(بكت زوجة حمد وشتان، فارس الكبيشاب من شعب الكبابيش، القتيل. فسألت القوم العائدة من القتال الذي صُرع فيه:
سيد الخيول الجن وين سيد بهانا
قمراً مضوي وغاب فرقك شوانا)
كان ميلاد المرحوم السيد الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي بحي العباسية بأم درمان في ٢٥ ديسمبر ١٩٣٥ في بيت وَتد نفسه لا في التاريخ فحسب بل في المستقبل. وتراث البيت محفوظ بسخونته في “تيرموس” كما وصف ذلك مصري زار جده السيد عبد الرحمن المهدي. فلما سمع المصري أماديح الأنصار المناضلة قال للجد: هذا المديح هو ثيرموس جهادكم حتى يخرج للعيان.
صدر خلال ٢٠١٥ و٢٠١٦ كتاب سائغ من ٤ أجزاء في سيرة السيد الإمام عنوانه “السيد الصادق المهدي: سيرة ومسيرة”. وميسر للراغب على موقع الإمام الصادق المهدي على النت. حشدت له كاتبته، السيدة رباح الصادق المهدي، ضروباً من التآليف ليخرج بالقوة والإحاطة والتدقيق الذي رآه القارئ.
نظرت رباح في مذكرات للإمام أكثرها لم يقصد الترجمة لشخصه بل هي عن روتين حياته السياسة. فظل غير ميال للترجمة عن نفسه بنفسه أو بغيره حتى حملته رباح على ذلك حملا. فتجدها نظرت في مذكرة كتبها بعنوان “ثلاث سنوات في خمسينات القرن” و” تضاريس الذاكرة”، و”مذكرات سجون” وهي أقرب تآليف الأمام للنجوى عن الذات. ثم نظرت في كتابه “جهاد في سبيل الديمقراطية” ضد نظام الفريق إبراهيم عبود (1958-1964) ثم “المصالحة الوطنية “مع نظام الرئيس نميري (1969-1985). ثم نظرت في خطبه كرئيس وزراء للأعوام 1966-1967.
واستعانت رباح بوقائع ندواته التي شهدتها من بين قلة تعد على أصابع اليد. فقد عقدها لأبنائه وبناته ممن كان يغيب عنهم في السجون وهم زغب فراخ. فعلى الأقل لم تغفر له رباح هذه الغيبة. وكان يفحمها قول رفيقات الدراسة: “إنتو ما عندكم أبو؟”. وبقي في نفسها من تلك الطفولة اليتيمة شيء.
وحرص الإمام في ظروف أفضل أن يجتمع بهم ويحدثهم عن نفسه. وأتاح الظرف لرباح كمؤرخ من الداخل أن تقع على إرث مكتوب وغير مكتوب للأسرة. فنظرت في خطابات الإمام لأخوته ووالدته ثم خطابات الإمام عبد الرحمن لوالدته السيدة رحمة بنت عبد الله ود جاد الله ود بلليلو، كسّار قلم مكميك. وكان الإمام قريباً من جده ويقضى وقتاً طويلاً معه بالجزيرة أبا.
وستظل ميزة بحث رباح على ما عداه أنها جاءت إليه بفلولكلور الأسرة. فالإمام الوالد يمزح في رسائله بإشارات مقتضبة مثل “القعونجة، شيلوها الملعونة” أو “بالتي أحسن بالتي أحسن” أو “جعلتم الموت حرام في مصر” فتخرج طرائف متداولة عن بعض أهله وشيعتهم تمتع القارئ. وكان تأثير أمه رحمة كبيراً. كانت شغوفة بقصص المهدية والأنبياء وبغناء الحقيبة. ولها صالون أدبي. وانشغال بمسألة النساء. فكونت جمعية “ترقية المرأة” لتلك الغاية. ولم تكن حتى شلوخها فولكلوراً لا مهرب منه. فقد كان والدها عبد الله ود جاد الله منع فصادها فانسرقت وفعلتها. وكانت حين “تلوليه” تعرف أنه مسير إلى مصائر صعبة المراقي.
قولنا إن “سيرة ومسيرة ” ترجمة للإمام من العبارات التي يقال إن مفرداتها تلغي واحدها الآخر مثل قولك “اقتصاد السودان ” مثلاً. فعهدنا أن الذي يُكتب عن الأمام، أي وكل إمام، هو المناقب. وهي تآليف من محبين للإمام المعني كلها تزكية وتمجيد طلباً للبركة لا التاريخ. ولم يسلم أمامنا من مثل هذه التأرخة المناقبية في الكتاب وفيما اكتنف طفولته لا بعدها. وهو باب في سيرته عذب تطرب له النفس.
فقبل ميلاده قيل إن عمه يحي المهدي، وكان في الرابعة، يردد بتلقائية:”مجاهد جا من كبكابية”. ولما ولد الإمام قيل إن تلك كانت نبؤة طفل طليق الخاطر. وقيل إن خبر مولده بلغ جده في الجزيرة أبا عن طريق قمرية حطت بين يديه وهو يقرأ “سورة إبراهيم” من القرآن حتى هم أن يسميه “إبراهيم”. وخبر القمرية وكبكابية ألهما رباح هذه الأهزوجة الغراء:
يا قمرية طيري فوتي لي أبا
لي جناحك ديري واحملي النبا
ركي عِنْ سيدي
قولي ليه جا
كلـّميه عيـدي
قولي ليه جا
إن قالوا نور عَبا
أو قالوا خير رَبا
كاشف ضلام سجـا
والتبعو مـن نجا
من كبكبية جا
مجاهداً رجا
في العباسية جا
سليم قلب حجا
هذه فتاة بأبيها معجبة: أم ماذا؟
(هذه ملحوظات عن مسودة باكرة للكتاب تفضلت السيدة رياح بعرضها علينا. وسنكملها في المرة القادمة)