انتظار على أحرّ من الجمر
جلست بالأمس أمام التلفاز ولم أجد في خضم حملات الإعلام الألماني أيّة معلومات جديدة عن الانتخابات الأمريكية أو عن تصريحات الرئيس المخلوع ترامب الذي احتجب عن الأنظار منزويًا في إحدى ملاعب القولف التي يمتلكها. حقيقة لم أجد هنا وهناك إلا إعادات لما حدث في خلال اليوم الماضي أو لنقل عن أحدات اللحظة في الشارع الأمريكيّ ورود الفعل الكثيرة لا سيما أمام مقرات صناديق الاقتراع. عشت حالة أشبه بالتوتر وعدم الراحة خلال هذا الأسبوع بصورة أدهشتني أنا نفسي. أسائل نفسي، هل ستحدث حرب بأي صورة من الصور بين جمهور ترامب ومسانديّ بايدين وهريس؟ وعندما “غُلِبَ حماري” سلكت طريقي لا ألوي على شيء إلا وأبحث واستعلم عن هذه السيدة العصماء. وأول شيء شرعت فيه، كمختص في علم اللسانيات، السؤال عن أصل الاسم، وقلت في نفسي إنه اسم ساميّ، حتمًا مشتق من الجذر (ك-م-ل)، أي كَمُل يَكمُل كمالًا وكمولًا. والكمال هو التمام كما نعلم. وليس له علاقة بأحد بحور الشعر العربيّ “الكامل”، ووزنه (متفاعلنْ متفاعلُنْ متفاعلنْ – في كل شطر). فالاسم السنسكريتي الذي تحمله كامالا هارتس هو دون أدنى شك عادة سلكتها كل المجتمعات، بل هو رابط تأريخيّ وعرقيّ بل حضاري يربط الفرع (الابنة) بالأصل أي بمسقط رأس أمها بالهند، منطقة التميل.
رجعت أسائل نفسي ثانية واسرد، بما أن الأمّ من أصول هندية، وعلاقة الأسماء الهندية بالعربية ورادة في كل الأحوال، كما في طارق وتارا (مؤنث)، الذي يأتي هنا بمعنى النجم في سيمائية الكلمة باللغة الهندية، (على عكس العربية: طَرَقَ والتي تقودنا إلى طرق الباب أو ما شابه ذلك). على كل وجدت هذا المعنى بالهندية الذي يبعد عن معاني العربية بعدًا كبيرًا، وتفسيره كالآتي: كامالا، اسم هندي يطلق على الإناث، ويعني الأحمر الشاحب أو الحديقة، وهو اسم رقيق وجميل في معناه ونادر الانتشار. وصاحبة اسم كامالا تتميز بشخصية متجددة وتحب الحياة الحرة والمستقلة بعيداً عن القيود، كما أنها بسيطة ومتواضعة. وهذا التعريف مدهش ومثير على حد سواء، وكأن الأمّ كانت تعلم أيما علم بالنهج الذي ستتبعه هذه الطفلة كامالا في حياتها فيما بعد، فمهدت لها الطريق أن تكون صنديدة، مشرقة، برَاقة، بليغة، مستقلة، قانونية ترنو إلى استرداد الحقوق إلى أهلها، كما جاهدت الأم نفسها من أجلها، وإلى فرد بساط الحرية لكل من ينشدها بالحق وبصوت القانون. هذه هي هذه السيدة الفريدة التي سوف تتربع في مدخل العام المقبل على عرش نائبة رئيس الحكومة الأمريكية وأنا أشعر أن جو بايدن سوف يتخلى في نهاية فترته الرئاسية لها لتصبح هي أول رئيسة لأمريكا على الإطلاق. فدعونا نتعرف عليها قليلًا.
