لم تكن من أمنياتى في أي يوم كتابة سطر في نعي الحبيب الإمام الصادق. فقد مثل لي دائما صورة الإنسان النموذج لا عجب أن تمنيت له طول العمر. ولاحقًا مثل لي تلك الفئة من أهل الفكر الذين يقولون الحق ويقفون مع الوعي ويؤمنون بالقيادة بالقدوة والتسامح والتواضع وعفة اليد واللسان.
فالكتابه عن الحبيب الإمام بهذه الخلفية شائكة وإشكاليه. وستصبح بطعم العلقم ومذاقه حين تكون في مناسبة حزينة مثل رحيله المفاجئ والمر. لا عجب أن دفعت العاطفة أمثالي بتمنى سبقه من نعيه، لو كانت الأماني باليد.
ظهر الإمام الصادق في الحياة السياسيه السودانيه، فملأ الدنيا وشغل الناس. وكان ظهوره الساطع على أيام عبود في حد ذاته حدثاً فريداً لن يتكرر ولو كرر التاريخ نفسه. فعند ظهوره لم تقدمه مجموعة فكرية أو تدعمه حكومة بل قدم نفسه وشق طريقه من حيث لا يتوقعه أحد وصعد بين جهابذة الفكر والشعر والحكمة والدهاء السياسي.
بالطبع لم يظهر الحبيب الإمام الصادق من اللامكان أو ينبت من فراغ. فقد تربى ببيئة أسرية تهتم القرآن واللغة ونشر العلم. وهذه البيئة أضحى لها دور مهم في جهده الفكري ودوره السياسي. وتأثير البيئة الأنصارية واضح مؤلفاته وفيما نشر. وإذا جاز لنا استخدام نظرية هولاند في تحليل عطائه ومن حيث العلاقة بين أنماط الشخصية. فإن استنتاجات هولند تكون أقرب إلى الدقه. من حيث أن البيئات القريبة من بعضها أكثر تشابهًا. بينما الأنماط البعيدة عن بعضها تكون على النقيض . ولهذا يصح الاستنتاج بأن الإمام الصادق توفق في الجمع بين صفات أكثر من بيئة أو سمة في آن واحد .
وبذلك توزعت إسهامات الحبيب الإمام الصادق بين التربية الروحية والتربية السياسية. ولا يتجاوز المرء الحقيقة إن نسب إليه أفضالا في استزراع أغلب فضائل السلوك السياسي السلمي في السودان. فليس ثمة أحد من زملائه السياسيين سهر على ذلك كما فعل. وقد لا نجد فرسانًا في هذا الميدان سواه رغم القمع الذي مورس ضده وضد فرص النمو الطبيعي لأفكاره. لقد أدرك الإمام الصادق مبكرٍا أن النضال السياسي المدني يشبه المزاج السوداني. وأن النضال السياسي يبدو نسبيا أسهل وأكثر جاذبية للفرد السوداني من النضال في جبهة التربية السياسية ولهذا حاول المزج بين الاثنين. وكان يرى أن النضال السياسي أقرب إلى الجهاد الأصغر بينما التربية السياسية هي الجهاد الأكبر. ورأى أن التربيه السياسيه، تستدعي تغيير جذري في التفكير والممارسة.
فابتدع وسائله إليها عبر قيادة الناس بالقدوة وبالفكر. وبحمد الله عايش الإمام الصادق بنفسه مدى نجاح هذه الرؤية في حزبه وعلى مستوى الأداء العام للجسم السياسي السوداني. ومن جهة شاهد بنفسه تأثير ما خط وكتب في الأجيال الجديدة. مثلما أنه تابع اختبار الزمن لصحة استنتاجاته. فمؤلفات الحبيب الصادق المهدى من مياه النيل وأيها الجيل وقضايا الديمقراطية و(النداءات) وقضايا المرأة وإلى الديمقراطية عائدة وراجحة وغيرها، هذه المؤلفات أضحت فوق سؤال البقاء وتبدو عصية على ما استجد. فهي وغيرها من أطروحات الحبيب الإمام الصادق واكبت المستقبل وتتنبأت بمآلات أبعد لا تزال في رحم الغيب. ولا يستثني المرء كتاباته التربوية الأخرى في الاجتماع والرياضة والفن والفكر والثقافه والتحولات السياسيه التي ارتبط بها وبتاريخها. ومن جهة ثالثة فإن جميع سجالات الإمام الصادق الفكرية التي أرهقته وادخلته السجون وشردته في المنافي واستنزفت وقته لم تنتهي بانتهاء الحدث. لأن صاحبها لم يسعى بها لإثبات الحضور أو لفت الأنظار بقدرما عمل بوعي مسبق لوضع أفكاره بداخلها. تماما كما يفعل المزارع من حيث حرث الأرض وإلقاء البذرة وريها والتطلع لثمرة نافعه منها وهي هنا إلهام الأجيال.
