شهد السودان اليوم (١٥ نوفمبر ٢٠٢٠) حدثا ايجابيا مهماً ، تجسد في عودة قيادات (الجبهة الثورية) التي تضم قوى ناضلت (بالبندقية) ضد نظام قمعي فاسد أسقطه الشعب السوداني (بطلائعه الشبابية) سلميا بصورة باهرة في ١١ ابريل ٢٠١٩.
(قوى الكفاح المسلح) شاركت في صناعة الثورة الشعبية، كما شاركت قوى سياسية ومهنية معارضة. حدث اليوم حيوي الدلالات، لأن الموقعين على اتفاق جوبا للسلام مع السلطة الانتقالية في الخرطوم برهنوا عملياً على أنهم استوعبوا المناخ الجديد في السودان، والمزاج الشعبي، الذي فتح أوسع أبواب السلام، إذ رفعت الثورة شعارها الرائع (حرية، سلام، وعدالة).هذا يعني أن قادة (الجبهة الثورية)وكوادرها قالوا من خلال اتفاق جوبا: وداعاً للبندقية، وللحرب، ولاراقة وسفك الدماء (المتبادل )، إذ لا مبرر للقتال الآن، بعدما فتح الشعب السوداني أبواب السلام بثورته المدهشة.
اليوم أجدد موقفي الداعم لوقف الحرب وإشاعة السلام، وهذا معناه أن أحيي قادة الجبهة الثورية، وقد عرفت عدداً منهم في اطار عملي الصحافي خلال سنوات القمع، ودعمت نضالهم في منابر اعلامية دولية بوصفهم أصحاب قضايا عادلة تخصهم والشعب.
أشد اليوم على كل الأيادي التي ساهمت في بلورة اتفاق جوبا، وكنت عبرت عن رأيي في هذا الشأن في مقال كتبته في ٢٨ أغسطس ٢٠٢٠(الرابط في نهاية هذه الحروف).
أيا تكن الملاحظات على اتفاق جوبا و(مساراته)، فالأهم في هذا السياق أن يتوافق السودانيون على إدارة خلافاتهم وتباين رؤاهم بالكلمة لا بالرصاص، هذا مكسب وطني كبير.
أي جهد بشري قابل للتحليل والتشخيص وللتطوير وسد الثغرات، أي علينا باختلاف رؤانا أن نتأمل ما يعنيه وقف الحرب لأهلنا النازحين واللاجئين، ومن سفكت دماؤهم وعذبوا وارتكبت بشأنهم أبشع الجرائم التي تستوجب محاكمات عادلة في القضاء السوداني والعدالة الدولية.
هذا يعني أن عودة (المحاربين القدامى) الى الخرطوم (للمشاركة) في بناء الوطن تشكل خطوة إيجابية ،يمكن أن تساهم في استقرار السودان وتنميته وبناء دولته إذا (صدقت نيات) الأطراف الموقعة على اتفاق جوبا.
الوطن سيستقر ويزدهر إذا وضعت كل القوى السودانية (وخصوصاً الحاكمة) الأولوية للأجندة الوطنية السودانية لا الخارجية، في وطن تعددي يحتكم فيه الجميع الى قيم وحقوق المواطنة من دون (تهميش) أو (تآمر) أو سقوط في وحل الاستقطاب والاستقطاب المضاد.
كتبت مقالاً في صحيفة (الحياة) اللندنية في ٢٢ أبريل ٢٠١٣ ونشرته صحيفة (سودانايل ) الالكترونية، بعنوان (دلالا ت رسالتين كردفانية ودارفورية الى الحكومة السودانية والوسطاء)عن خطورة الاستقطاب والاستقطاب المضاد، في فترة حكم الرئيس المخلوع عمر البشير(مرفق نص المقال في نهاية هذا المقال)، أنبه اليوم كما نبهت بالأمس الى خطورة نهج الاستقطاب والاستقطاب المضاد (سواء بالاتفاق أو لغة الخطاب السياسي)، وقد دعو ت الى سلام شامل في ضوء تفاعلات عودة قيادات الجبهة الثورية الى الخرطوم -وهي تفاعلات حيوية تحمل رسائل ودروساً عدة لأكثر من جهة داخلية وخارجية- آمل أن يعود الى ملتقى النيلين قريباً القائدان عبد العزيز الحلو رئيس الحركة الشعبية وعبد الواحد محمد نور رئيس حركة تحرير السودان.
أرى أيضا أن (مشاركة) الجبهة الثورية في الحكومة الانتقالية مهمة، خصوصاً أن الحكومة فشلت حتى الآن في وقف التدهور الاقتصادي، إذ يعاني الشعب من أبسط الاحتياجات، وفوق هذا وذاك، ارتكبت السلطة الانتقالية تجاوزات وانتهاكات ضربت المؤسسية.