الأسرة: أمّ هنديّة تاميلية وأب جمايكيّ:
حقًا هي مسيرة جدّ مدهشة ومثيرة ومؤلمة بعض الأحيان على حد سواء. لقد ولدت كامالا عن أمّ هندية، اسمها شيامالا غوبالان، ليست سيدة عادية، لكنها أكاديمية وعالمة من أصول تاميلية هندية، من مدينة مدراس التي اشتهرت في كل أنحاء العالم بتوابلها الفواحّة كما بهار الكري مدراس الذي تحمله أكلات المطاعم الهندية. تخصصت هذه السيدة في مرض سرطان الثدي، وهاجرت في عام ١٩٦٠ إلى أرض العم سام من أجل الشروع في الدراسات العليا وعمل أطروحة دكتوراه في مجال الغدد الصماء. أما عن والدها، دونالد هاريس، فهو من أصول أفريقية من جزيرة جمايكا، هاجر من مسقط رأسه في عام ١٩٦١ أيضًا بهدف إكمال دراساته العليا في علم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بركلي. وعمل كأستاذ في علوم الاقتصاد في جامعة ستانفورد. فكامالا تنبثق من صلب أسرة دبلوماسية (أبو الأم كان دبلوماسيًا)، أكاديمية وعلمية بحتة، وربما كان لهذا الخط العلميّ الممنهج في لبنات تربيتها وتأهيلها الأكاديمي أعظم الأثر في أن تتبع خطوات أسرتها في الشروع في الحقول العلمية والأكاديمية. مايا هاريس هي الشقيقة الوحيدة لكامالا وتصغرها بالعمر. اختارت الأم اسمين هنديين من اللغة السنسكريتية استمدتهما من الأساطير الهندوسية هادفة على أن تحفظ لهما هويتهما الثانية، هوية الأصل ومسقط الرأس. لقد كانت في السابعة من عمرها عندما انفصل والداها عن أمها، ومنحت السلطات القضائية وقتئذ الأم شيمالا حضانة الطفلتين كامالا ومايا. ذكرت كامالا في غير مقام، أنّه لم يكن من المسموح لأطفال الجيران أن يلعبوا معها ومع شقيقتها، عندما كنّ يزرن والدهنّ في عطلة نهاية الأسبوع، ذلك نسبة لبشرتهنّ وتصنيف الأب العرقيّ رغم أنه كان عالما وأكاديميًا يعمل بأرقى الجامعات الأمريكية. لكن وكما نعمل جميعًا يا سادتي أن حياة الأطفال بعضهم البعض قد تكون أحيانًا قاسية لا سيما تجاه الأقليات العرقية والمعوقين على حد سواء. على كل انتقلت كامالا وهي بنت الثانية عشر مع أسرتها إلى مدينة مونتريال في مقاطعة كيبك الكندية، حيث عملت الأم هناك كباحثة أكاديمية بالمستشفى اليهودي العام، إضافة إلى أنها كانت عضوة هيئة التدريس بجامعة بالمدينة.
النشأة:
ولدت كامالا في أوكلاند في كاليفورينا. يدهشني التصنيف الذي يأتي دائما بعد اسم هذه السياسية المحنكة، أنها هندية وأفرو أمريكان أيضًا، لكن ماذا لو سألناها هي نفسها، وكيف ترى شخصيتها بين كل هذه التصانيف العرقية والإثنية. كامالا ترى نفسها أمريكية أولًا وأخيرًا وهذا هو المهم يا سادتي. لقد نشأت بمدينة بركلي في ولاية كاليفورنيا، وكان تختلف منذ نعومة أظافرها إلى قداس الكنيسة الأفروأمريكيّ. وكانت تشارك مع أختها مايا في الكورال الموسيقي بالكنيسة كما أنها اعتادت من جهة أخرى على ارتياد أحد المعابد الهندوسية فنجدها منذ صغرها نشأت منفتحة على الثقافات الأخرى، دون أحكام مسبقة من قبل الأسرة أو محيطها الاجتماعي. وقد ترعرعت في كنف أمّها شيامالا التي عرف عنها أنها كانت ناشطة نسوية بجدارة وقد كرست حياتها من أجل العدالة المجتمعية. وأنا أعتقد أن هذه المرأة تعتبر فرصة نادرة للعالم، لنسج مبادئ العدل والتسامح بين الديانات والأعراق والثقافات على مستوى السياسة العالمية، من جهة، نسبة لأصولها ونشأتها الاجتماعية، ومن جهة أخرى نسبة لما عاشته وعانته من أمور متعلقة بالعنصرية والتفرقة في مجتمع بُني على التفرقة العنصرية لا سيما في الحقبة التي كانت هي فيها هي طفلة. بدأت كامالا بالاختلاف على روضة للأطفال بمدينة بركلي ثم على المدرسة التي عمدت على إلغاء التفرقة العنصرية في حافلات الترحيل المدرسيّ في محاولة جادة لتحقيق التوازن العرقيّ بالمدارس العامة بالمدينة. وكانت نسبة الركاب البيض في الحافلة التي كانت تقلها إلى المدرسة يفوق التسعين بالمئة.
