• وهكذا، وعندما أشرقت شمسُ يوم الخميس 26 نوڤمبر على أهلِ السودان، كان الإمام الصادق المهدي، وقُبيل شروقها بسويعات، قد أزاح عن كاهله أثقال الدنيا، وأشغالَها، ثم توارى خلف السحاب إلى غيرِ رجعة، بعدما ألتمع كشهابٍ مُشِعٍّ، في السماوات، وعمَّت أنوارُه الكاشفة الأرجاء، ليبقي وهجُه من بعده لأزمانٍ مديدةٍ آتية !!
• توارى في هدوءٍ، ووقار، وصبر، بعدما ظلَّ مِلء السمع والبصر، وشاغلاً للدنيا والناس، وفاعلاً في دنياوات الفكر، والسياسة، والثقافة، والأدب، وشؤون الحياة المختلفه طوال عمره !!
• لقد خالف كثيرون الإمام الصادق في آرائه، ومواقفه، وإجتراحاته، وتصريحاته، حتى من داخل حزبِه – وهذا شأنُ الناسِ مع كل مجتهدٍ ومفكّر- ولقد تطاول عليه جرّاء ذلك بعضُ هؤلاء، ورجموه غيباً، وأساءوا إليه، ولكنهم، ومن عجبٍ، يتفقون جميعاً، ويشهدون له أنه لم يثأر لنفسه قط، ولا دافع عنها، ولا جشَّمها مشقةَ الرد وتجريح الآخرين، لا عندما كان في سُدة الحكم، ولا عندما خرج منه، وهذا كان من عجائب صفاته، وحِلمه، وتجاوزِه، وعفَّتِه !!..
ثم أنه قد ربّى أولاده وبناتِه على ذلك، فإننا لم نسمع أن أحد أبنائه أو بناته قد إنبرى للرد بالإساءة على الإساءات الكثيرة التي تطال أباهم، ويشهد الناس، ونشهد على ذلك فيما يجمعنا معهم في الأسافير الكثيرة المنشورة !!
• سيكتشفُ كثيرون، ممن تجنَّى عليه، أنهم قد ظلموا رجلاً تقدمياً حُراً، كريماً، نادراً، ذا أرومةٍ، وتربية، وعلى خُلقٍ رفيع، ونفسٍ أبيةٍ، جوَّابةِ آفاق، وديموقراطياً كبيراً، من طرازٍ ليس له مثيل !!
ولقد سعى الإمام أن يُربِّي نفسه، وأسرته، وأتباعه، على كل ذلك، وحتى آخر حياته، ونجح في ذلك نجاحاً متقدماً..
• إنَّ مما إختطَّه الإمامُ الصادق لنفسه منهجَ الديموقراطية الليِّنة، والوسطيةَ الإسلامية المتسامحة، في ظل الدولةِ المدنية الحانية المتعايشة، ثم كرَّس حياته، وفكره، وكتاباتِه، ومخاطباته، وتصالحاته، ومقارباته لِما آمن به، فلم يرضَ عنه كثيرون، حتى من الأقربين، بسبب هذا الخط الوسطي المتصالح، الذي لا يُرضي الجميع، ولكنه لا يُغضِب الجميع !!
• في إحدى مقابلات الإمام قال إنه يتمنى أن يُوضع على قبرِه شاهدٌ مكتوبٌ عليه ‹من الرِّكاب إلى التراب› وهاهو بالفعل ما تدلَّت رِجلُه عن الرِّكاب أبداً، إلا إلى التُّراب، إذ ظلَّ يكتبُ، ويقول، ويجترح، حتى قبل أقل من أسبوعين من رحيلِه الفاجع، عندما غطّت أجهزةُ الأطباء على فمِه، وعروقِه، وصدرِه، ومراكزِ نورِه، وكبّلت يديه، فترك لهم الجسدَ الناحل غيرَ آبِه، وأختار رفيقاً عالياً، إلى جوار ربِّ النورِ، الحليمِ الكريمِ، الرؤوفِ، الرحيم، فرضيَ الله عنه في الصالحين..