا الإجراء يتطلب من الشرفاء في الأجهزة الأمنية أن يقوموا بدورهم في تأمين المكان حتى لا يتعدى عليه المجرمون الذين كانوا سبباً في المأساة، وغيرها من مآسي الوطن، مع أهمية أن يؤدي الإعلام دوره في التنوير، وتفويت الفرصة على من يريدون تغبيش الحقيقة، وخلق الفتنة، بنشر الشائعات التي تهدف إلى الإيقاع، وبث التخوين، والريبة بين مكونات الفترة الانتقالية.
إن من قاموا بالجريمة يعرفون أنفسهم، وقد اعترفوا عياناً بياناً، كما اعترف الرئيس المخلوع بجرائم ذمرته في دارفور، ولهذا فإن محاولة نشر الفوضى، بمنطق “علي وعلى أعدائي” لن يجدي إذا تكاتفنا، وأسرعت الأجهزة العدلية وتيرة عملها، وعادت قوى الثورة إلى وحدتها، وتخلت عن ترف الخلاف، وتحلقت حول المشترك العام الذي يجب ما عداه، ويحقق الخروج الآمن للوطن من الدائرة الشريرة، التي يجد فيها الطغاة الفرصة لإخفاء جرائمهم، ويموت فيها الشرفاء كمداً وحسرة.
إن إفلات أي طاغية من جرائم القتل والإخفاء القسري التي تعدّ من أكبر وأخطر الجرائم الموجهة ضد الإنسانية يعني أن ثورتنا قد وئدت، وأننا شركاء في تلك الجرائم بخلافاتنا، وانتصارنا لتطلعاتنا الضيقة، فهل يستبين القوم النصح قبل ضحى الغد؟