بقلم: د. فرانسيس دينق
ترجمة وتحرير: دينقديت أيوك
لقد أكرم الشَّعْب السُّودَانِيُّ بأغلبيةٍ ساحقةٍ، وبطريقةٍ لائقة، إحياء ذِّكْرَى السيد الإمام الصادق الصديق عبد الرحمن المهدي، أحد أعظم القادة في التاريخ الحديث للبلاد. أتمنى لو كان قد رأى العرض التاريخي للحداد على وفاته كقائد وطني أسطوري واستثنائي. ومع ذلك، لا يمكن لأي شخص شغل المناصب العامة التي لها أثراً على حياة شعبه ووطنه والعالم على أوسع النطاق، مثل الصادق المهدي، أن يتجنب بأي درجة كونه مثيراً للجدل، وهذه هي الحال مع الصادق المهدي.
لأكثر مِنْ نصف قرن، بدايةً مِنْ شبابه، في أوائل الثلاثينيات مِن عمره، شغل الصادق المهدي مناصب على هرم القيادة السياسية والدينية في البلاد. وقد شَهِدَ خلال تلك الفترة علواً وانخفاضاً في درجات خدمته المتفانية والمثابرة للأُمة. تم انتخابه رئيساً للوزراء عدة مرات، وتولى لاحقاً منصب الإمام لأكبر طائفة إسلامية في البلاد، كما عانى أيضاً مِنْ الاعتقال والحبس الأكثر تحقيراً في سجن كوبر، سيئ السمعة، ثم هرب بحياته بمشقةٍ إلى الملجأ، وأطلق عليه خصومه السياسيون أسماءاً مهينةً. ورغم ذلك، أظهر باستمرار صفات قيادية فكرية وسياسية واجتماعية وإنسانية لا يمكن لأحد انكارها.
مِنْ وجهة نظري المتواضعة، تعرفتُ على الصادق جيداً وشاهدتُ عن كثب تلك الصفات العالية في شخصيته. وحينما كنتُ أتقلد مناصب عامة في السُّودان، وفي كُلِّ مرة أعود فيها مِنْ الخارج، قمتُ بزيارته لتبادل الآراء حول التطورات في البلاد. التقيتُ به كسياسي يقوم بحملات انتخابية، وكرئيس وزراء منتخب وكمعتقل سياسي في سجن كوبر وكمحاور فكري جذاب. كما التقيتُ به في الخارج، في القاهرة حيث تبادلنا منصةً للنقاش، وفي الولايات المتحدة حيث قمتُ بإدارة ندوة كان متحدثاً فيها. التقيتُ به لآخر مرة في شهر مارس 2020م بمنزله في أمدرمان، وبدأ لي أنه بصحةٍ جيدة. لم أكن أتوقع أنه سيقع بعد شهور ضحية لجائحة تبدو أنها تُظْهِرُ تعاطفاً ورحمةً مدهشين لقارةٍ تعاني مِنْ أكثر مِن نصيبها مِن الفواجع والمآسي.
في العام 1989م، بعد ثلاثة أشهر فقط مِنْ عملية استيلاء عمر حسن البشير على السُّلْطَة عبر انقلابه العسكري، والذي أسماه بـ(ثورة الإنقاذ الوطني) على نحوٍ مثير للجدل، عدتُ إلى السُّودان مِنْ الولايات المتحدة، عازماً على مقابلة الحكام الجدد والتعرف عليهم وعلى خططهم لإدارة البلاد. بتيسير مِنْ المولانا أبيل ألير الذي جعلني على اتصال بالعقيد مارتن ماشواي ملوال، أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة الجنوبيين الثلاثة، تشرفتُ بلقاء جميع أعضاء مجلس القيادة. وكان رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي وأعضاء حكومته البارزين رهن الاعتقال في سجن كوبر.
في لقائي مع قائد الثورة عمر حسن البشير، طلبتُ منه السماح لي بزيارة الصادق المهدي في السجن. تفاجأ عمر البشير في البداية بطلبي. “أتريد زيارته في السجن؟”، هكذا سألي، غير مصدقاً كلامي. فأوضحتُ له إن الدافع وراء زيارتي له نابعٌ مِنْ منطلق إنساني بحت، وليس متصلاً بأسبابٍ سياسية. وبما أنني كنتُ التقي دائماً بالصادق كلما زرتُ البلاد، فلن يبدو الأمر جيداً بالنسبة له، أن يُشَاهِدُ في الأخبار أنني كنتُ في البلاد ولم أزوره. حينئذٍ فهم عمر البشير فحوى حديثي وسمح لي بالزيارة.
وجدتُ السيد الصادق والسيد محـمد عثمان الميرغني في غرفةٍ صغيرةٍ تكاد تستوعب سريرين ويلامسان بعضهما البعض، وكانا ينامان بالقرب من بعضهما. إنّ ما شاهدته كان أكثر واقعية. وقد أكد ذلك أن السُّلْطَة السياسية متقلبة، وأن الصعود إلى القمة والهبوط إلى أدنى مستوى مرتبطان بشكلٍ وثيق. كان هناك شيء محزن للغاية، ولكنه كان إنسانياً ومتساوياً في تلك التجربة. في طريقنا إلى سجن كوبر، قال لي بكري حسن صالح، عضو مجلس قيادة الثورة والمسؤول عن الأمن حينها، والذي رافقني إلى سحن كوبر، مازحاً: “يا دكتور، دا استثمار للمستقبل”. وأضاف: “علشان تزورنا لمن دورنا يجي”. ضحكنا على النكتة، لكننا لم نكن نعلم أنه كان يتنبأ بما سيحدث في المستقبل.
