لست قلقًا ولا منزعجًا من الحراك البشري والتدفقات السكانية الكبيرة التي يشهدها السودان، حاليًا، من أطرافه نحو مركزه النيلي، وبخاصة عاصمته الخرطوم. فالسودان، ككيان سياسي موحد، هو حديث جدًا، مازالت دولته في مرحلة البناء والتشكيل، والبحث عن هوية يتوحد حولها سكانه متعددي الإثنيات والسحنات واللغات.
وهذا النوع من الحراك ليس جديدًا، فقد شهده السودان خلال مختلف الحقب التاريخية، غير أنه قد وصل ذروته خلال فترة الحكم الثنائي (1899-1956)، وبخاصة وسط القبائل المستقرة بشمال السودان، فقد هاجرت جماعات منهم تجاه غرب السودان ووسطه وشرقه وجنوبه، بحثاً عن مصادر رزق جديدة بعد أن ضاقت عليهم سبل العيش، فعملوا بالتجارة في مديريات غرب السودان وجنوبه، وبالزراعة في المشروعات المروية والمطرية، وفي المهن الجديدة التي أوجدتها المشروعات الزراعية الكبرى والمشروعات التجارية والصناعية، وفضلت جماعات منهم العمل للحكومة في مصالحها المختلفة.
وحول صناعة حلج القطن ومطاحن الغلال ومعاصر الزيوت، تدفقت جماعات من الجعليين، والبديرية، والشايقية، والدناقلة، والمحس، والكواهلة، وغيرهم للاستقرار الحصاحيصا، والحاج عبد الله، وأبو عشر، وطلحة، وطيبة، وسنار، وطوكر، وبورتسودان. ونزحت جماعات منهم، وغيرهم من البني عامر، والعوامرة، والخوالدة، والفادنيا، والشكرية، والهدندوة إلى بورتسودان للعمل في الميناء والسفن وأعمال الشحن والتفريغ. واختار آخرون مثل المناصير العمل في السكة حديد في مركزها الرئيس بمدينة عطبرة، أو بمحطاتها المنتشرة على امتداد خطوطها.
وفضل الشايقية وغيرهم العمل للشرطة والجيش المصري ثم قوة دفاع السودان، فانتشروا في جميع أنحاء السودان، مثلهم مثل جماعات الدناقلة والجعليين الذين جابوا السودان، تجارةً، من أدناه إلى أقصاه واستقروا في كافة أنحائه مدناً وريفاً، غربًا وشرقًا وجنوبًا.
وحتمًا، لقد أسهم البحث عن مصادر الرزق الشريف تجارةً وكُرْوَة، خلال فترة الحكم الثنائي، في إعادة نشر وتوزيع قبائل السودان وبطونه وبثها من جديد في أرجائه. تجاوروا سكناً وعملاً، فتعاملوا، وتعارفوا، وتحابوا، فتصاهروا، وبهذا وبغيره، أسهموا في تشكيل البنية الاجتماعية الجديدة، وفي بناء الشخصية السودانية المعاصرة، التي وضعت لبناتها الأولى في نبته وكرمة الكوشيتين، وعلوة والمقرة المسيحيتين، وسنار والفاشر الإسلاميتين، وغيرهما من الكيانات السودانية التي شهدتها الحقب الوسيطة من تاريخيه، وهو تاريخ مهملٌ.
الحراك الجديد، حتمًا سينتهي مزيدًا من التلاقح والانصهاار، بناءً لدولة السلام والحرية والعدالة والتنمية.