في عموده الصحفي كتب الاستاذ مزمل ابوالقاسم (القراي يأمر بإزالة كل دروس التاريخ المتعلقة بالثورة المهدية من كتاب (نحن والعالم المعاصر) للصف الثامن)! استغربت وانا اقرا هذا الخبر لأن القراي حوله شبهات بانه لا يؤمن بقيمة الثورة المهدية التي قادها شعب السودان باجمعه ضد المستعمر، وتوقعت أن يبعد الرجل الشبهة عن نفسه بما انه وضع في منصب قومي هو إدارة المناهج القومية، وحين نقول ( مناهج قومية) فهذا يعني انها مناهج تعلي من قيمة التاريخ القومي السوداني وتفاخر ببطولاته وتربي الأجيال على التغني به والتمثل بتضحياته، حتى يشبوا على ما كان عليه اجدادهم من بطولات وتشتد أواصر انتماءهم لهذه الأرض التي لم تاتي إليهم هدية او منحة وإنما جاءتهم بشهداء ودماء وعرق لو مزجت بالنيل لتحول لونه إلى الاحمر القاني، ولكن يبدو ان القراي لم يقرأ هذا التاريخ القومي كما تقرأه الأمم العظيمة المفتخرة بتاريخها، وإنما قرأه كما يقرأه الحاسدين من مجد الاجداد وعظمة تاريخ الامة، وهو ما يؤكد أن هذا الرجل غير جدير بهذا المنصب القومي، واستمراره فيه خطر على الضمير القومي والإرث التاريخي المشترك.
حين كان الشعب السوداني يئن تحت وطأة الاحتلال التركي الانجليزي المصري، ظهر محمد احمد المهدي كالشمس تشرق بين حجب الظلام، فالتف حوله الشعب السوداني بكل سحناته واعراقه وقبائله، وتدافعت نحوه الجموع الثائرة تبايعه على الموت و التضحيات، لم يتخلف أحد، حتى أبناء جنوب السودان جاءوا مناصرين للمنقذ السوداني الشاب الذي لم يتجاوز عمره السابعة والثلاثين عند اعلان ثورته، يقول فرانسيس دينق (كانوا يعتقدون بأن المهدي ظهر ليحرر سكان البلاد من الاضطهاد الأجنبي، وألفت قبيلة الدينكا بعض الترانيم الدينية التي صورت المهدي رمزاً يمثل الروح دينج، إلههم المرتبط بالبرق والمطر اللذين يعتبران دليلاً على القدرة الإلهية، لقد صلوا من أجله لإنقاذهم من عذابهم الطويل على أيدي الغزاة المتتابعين، كان المهدي رمزاً للقوة الروحية والعدالة وكان يعرف لديهم بابن دينق، وقد قاتل ابناء الجنوب تحت راية خضراء ارسلت لهم من الامام المهدي وكانوا يكبرون و يهللون في الانتصارات كما يفعل الانصار المسلمين). هكذا وحدت الثورة المهدية ضمير الأمة السودانية، ولهذا كانت انتصاراتها على المستعمر كاسحة وحاسمة وسريعة، المهدية حررت العاصمة الخرطوم بعد اقل من خمس سنوات من انطلاق الثورة، وهذه بكل المقاييس معجزة باهرة حققها اجدادنا نتيجة توحدهم كشعب واحد بلا تمييز ولا تفرقة، وحرروا كامل ترابهم الوطني من ايدي اعتى الامبراطوريات في ذلك الزمان وهي الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس.
لا يكاد يوجد بيت سوداني او أسرة سودانية موجودة اليوم في السودان، و الا لها شهيد او فارس شارك في الثورة المهدية وقدم ثمنا حقيقيا في تحرير هذه الأرض وفي سقيها بالدم والتضحيات، ولذلك فالثورة المهدية هي ثورة كل الشعب السوداني، ثورة كل الأسر وكل البيوت، هي ثورة للجميع لا تخص فئة دون غيرها ولا حزب دون غيره ولا جماعة دون غيرها، والامام المهدي حين حضرته الوفاة بعد 6 اشهر فقط من تحرير الخرطوم، لم يجعل الخلافة في أسرته، لقناعته بان المهدية ليست ملكا ولا وراثة وانما هي ثورة شعب ومجد وطن وانتصار أمة، لذلك سمى لخلافته عبدالله التعايشي ( ود تورشين) إبن غرب السودان.
في معركتي كرري وأم دبيكرات، استشهد جميع ابناء الامام المهدي او اعتقلوا وأعدموا لاحقا، و لم يتبق الا عبدالرحمن المهدي، وكان طفلا صغيرا، وضربه الانجليز الغاصبين ليموت، ولكن عناية الله انقذته، ليقود بعد زمن حركة النضال السياسي ضد المستعمر، التي توجت بالاستقلال في عام ١٩٥٦.