امرأة قانون وسياسية من الدرجة الأولى:
تخرجت كامالا هاريس من جامعة هاورد وجامعة كاليفورنيا من كلية هيستينغز للحقوق. بدأت حياتها المهنية في مكتب المدعي العام لمقاطعة لأميدا ومن بعد لمقاطعة سان فرانسيسكو ومن بعد للمدعي العام لمدينتها. وأبلت في هذه المجال بلاءً حسنًا حيث انتخبت في عام ٢٠٠٣ كمدعية عامة لمقاطعة سان فرانسيسكو ومن ثمّ انتخبت في عام ٢٠١٠ في نفس المنصب لولاية كالفورنيا وأعيد انتخابها في عام ٢٠١٤ لنفس المنصب وسلكت بعد ذلك طريقها من نجاح إلى نجاح لا تلوي على شيء. وشغلت هذه السياسية والمحامية العصماء منصب عضو مجلس الشيوخ الأمريكي الأحدث عن ولاية كالفورنيا في عام ٢٠١٧. لقد سبق وترشحت عن الحزب الديموقراطي لمنصب الرئيس لانتخابات ٢٠٢٠. هزمت كامالا لوريتا سانشيز في انتخابات مجلس الشيوخ لعام ٢٠١٦ لتصبح ثاني أمريكية من أصل أفريقيّ وأول أمريكية من أصل جنوب آسيوي تعمل في مجلس الشيوخ الأمريكيّ.
حقيقة يا سادتي من ذاق المرّ في حياته ورأى الظلم في نفسه وأهله لابد أن تنشأ فيه ومنه علامات الشهامة والدعاوى لقول الحق وفعله. فقد دعت كامالا هاريس، بصفتها عضوًا في مجلس الشيوخ الأمريكي، إلى إصلاح الرعاية الصحية، وإلى طريقة لحصول المهاجرين غير المسجلين على الجنسية، وقانون دريم وحظر الأسلحة الهجومية وإصلاح الضريبة التصاعدية وهذا ما أكسبها شهرة وطنية وعالمية حتى بسبب تشكيكها البيّن والصريح في أعضاء حكومة الرئيس المخلوع ترامب ذلك خلال جلسات استماع مجلس الشيوخ.
كلمة هريس التاريخية:
جلست أترقب الخطاب، ويا له من خطاب. حقيقة ودون أن أشعر أحسست أن ماء عينيّ بدء في الانسياب، هل هو الاحتقان الذي طال واستدامته أغلب الظن وقاحة السياسة، أو هي العبرة لكل ما حدث في الأشهر، السنوات بل قل القرون الماضية في حق العالم والإنسانية جمعًا؟! أتعجب أن الكل صمت دهرًا ولم ينطق حتى كفرًا لصلافة رئيس يدعى ترامب يحسب نفسه إله، مؤله، يهابه الكل ويركع ويسجد له الساجدون بكل ألوان الطيف، رجل يمشي في الأرض مرحًا ويكاد أن يخرق الجبال قبحًا، يحدث نفسه في كل لمحة ونفس ويوحي للكل بذلك قائلًا: يا دينا ما فيك إلا أنا! على أيّة حال، جلست واستوت أرضي وأعصابي على الجودي ريثما طلّت كامالا ببهائها وألقها على الدنيا والملأ. امرأة كما يقول الألمان يمكن مسّها أي قريبة من النفس والقلب على عكس الترامب.
