• رحلَ الإمامُ الصادق المهدي إلى جوارِ ربه بهدوء، تاركاً للناسِ دنياهم، وإصطراعاتِها، ومشاكساتِها، ومناكفاتِها، لينعمَ بالراحةِ الأبدية في الجوارِ الكريم، إن شاء الله.. رحلَ ولقد نال أثناء مرضِه، وعند وفاتِه، ما لم ينله في حياتِه، من رضىً، ودعوات، وترحُّمات، ومحبَّات، من كلِّ الناسِ أجمعين، إلا أقل القليل منهم !!
ليت الإمام، رحمةُ الله عليه، حاز، هذا الرضا الأشمل، والقبولَ الأعم، والمحبةَ الجارفة غير المتكلَّفة، ومجردَ الإستماع المتأدب له أثناء حياته، حين كان يكتب، ويحاضر، ويؤلِّف، ويجترح، ويقترح، وينظِّر، إذن لكان الحكمُ عليه أقسط، والقطعُ على قولِه وإجتهادِه أقوم، ولكان حالُ قومِه ربما غير الحال !!
ولكن، وبكل أسف، كان من سوءِ حظ أهلِ السودان، أن عددَ مؤلفي الكتب فيهم، ومنهم الإمام الصادق، قد قلَّ إلى حدٍّ بعيد، وقد قلَّ تِبعاً له عددُ من يقرأون، حتى كاد أن يتلاشى !!
• إنَّ من سوءِ حظِّنا كلِّنا، مثل الآخرين، أنه لم يعُد متاحاً لنا أن نقرأ كما كنا نفعل في السابق، وسيكون من سوءِ حظِّ كلِّ كاتبٍ، أو مؤلفٍ للكتب، ترتيباً، أن لا أحد سيقرأ له في هذا الزمان، بما يأمل ويستحق، بل سوف لن يسمع به كثيرون، إبتداءً، مهما قيل إنه علا سهمُه في الكتابة والتأليف !!
وإنَّ أشقانا على الإطلاق بقلةِ القراءةِ أو عدمِها هم غالبُ أبنائنا، ممن نشأ وتربى في الثلاثين، أو الأربعين سنةً الماحقة الآخيرة..ومع تضاؤل وتيرة القراءة والإطِّلاع في العالم كله، فإن هذه الأجيال هي الأشقى بقلة القراءةِ عالمياً، والأكثر شقاوةً بها سودانياً، وبطريقةٍ محزنةٍ إلى حدٍّ بعيد !!..
• جاء الإمام الصادق المهدي، رحِمه الله، في زمانِ عدمِ الكتابة والقراءة، وفي زمانِ الثقافةِ السماعية، الإسفيريةِ قصيرةِ النفس، التي لا يصبر قارئها لأكثر من ثلاث دقائق في الموضوع الإسفيري الواحد، فيمَلُّ القراءة، ويُنهيها فوراً، متنقلاً إلى موضوعٍ آخر قصير النفس !!
إننا نتأسفُ حين نتآنسُ، ونتناقشُ، ونتجادلُ مع بعض زملائنا وزميلاتنا، ناهيك عن أبنائِنا، فنجد أنهم ما قرأوا لمحمود محمد طه قط، ولا لحسن الترابي، ولا لمنصور خالد، ولا لجمال محمد أحمد، ولا للمحجوب، وربما أنهم لم يسمعوا ببعضِهم!! وأما مع الصادق المهدي، الذي تجاوزت مؤلفاته المائتي مؤلَّف، ومع عدم قراءتهم لمؤلفٍ واحدٍ له، يصفونه بأقسى الأوصاف ويفتئتون عليه، ويقوِّلونه ما لم يقُل، مع أنهم ربما لم يستمعوا إليه إلا في مقاطع الڤيديوهات المفبركة المزوّرة !!
• لم ينل الإمام الصادق المهدي حظاً طيباً، ولا رضىً شاملاً حين حكم، ولا حين عارض، ولا حين كتب، ولا حين ألَّف، وحاضر، وإقترح، وإجترح.. ولكنه نال محبةً تلقائيةً متدفقةً، حين مات، لم ينلها أيُّ زعيمٍ سودانيٍّ في الغابرين، مع ظروف البلاء والوباء، والتحوُّط، والقطيعة، وكأنَّ شعبه يريد أن يعتذرَ له، ويطلب مسامحته وعفوَه ورضاه !!
• لا يستطيعُ المرءُ المُنصِفُ إلا أن يتولاه الإحساسُ المرير، وأنصارُ الإمام يهيلون على قبرِه التراب، وهم يبكون، وينوحون، إنهم إنما يدفنون السودان القديم الجميل، الرائع، المتسامح، المثقِّف القارئ، المُحترم بين شعوب الأرض قاطبة، ليتركوا خلقاً تائهاً هشّاً، اللهُ وحده يعلم طبيعتَه ومصيرَه !!
• كثيرٌ من العظماء، والأصفياء، والنجباء، وحتى الأنبياء لا يكرِمهم قومُهم، ولا يستمعون لهم، ما داموا فيهم، وإذا قالوا ‹لغَوا في أقوالهم› ولكنهم يكتشفون عظمتهم بعدما يعرفها، ويشير إليها الآخرون، أو عندما يموتون..وربما يقرأ الناس للإمام الصادق بعد مماته فيكتشفون أنه كان رجلاً عظيماً، ومفكراً حداثياً، ومجتهداً كبيراً، إشتقَّ طريقه بنفسه، التي علَّمها، وهذّبها، وثقَّفها، وجلَّاها، دون إعتمادٍ على إرث -إذِ الإرثُ إذا أعطى المال والجاه لا يُعطي الثقافةَ والأدب- ولكنه كان غريباً في قومِه، كصالحٍ في ثمودِ !!