واضح أن الاستقطاب الحاد بين قوى الحرية والتغيير بعضها بعضا، وكذلك التنازع بينها وبين السيادي والتنفيذي من جهة، وارتياب أطراف منها من السلطة الجديدة للحركات المسلحة من الجهة الأخرى، خلق حالة جديدة في المشهد السياسي. هذه الحالة ستفرض عاجلا أم آجلا بالضرورة تحالفات مبنية على خلفية الصراع التاريخي بين المركز والهامش، أو بين الخرطوم ومناطق النزاع إن شئت.
والواقع أن اتفاق سلام جوبا مثل مرحلة فارقة في علاقات النخب السودانية التي اضطلعت بالمساهمة في إسقاط النظام سلميا، وعسكريا. إذ شهدت أيام التفاوض الأولى قبل إنجاز الوثيقة الدستورية تماهياً وسط الأحزاب، والقوى المدنية، وقوى الكفاح المسلح بناءً على إعلان الحرية والتغيير. ولكن نتيجة لعامل ما انفض ذلك التلاقي، ولم تستطع اجتماعات الوساطة الإقليمية في أديس أبابا والقاهرة رتق الفتق بين المكون القومي والحركات المسلحة المنتمية لمناطق النزاع. وهكذا حلت الوساوس السياسية لتنتاب الطرفين حتى أنجزت الحكومة اتفاق السلام بقضه، وقضيضه. وهذا الاتفاق عارضه، كما نعلم، قسم من قوى الحرية والتغيير فيما شكك طرف منها في طريقة إنجازه، وقدرته على إيقاف الحرب. ومع ذلك أقام كل طرف حجته عبر بيانات منشورة، ولكنها تنبئ عن انقسام سببته خلافات سابقة لمكونات قحت.
إن خطوة جوبا لحل أزمة الخرطوم – على أهميتها – لم تتوقف عند الاتفاق، وإنما ما تزال عاصمة جنوب السودان ترعى عبر وساطتها تفاهمات بين الخرطوم وحركتي تحرير السودان، جناحي الحلو، وعبد الواحد. وحتى يثمر التفاوض عن جديد فإن المشهد السياسي في الخرطوم سوف يعايش اضطرابا قد ينعكس سلبا على مجمل الأوضاع في القطر، إذا لم يتم تداركه. والحقيقة أن هذه الأوضاع العامة لم تستقر على مرسى حتى قبل دخول الحركات المسلحة حلبة القصر. فمن جهة عايشنا ذلك التنازع المركزي للسلطات المهيمنة على القرار السياسي، وتدخل أطراف إقليمية ودولية، وذلك في وقت فشلت فيه هذه السلطات المركزية في خلق تناغم بينها لتشكيل بقية مؤسسات الانتقال، ناهيك عن خلق التناغم الضروري لإنهاء الضائقة الاقتصادية، وإزالة التمكين، والتوافق على سياسة داخلية وخارجية معززة لمستقبل التغيير الشامل.
هذا التدحرج في العلاقات المشتركة بين نخب التغيير باتجاه تصفية النظام المستبد، وإقامة الديموقراطية، ربما أعفى فلول النظام السابق من تسريع خطواتهم الآن لخلق الفتنة وسط نخب التغيير، ونشطائه. ولعله ليس هناك من عمل لتقويض فاعلية الفترة الانتقالية أكثر من صراع نخب المركز بعضها بعضاً، وصراع نخب الهامش بعضها بعضا من جانب، وصراع النخب المركزية والريف، من جانب آخر، بدافع تجيير الثورة لصالح مكتسباتهم التي دائما تأتي على حساب الشعب السوداني.
ما يحدث الآن من عناد سياسي لكل الأطراف المتصارعة في المشهد السياسي ليس سوى وراثة للحالة التي كانت عليها نخبنا عشية الاستقلال. وقد استمر هذا التنازع حول السلطة، والثروة، والنفوذ، تحت لافتات سياسية بينما واقع الحال يدل على أن النخب يزدادون ثراء والفقراء في بلادنا يزدادون عددا. وبالتالي تضاءلت آمال الوحدة الوطنية سابقاً، وحاضراً، في ظل هذا العناد الماكر الذي يسم كل أطراف اللعبة السياسية.
فالطريقة التي تتعامل بها تياراتنا السياسية المنتصرة على النظام الاستبدادي تحقق لفلوله كل الأمنيات الغالية التي يرومونها بعرقلة الانتقال نحو الديموقراطية، ولم يبق من هذه الأمنيات إلا إشعال التظاهرات في كل إرجاء البلاد لإسقاط مؤسسات الانتقال بكل ما حققته من تجاوزات لأهداف الثورة الأساسية، وبكل ما فيها من ضعف يغري المتآمرين في الداخل، والخارج.
هناك طريقان لا ثالث لهما لإصلاح أخطاء التجربة التي شاركت فيها كل الأطراف: إما النزول إلى الشارع بكل ما فيه من انقسام وإسقاط السلطة لإقامة وضع جديد، أو تدارك هذه الأطراف لهذا الاستقطاب، ومعالجته باتفاق وطني جديد، ذلك الذي يرسم خريطة طريق للتعامل مع الفترة المتبقية من الانتقال. وما أكثر الفرص للالتقاء القومي عبر مؤتمر جامع متاح لقوى الثورة، وليس هناك ما يمنع عقده مهما تباعدت الرؤى، وتشاحنت الأفئدة بالضيم المتبادل.
لا نشك مطلقا أن فلول النظام السابق ينتظرون بحرارة أن يفرز هذا الاستقطاب الثوري الحاد تحالفين، واحد لصالح دعم المؤسسات الانتقالية القائمة، والثاني لتهديمها. ولو كان بإمكان الفلول أن يسهموا لدعم أحد هذين التحالفين لوفروا كل طاقتهم لإنزال عضويتهم للشارع، وتوظيف كل إمكانياتهم الإعلامية، والاقتصادية، لدعم المنادين بإنهاء الفترة الانتقالية، ومن ثم تحقيق المزيد من الدمار وسط المكونات السياسية في البلاد حتى يعرقلوا التغيير.
إن الوضع الذي تعايشه البلاد لا يتحمل تصارع القوى الثورية عبر تحالفين مهما اختلفا بكثافة حول التعامل مع المستجدات التي فرضها العام المنصرم، خصوصا إذا نظرنا للتمايزات الحادة في الرؤى السياسية حول القضايا الداخلية والخارجية وسط تياراتنا القومية. وللأسف لم يفرض هذا الواقع حتى الآن جماعة من العقلاء في البلاد يجسرون بين هذه الأطراف المتنازعة، وحملها على تقدير مصلحة البلاد، وخلق التوافق الوطني عبر ميثاق جديد بدلاً عن فشل المتصارعين في تقديم خريطة طريق قومية بمشاركة كل القوى الثورية للوصول إلى لحظة صندوق الاقتراع.