لقد افتتحت كامالا هاريس، أول خطاب لها بعد إعلان فوز جو بايدن بالرئاسة الأميركية، بمقولة لعضو الكونغرس الراحل، جون لويس، مفادها أن “الديمقراطية ليست حالة بل هي فعل” وقالت هاريس في كلمة تقديم لخطاب جو بايدن، إن “قوة الديمقراطية الأميركية تكمن في قوة الشعب ومكافحته من أجلها والتضحية في سبيلها، “لأن الشعب وحده هو الذي يملك القدرة على بناء مستقبل مزهر.” وأضافت أنه عندما كانت الديمقراطية “في أساس تصويتنا وكانت أميركا وروح أميركا على المحك أنتم فتحتم روحا جديدة لأميركا”. كما عبرت عن شكرها لكل الناخبين الذين “اختاروا الأمل والعلم والتسامح والحقيقة. أنتم اخترتم جو بايدن كرئيس للولايات المتحدة الأميركية”، مضيفة أن تجربة جو الشخصية ستنعكس على رئاسته لأنه “يعرف كيف يلأم الجراح، رجل بقلب كبير وحبه لزوجته جيل ولهانتر ابنه ولأحفاده وكل عائلته”. وكان بايدن قد فقد زوجته الأولى وابنه في حادث سير مأساوي في السبعينيات، وانعكس هذا الحادث على حياته السياسية التي تمتد على مدى أربعة عقود.
وتوجهت هاريس بالشكر أيضا لكل النساء مضيفة أن المرأة ضحت من أجل الحصول على حقها المشروع” لا سيما المرأة السوداء التي طالما هضمت حقوقها بيد أنها عملت بنكران ذات من أجل الحفاظ على ديمقراطيتنا”. وأضافت ” قبل 55 عاما عملت النساء من أجل الحصول على حق الانتخاب واليوم أفكر فيهنّ، فهن رأين ما يمكن إنجازه رغم العقبات والتحديات. لقد تجرأ جو على تخطي العديد من الحواجز لاختيار امرأة لتولي منصب نائب الرئيس.” وقالت هاريس موجهة خطابها إلى الشعب الأميركي “أيا كان من صوتوا له، أنا سأعمل كل يوم بجد لكي ننقذ حياة الأميركيين ونخرج من أخطار الجائحة وأن نضع حدا للعنصرية في نظامنا القضائي، والتغير المناخي.” وشددت نائبة الرئيس الأميركي المنتخب على أن الطريق لن تكون سهلة “لكن أميركا مستعدة وجو وأنا، انتخبنا رئيسا يمثل أفضل ما فينا، رئيس لكل الأميركيين.”
خاتمة:
لم يكن من المنتظر أن تنتهي ولاية الرئيس المخلوع دونالد ترامب بشكل طبيعيّ كما هي الحال في نهاية الولايات السابقة لمن سبقه من الرؤساء. لم يكن ترامب يوما من الأيام سياسيا من الطراز الاعتيادي المتعارف عليه، لا في سلوكه ولا حتى في ممارسته لمنصب رئيس أقوى دولة في العالم. لقد تعامل مع هذا المنصب وكأنه قد ورثه من أبيه أو جده أو كأنه تركة أو حقّه الشخصي المشروع له ممارسته، وليس لأي شخص آخر دونه الفصل في أموره، إيجابًا كان أم سلبًا. لقد حسب الرجل – الذي شرح عدد من أطباء النفس نفسيته بالمريض – نفسه رسولًا أرسل لبني سام حتى يخرجهم من قبضة “الإستلابلشمنت” إلى برّ الديموقراطية الحقّة، من مستنقع واشطن الوراثيّ إلى بستان السماحة الوطنيّ. سوف تكون نهاية هذا “البطل” نهاية لا يحمد عقباها، سوف تتصدع أرجاء مملكته بترهات المحاكم وقاعاتها، ذلك إذا أفلح بقوة دفعه الرباعي للدعاوى حتى تصل إلى محاكم وقضاة يفصلون في أمرها. الآن حصص الحق أخيرًا وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا. وفي مقتبل العام المقبل وفي بداية الأسبوع الثالث من شهر يناير سوف تخرج الشياطين من بيت أبيض سكنته دون أن تكون جديرة به، ستخرج رغم عنها، رضيت أم أبت، لتفسح المجال للملائكة وكما يقول المثل: إذا ذهبت الشياطين حضرت الملائكة، فهملي يا كاملا هاريس وهلمّ يا جو بايدين فالعالم ينتظر رجوع المياه إلى مجاريها، فكم طال انتظارنا لها.
(نقلًا عن المدائن بوست)