(يا صاحبي إني حزين..)..! ومن كل هذا البحر المتلاطم من المداخل حول رحيل الإمام الصادق المهدي (الذي ملأ الدنيا وشغل الناس) أجد نفسي في الوجهة الشخصية أودع دنيا عامرة عرفناها معه من قرب في بعض سوانح حياته الخصيبة الممتدة راسياً وأفقياً.. فقد كان شديد الأسر في كل ذلك.. وكذلك في المجال الإنساني.. وكم كان ركيزة عزاء وعاصمة مواساة وبلسم تعافي في أحزاننا حين رحيل الأب والأم والأخ والأخت والإبن.. وكم كان يحنو على والدتنا ويعودها ويدخل إلى غرفتها المتواضعة ليؤانسها عند شكوى المرض ويقبّل رأسها في عطف تتخلله أفاويق من الدعابة والاستبشار الذي يحمل لها دبيب العافية ..!!
كم كان لطيفاً وهو يشهد أفراحنا الصغيرة وملماتنا العابرة.. وهي حفاوة شائعة ومعاودة لا تقتصر على أفراد أو عائلات أو جماعة بل تمتد إلى سلاسل من المزاورات الاجتماعية المتسعة في أكثر أوقاته انشغالاً.. كان يستمع إلى قفشات شقيقنا (مؤمن) اللاذعة ضاحكاً ومستزيداً..ومؤمن تسير به رياح السياسة إلى جانب آخر وضفة مقابلة للضفة التي يقف عليها الإمام..كان يحتفي بكل ما يقال ويعقّب في أريحية يمزج فيها النادرة بالنادرة والمأثور بالمأثور والحكاوي بالمشاهدات..وله باب عريض في ملاحظة خطرات الناس وما يصدر عنهم من بوادر وتعبيرات و(لازمات) جسدية وقولية مثل حكايته عن الرجل النيجيري الذي كان يجلس بجانبه في الطائرة في احدى رحلاته ودقة تصويره الروائي له من غير أن يبادله الحديث..!
في المحافل التي نشهدها معه ويشرّفنا فيها بحضوره لم يكن يستصغر شأن التعليقات العفوية التلقائية أو شأن مُطلقيها مهما جنحت وخرجت عن السياق.. يستمع بإصغاء لكل ما يُقال حول شؤون السياسة والحياة فيرد بتعقيبات تنتظم فيها الحكايات الشعبية والمقاربات التراثية وما مرّ عليه في أسفاره وتطوافه في أنحاء السودان وخارجه، أو البوادر التي أغفلها التاريخ الاجتماعي في عهود التركية والمهدية وفي أحوال الفرق السياسية والاجتماعية التي عاصرت (المهدية الجديدة) بين موالاة وعداوة وشوارد.. مع أحاديث وحكاوي وطرائف الفقهاء والشعراء والدروايش ومعها مستجدات ما يجري في العالم .. ولا يغادر هذه الأحاديث إلا ونكون قد تصيدنا منه بعض التعبيرات الجديدة التي يشتقها من الأسماء والأحداث والمواقف ويصبها في قوالب جديدة يتم صكها لأول مرة.. وهذا ما ظل مشهوداً عنه منذ وصفه للنقابية السياسية والمهنية بـ(السندكالية)..إلى تعميم وصف ظاهرة الانشقاقات الحزبية بعبارة (النرجدة) نسبة إلى “النور جادين” صاحب أول انشقاق في حزب الأمة..! وتصدر هذه المصكوكات من روح لمّاحة وجسارة فكرية لا تتهيّب من رفد دنيا السياسة والاجتماع باشتقاقات لغوية جديدة (جامعة مانعة) تجسّد الموصوف وتُغني عن الشروح؛ فقد كان خزانة في اللغة والقراءات والمطالعات وأجناس الإبداع الشعبي السوداني من شعر وأمثال وحكاوي وأساطير.. وفي الفكر الإنساني وفي ديوان الشعر بأوابده واختلاف مدارسه من القديم القديم إلي الحديث الحديث..!
كان لقاؤه في هذا الفضاء الاجتماعي من المسرّات التي تزيد من ثراء النفس وبهجة الدنيا والتي يتم فيها خفض جناح الرسميات إلى المؤانسة والمشاعر الإنسانية التي لا تضيق بلواذع الانتقادات..ولكنها الرحابة التي لا تمنع صاحبها عن المدافعة بقوة وبيان عن رؤيته وموقفه.. فقد كانت له في كل شأن رؤى يوليها عناية فائقة…كان يطلق الأفكار المستجدة حول الرياضة والفنون والعلاقات الأسرية وما يحيط بها من تصوّرات ومناكفات..وكل هذه المجالات لا نقول فيها جديداً فهي منثورة في كتبه ومؤلفاته وما كان يُحاضر به ويعرضه في المحافل الرسمية أو الجلسات الاجتماعية المحصورة..! ربما يسعفنا صلاح عبد الصبور.. (يا صاحبي إني حزين.. طلع الصباح فما ابتسمت ولم يُنرْ وجهي الصباح… الحزن يولد في الصباح لأنه حزنٌ ضرير…حزن طويل كالطريق من الجحيم إلى الجحيم…حزن صموت..والصمت لا يعني الرضاء بان أمنية تموت.. وبأن أياماً تفوت…الحزن يفترش الطريق)…..هكذا الدنيا..!