وبعد ثلاثين عاماً، جاء دورهم، وقررتُ أن أفي بما أصبح بالنسبة لي تعهداً مقدساً، على الرغم مِن أن طلبه في البداية كان على سبيل المزاح. ومِن منظورٍ إنساني مميز، وإن كان متناقضاً في هذا السياق أيضاً، فقد منحني اللواء عبد الفتاح البرهان الإذن بزيارة عمر حسن أحمد البشير وبكري حسن صالح في سجن كوبر. ضحك كلاهما عندما تذكرتُ حديثي المضحك مع بكري قبل ثلاثين عاماً، لكنهما كانا في غاية التقدير لكوني قد كرمتُ الطلب. التقيتُ الاثنين بشكلٍ منفصل في مكتبٍ متواضعٍ لمدير السجن.
ومنذ أن التقيتُ بهم في مناسبات عديدة في ذروة قوتهم السياسية، أتضح لي مرةً أُخرى درجات الصعود والنزول لديناميكيات السُّلْطَة. ومرةً أُخرى، كما فعلتُ عندما زرتُ الصادق المهدي، في نفس السجن قبل ثلاثين عاماً، فكرتُ في الدروس والعبر التي يمكن استخلاصها من هذه المفارقات. يبقى هذا الأمر سؤالاً مثيراً للاهتمام يتطلب تفكيراً جاداً.
إنّ الطريقة التي اندفعت بها الجماهير حداداً على وفاة الإمام الصادق المهدي، هي تكريم ملائم لتفانيه الذي لم ينضب في خدمة البلاد التي أَحَبَّها بإخلاصٍ لا حدود له. بغض النظر عما قد يقوله مُنْتَقَّدِيهِ عن سجله في السُّلْطَة، وبالطبع كان لديه مُنْتَقَّدون سياسيون مريرون وأعداء، إلا أن هناك بعض الحقائق عن السيد الصادق المهدي، لا يمكن لأحد أن يتحداها ويتخطاها. مِنْ الواضح أنه شعر أنه ورث التزاماً مقدساً في تكريس حياته لقيادة البلاد التي حررها جده الأكبر، المهدي الأصلي، مِنْ الهيمنة الأجنبية عام 1885م. وبينما يمكن تحدي هذا الأمر مِنْ قبل البعض على أُسُس أيديولوجية، فإنه إرثٌ قَوِيٌّ لا يمكن إنكاره. ولكن بعيداً عن الشعور الموروث بالمسؤولية، يمكن للصادق أن يُدَعِي القيادة على أساس مزاياه الشخصية الخاصة به.
بصرف النظر عن الشعور القومي بالالتزام، كان مفكراً ومثقفاً لا يَكِلُّ، كان غزير الإنتاج في إعداد ونشر الدراسات الموجهة للسياسات. وفي كُلُّ مرةٍ قابلته في منزله، كنتُ أغادر بمجموعة مِنْ أحدث منشوراته. لقد كان أيضاً فاعلاً ومتفائلاً استراتيجياً لم يستسلم لليأس أبداً.
كان الصادق يعتقد أنّ الفكرة جديرةٌ بالاهتمام، بمجرد تصورها في العقل، وأنها بطبيعتها جيدة إذا ما تم العمل بها، ويتم تطبيقها فعلياً. كان مؤمناً لم يتزعزع إيمانه بالديموقراطية، وكان دائماً صبوراً على انتظار نهاية الديكتاتورية وعودة الانتخابات، لأنه كان واثقاً مِنْ قيمة خدمته الوطنية المتفانية، كان واثقًا مِنْ فوزه، بطريقةٍ شبه دائمة. لكن رُبَّمَا كانت مِنْ أبرز سمات السيد الصادق أنه جمع ما بين الثقة بالنفس والعزة والكرامة، مع التواضع المتباين واحترام النَّاس، النَّاس عموماً، كبيرهم وصغيرهم، المرموقين وغير المرموقين، القريبين والبعيدين.
يمثل السيد الصادق المهدي نموذجاً نادراً لا يمكن تكراره بسهولة، لكن إلهامه لا بد أن يبقى حياً وينمو لأجيال قادمة. وقد تم التأكيد على ذلك بشكل واضح مِنْ خلال الوداع الهائل الذي عزز ضمنياً الوحدة الوطنية وراء إرثه.
تقول الحكمة التقليدية العالمية أن الشخص الذي يترك وراءه ذرية، ولمس دائرة واسعة مِنْ النَّاس في حياته بطرقٍ مختلفةٍ لا يُنْسى، بل يستمر حياً في ذاكرتهم لفترة طويلة بعد الموت. وبهذه المعايير، يضمن الصادق المهدي، الخُلُود الدُنْيَوِي بين الأحياء، كما أن إيمانه الإسلامي يضمن له موضعاً في الجَنَّة.
ليرحمه الله رحمةً واسعة، ويجعل له منزلةً، بين الخالدين في الدار الآخرة.