إن الكتابه عن الحبيب الإمام بالضرورة كتابة عن المعرفة وخصوصًا عن الذين أقاموا خصومة غير مبررة بين الإسلام وبين الحاضر والمستقبل. إنها كتابة ينبغي أن لا تغفل مبادراته الوطنيه ومواقفه العابرة للسودان.
والكتابه في هذا الجانب تحيل المرء للتأمل في أسلوبه المهذب مع خصومه. وتحيل لتناوله للمفرده وانتقائه لها في الردود وتوظيفه الأمثال الشعبيه لنقل فكرته.ولاشك أنه استخدم في جميع ردوده أرفع لغة وأبلغ عبارة وأرق إشارة. وهو تناول مكن الإمام الصادق من استنساخه لنفسه في جيل كامل من الدعاة الأنصار الذين استلهموا فكره وهضموا معاركه الفقهيه ورؤاه التجديدية وبرزوا يبثونها في المنابر والساحات، ويساجلون بها جهلاء اندفعوا في تكفير الإمام. أولئك قعد بهم جهلهم من إدراك مضامين رؤاه وكتاباته حول الدولة المدنية وحول هوية الإسلام الذي تتنازعه اليوم رايات تشوهه عقيدة وشريعه وديناً ودولة.
وإذا كان لما سبق نصيب من صحة فإنه يصح الاستنتاج بأن الحبيب الإمام الصادق كان عميق الاستيعاب للمكانة الكبيرة التي تحتلها التربية السياسية في حياة الفرد والجماعة. فحرص على تأكيد التربيه السياسيه قولا وكتابة وفعلا. ما شكل أساساً متينًا لعطائه. ومع أن السيد الصادق لم يكن محايدا في مواقفه من الشموليات وزبائنها وزبانيتها إلا أنه كان يراهم يستحقون الشفقه والرثاء من التشفي والإنتقام. ولقد كان مواقفه من الشموليات ينطلق من أن الشموليه رآها عاراً وطنيًا يطارد تجارب الدول ورآها احتلالا داخلياً يسلب الإرادة الوطنيه يمضي ليمرغ سمعة السودان في الأوحال. وعندما تحاول الشمولية العودة للإنسانيات السودانيه كان يقول لها أنه يفرق دائمًا بين الوطن( والوطني) وبين كيف يحكم السودان ومن يحكمه. لذلك كانت معاركه أخلاقيه بامتياز في الوسائل كما في غاياتها. وظلت أهدافه أكثر سطوعاً من حيث تعلقها باستعادة الديمقراطيه والتحول الديمقراطي والوفاق الوطني وتظل الديمقراطية خيطا جامعًا (عائدة وراجحه). فهي من أجل كرامة البلد واستقلاله وإنسانه ولذلك هو ضد التطبيع والتقطيع وضد ترامب ونتن ياهو.
وأخيراً الكتابة عن الحبيب الإمام لابد تستعيد ظاهرتين متناقضين لازما سيرة الحبيب الامام. الأولى ظاهرة محبين كتبوا عنه وسيكتبون في مقبل الأيام القصائد والرثاء. وظاهرة أعداء جردوه من كل فضيلة وظلوا يشنون حروبهم العبثية ويحرفون الكلم وعبارات الإمام عن موضعها. وبين الظاهرتين تظل قيمة الحبيب الإمام كما الذهب وكالبدر في الليلة الظلماء. وهذه القيمة صارت تسمى القوة الناعمة.
فالإهتمام الدولي والأوربي والدبلوماسي عبر عن هذه القوة الناعمه. كما أن الوجدان السوداني الذي احتشد لوداع الحبيب الإمام الصادق جسد تأثيرهذه القيمة. قال ونستون تشرشل (إنه لأهون للإمبراطورية البريطانيه فقدان نصف مستعمراتها من أن يشكك أحد في نسب الإنجليزي للأديب وليام شكسبير). ولهذا تشكر الحكومة الانتقالية إذ تأخذ هذه القيمة على محمل الجد وتوظفها في مسيرة السودان لتوحيد الصف الوطني ودعم الاستقرار. فإعلان الحداد العام والتشيع الرسمي للحبيب الإمام الصادق واستقبال السيد رئيس مجلس السيادة للجثمان في مطار الخرطوم كلها خطوات تندرج في الوعي بأهمية القيمة الوطنيه للإمام الراحل. إنا لله وإنا إليه راجعون.