الأدلة كثيرة ، ويكفي تأمل العلاقات الخارجية غير المتوازنة التي سقطت في وحل محور إقليمي ودولي، في غياب الشفافية التي أحاطت بتحركات تؤثر في استقلالية القرار، وقيم الثورة التي تركز في استعادة كرامة الانسان السوداني داخلياً وخارجياً .
ليس مطلوبا منا معاداة أية دولة في المنطقة أو العالم، لكن ليس مقبولا نهج التبعية لأية دولة.
الوطن يبنى بسياسة داخلية وخارجية تحترم إرادة الشعب ،وحقه في معرفة كل التحركات، والمساءلة عبر مجلس تشريعي.
صناعة العلاقات الدولية يجب أن لا تترك للأمزجة والعلاقات والمبادرات الشخصية، وما يقال لتبرير التحركات (الشخصية) أن هناك من يسعى إلى (مصلحة السودان) فهذا كلام لا يصمد أمام الحقيقة الساطعة أن مصلحة الوطن يحددها الجميع عبر قواه السياسية والمهنية، و(البرلمان).
أمام حكومة ما بعد اتفاق جوبا تحديات عدة، لعل من أهمها أن تتكون حكومة تعبر بقوة عن نبض الشعب وثورته، وأن تحافظ الجبهة الثورية على تماسكها ووحدة صفوفها.
السودانيون رائعون بمهاراتهم الفردية، لكننا فاشلون في العمل الجماعي، وإذا نجحت قيادات الجبهة الثورية في تعزيز تماسكها عبر خطابها السياسي و(برنامج مشاركتها) في الحكومة، وأفلحت في تقريب وجهات النظر حتى مع من يعترضون على اتفاق جوبا، أو من لديهم ملاحظات بشأنها، فانها بذلك تكون قد وضعت الحجر الأساس لمرحلة انتقالية تتكاتف فيها الجهود، وتسودها قيم العمل الجماعي المدروس.
تباين الرؤى حق مشروع للجميع، ويخطيء من يظن أن في مقدوره أن يقود البلد بمعزل عن دعم ومشاركة من يعارضونه أو يخالفونه الرأي من (قوى التغيير) ..أقول دائماً إن السودان يحتاج الى كل بناته وأبنائه لبناء السلام والمستقبل المشرق..
احذروا (يا أهل السلطة الانتقالية والشركاء الجدد) في خطابكم للشعب (لغة) الاستقطاب، والاستقطاب المضاد، لأنها تشتت الشمل، وهو أصلا ًمشتت ..إنها (لغة ضارة)، بكم وبالوطن، وبمشروع التغيير الديمقراطي الذي يتيح أوسع فرص التباين في الرؤى والمواقف.
لغة التوافق تداوي الجراح، وتقرب الصفوف ان لم توحدها، والوطن وشعبه في مسيس الحاجة إلى خطاب سياسي يجمع ولا يفرق.
تحياتي للعائدين الى ربوع الوطن بعدما انتصرت إرادتهم النضالية .. وارادة الشعب باختلاف ألوان الطيف.
مع عودة (الطيور المهاجرة) .. أقول :الآن بدأت مرحلة الامتحان الأصعب لقادة الجبهة الثورية، وللحكومة الجديدة (المقبلة) ولمجلس السيادة في مرحلته الجديدة بعد أن تطل وجوه أعضاء يمثلون (شركاء السلام)..
شعبنا رحب بـ (الشركاء الجدد) في مشهد جماهيري غفير اليوم.. ويرسل رسائل عدة، و سيتابع تطورات المشهد.. وسيحكم لكم او عليكم.
في زمن الحرية يتشكل (رأي عام) مؤثر.. لك أو عليك.. أعتقد بأن ضخ دماء جديدة برؤى جديدة (بعد اتفاق جوبا) في جسد السلطة الانتقالية (المنهك والضعيف) يعد أمرًا مهماً، وقد يشكل فرصة لاعادة الحسابات، وفتح باب للأمل.
باب الأمل ينفتح اذا عبرت الحكومة الجديدة ن نبض الثورة الشعبية بقوة، وتفاعلت مع نبض وتطلعات الشباب من الجنسين، وركزت في أولويات الشعب وهمومه الحياتية ، بعيدا عن محاولات القفز في الهواء والرسم في الماء بمشاريع خارجية انصرافية.
محمد المكي أحمد
لندن ١٥ نوفمبر ٢٠٢٠م
مقالي في ٢٨ أغسطس ٢٠٢٠ بعنوان (عندما تنطلق حمائم السلام من جوبا)
مقالي عام ٢٠١٣ عن ( دلالات رسالتين كردفانية ودارفورية الى الحكومة السودانية والوسطاء)