نضالات المهدية منذ بداية الدعوة وحتى سقوط الدولة على يد المستعمر في عام ١٨٩٩ تحسب لكل ابناء السودان، بينما نضالات الامام عبدالرحمن المهدي السياسية تحسب له ولحزب الامة ولكل التيار الاستقلالي من المناضلين السودانيين الذين دعموا التيار الاستقلالي المنادي بشعار ( السودان للسودانيين)، لذلك تاريخ حزب الامة السياسي وتاريخ اسرة الامام المهدي السياسي الذي يبتديء مع الامام عبدالرحمن ونشاطهم السياسي الممتد الى اليوم، هو جهد جماعة وطنية مخلصة من أراد انتقادها سياسيا فهذا هو الميدان، أما انتقاد المهدية وكأنها حزب الأمة أو جماعة الأنصار الراهنة فهذا تطفيف وطعن في تاريخ الأمة المشترك.
المهدية إرث وتاريخ للامة السودانية جمعاء وليس إرثا حصريا لحزب الأمة كما يظن أعداء حزب الامة والشانئين لأسرة المهدي. حزب الأمة وجماعة الانصار يعظمون تاريخ المهدية ويبجلونه ويقتدون به ويعتبرونه مثلهم ودربهم للفلاح في الدنيا والاخرة، ولكنهم لا يمنعون احد من الاحتفاء والاهتداء بالمهدية كارث وطني قومي، ولا يحق لهم ذلك. وبالتالي من يطعنون في المهدية ويحذفونها من المناهج بغرض العداء مع حزب الأمة هم جهلة بتاريخ بلادهم وبإرثها القومي ومجدها الخالد التليد.
يظل الامام محمد احمد المهدي رمز وطني لكل السودانيين باختلاف احزابهم السياسية وانتماءاتهم العقدية والعرقية والجهوية، ويظل هو مصدر الفخار الأعظم بين كل نضالات السودانيين على مر التاريخ الحديث، فهو الموحد الأكبر للشعب والمنتصر الأعظم بالنضال والسيف، والمحرر الأكبر للوطن من المستعمرين والغزاة، لذلك الذين يحطون من قدره وقدر المهدية نكاية في حزب الامة منافسهم السياسي او انتقاما من المنشغلين بالسياسة من اسرة الامام المهدي، إنما ينتقمون من بلادهم ويهاجمون نضال اجدادهم ويدوسون على تاريخ الأمة بالاحذية، ومن داس على تاريخ أمته فهو خائن .
حرر الامام المهدي ورفاقه الابطال السودانيين الاوائل هذا الوطن شبرا شبرا، في كل شبر بذلوا الدماء سخينة وطاهرة، ضحوا بكل شيء وجعلوا لنا جميعا تاريخا من المجد والفخر نفاخر به في وجه سكان أعظم امبراطوريات القرون الماضية، بنضال اجدادنا يقدل السوداني اليوم بعزة في ربوع تركيا وصقيع انجلترا، بحسبانه سليل الذين طردوهم جسارة وحمرة عين من ديارهم وحرروها منهم بالكامل بالسيف والرصاص، وفي خاتمة المطاف يأتي رجل على أكتاف ثورة ليمسح هذا التاريخ ويحذفه من المناهج! فمن أين جاء هذا الرجل ؟!! .
لن نسكت على فعلة القراي، سنواصل الزود عن المهدية حتى تعود لتزين مناهج الأجيال الجديدة، وسنواصل الفخر بها كتاريخ مشرف لأمة سودانية واحدة وموحدة، نسير على دربها المعبد بالدماء والتضحيات، ونحاصر كل صاحب غرض ومرض يريد أن يشكك في تاريخها من أجل أغراض سياسية خبيثة، فالأمة العظيمة تدافع عن تاريخها المشترك، والأمة التافهة تبصق عليه وتصفق لتاريخ مستعمريها وجلاديها، سنظل امة عظيمة ولن نفسح المجال لمن يريدون أن يجعلونا امة تافهة بلا تاريخ.
فليتمعن القراي ما يغنيه البريطانيون عن اجدادنا وانتصارهم على غردون:
هناك في السودان غاب عنا .. غاب عنا
هناك طأطأت إنجلترا رأسها .. وانكسرت
من هناك .. من هناك ..
تفشي نبأ ارتعشت له قلوب كل البريطانيين ..
قُتِلَ بطلنا العظيم ..قُتِلَ بطلنا العظيم .
( من ارشيف الأغاني الشعبية البريطانية، المكتبة القومية باسكتلندا، ادنبرة)
sondy25@gmail.com