في مارس/آذار الماضي، كتبنا عن استعدادات الحكومة لصد هجوم وباء الكورونا الشرس قبل أن تطأ أقدام خيله أرض بلادنا، وقلنا أن ما يثير الفرح ويستحق الإشادة القوية، هو أداء وزارة الصحة ممثلة في الوزير، الدكتور أكرم علي التوم، والعاملين واللجنة الفنية، والذي إتسم بحضور الرؤية والإرادة القوية والقيادة الفعالة، مثلما إتسم بالمهنية العلمية وبالشفافية والوضوح في إتخاذ التدابير والاحتياطات اللازمة لصد غزو «الكورونا» في ظل واقع مرير يعاني من شظف العيش وتوطن الكآبة والإحباط من جراء التدهور الاقتصادي وتباطؤ الحكومة الانتقالية في إنجاز أهداف ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة. ومع ذلك، وفي خضم المعركة والصراع المرير ضد الوباء، أقيل وزير الصحة ولا ندري حتى اللحظة ما هي أسباب الإقالة!
واليوم يتحدث الناس عن موجة ثانية من هجوم الوباء، أو الجائحة، في ظل واقع أشد سوءا من حيث شظف العيش والمعاناة والتدهور الاقتصادي، وأنكى من كل ذلك، في ظل إنهيار النظام الصحي في سودان الثورة حسب المؤتمر الصحافي للأخ وزير الصحة المكلف، الدكتور أسامة أحمد عبد الرحيم، عندما قال إن السودان يواجه مشكلة في الدعم الخارجي بسبب تقرير منظمة الصحة العالمية الاخير عن انهيار نظامه الصحي. ودون أن أتجنى أو أتطفل على العلم وتصنيفاته الصارمة، يُخيل لي، مجرد تخيل لا علاقة له بأي إفتراض علمي، أن هجمة الكورونا الشرسة التي يواجهها السودان الآن، ليست هي موجة ثانية، وإنما هي ذات الموجة الأولى التي أصلا لم تخمد، ولكنها تفاقمت اليوم وازدادت شراسة بسبب إنهيار، إن لم يكن استسلاما، مقاومة نظامنا الصحي لها. وأعني بالمقاومة الصحية، تصدي الدولة للوباء عبر العناية الصحية وعبر تكثيف الإجراءات الإحترازية والوقائية من توعية وحظر وغير ذلك من إجراءات البروتوكول المعروفة. يخبرنا وزير الصحة المكلف بأن البلاد في حوجة إلى أربعة مليارات جنيه سوداني، لمجابهة الوباء، والدولة عاجزة عن توفير ذلك. ويخبرنا أن السودان يواجه خطر تفشي الملاريا وشلل الأطفال وميزانية مواجهتهما غير متوفرة، وأن البلاد تعاني من انعدام الأدوية، والكوادر الصحية تعمل بدون مرتبات!!
بصراحة، تعاني حكومتنا الانتقالية من فشل تام إزاء درء المخاطر الصحية التي واجهها إنسان السودان، وإزاء التعامل بشفافية واحترام لعقول الناس بحيث تملكهم المعلومة الصحيحة، حتى ولو كانت المعلومة ستكشف عن عجزها وأن الأمر قد غلب عليها.
وفي الحقيقة، وللأسف الشديد، نلاحظ أن بعض الوزراء من أعضاء مجلس الوزراء الانتقالي الموقر يصرون على التعامل مع العديد من القضايا الساخنة في البلد وكأنهم مجرد معلقين سياسيين يتحدثون إلى برامج إخبارية تلفزيونية، في مسلك لا علاقة له بفكرة القيادة وتحمل مسؤولية إدارة البلد. فالأخ وزير الإعلام، مثلا، يعلق على أخبار وصول وفد إسرائيلي إلى البلاد بأن مجلس الوزراء لا علم له بالأمر..، أي وكأن الأمر لا يعني الحكومة!!!
هل يعقل هذا؟ وما فائدة وجود الحكومة أصلا إذا كانت مثل هذه الأمور لا تعنيها؟. ثم بالأمس يأتي الناطق الرسمي لمجلس السيادة الانتقالي ليلقمنا حجرا بقوله إن زيارة الوفد الإسرائيلي ذات طبيعة عسكرية وغير سياسية، وكأن أمر «العسكرية» هذا لا علاقة له بالسياسة أو لا يعنينا في شيء، نحن شعب السودان من غير العسكريين! ووزيرة المالية المكلفة تعلّق على إقتصاد البلد المنهار، وشكوى العاملين بعدم إستلام رواتبهم، بأن البلد تسير بقدرة قادر، دون إقتراح أي حلول أو حتى تفسير لظاهرة إستمرار ندرة الوقود وإستطالة الصفوف أمام محطات تزويده، رغم رفع الدعم. ووزير الثروة الحيوانية يعلّق على سوء أحوال المحاجر والخلل في تطعيم المواشي وضعف الالتزام بمعايير الدول التي تستورد منا المواشي واللحوم، وكأن حل هذه الإشكالية ليست من صميم عمل وزارته. ووزير التجارة والصناعة، يتحدث عن الخلل في هياكل وزارته وعن تضارب الصلاحيات، دون أن يشرح لنا مجهوده ودوره في علاج ذلك. وكما قلنا أعلاه، فإن وزير الصحة يكتفي بتكرار حديث هيئة الصحة العالمية عن إنهيار نظامنا الصحي، دون أي تحد لصحة هذا الحديث، بل ضمنا يوافق عليه، ولكن دون تقديم أي أفكار حول إصلاح النظام الصحي في البلد. أما الأخ رئيس مجلس الوزراء، فلايزال متشبثا بعزلته المجيدة، ومواصلا سياسة الصمت المطبق، والمعيب، حيال قضايا البلد الساخنة، وحيال تسرب مبادئ الثورة وأهدافها من بين أصابع الحكومة المناط بها الحفاظ على هذه المبادئ والأهداف، وتجسيدها على أرض الواقع.
لقد آن أوان ألتصدي لوباء الكورونا الشرس عبر حملة أهلية شعبية، يلعب فيها الأطباء والعاملون في المجال الصحي، رأس الرمح. وإني على يقين تام، أن الكوادر الصحية إذا تنادت إلى بعضها البعض، وجعلت ألا صوت يعلو فوق صوت مواجهة الكورونا، يمكنها أن تحقق ما فشلت حكومتنا العاجزة عن تحقيقه.
فالوضع بالنسبة للمواطن أصبح مسألة حياته أو موته. وما يشجع على هذه الدعوة، مواقف أطباء السودان الوطنية والنبيلة. فالأطباء نواب الإخصائيين، ورغم إعلانهم الإضراب بسبب الظلم البين الواقع عليهم، يستثنون من الإضراب مراكز عزل مرضى الكورونا، ومراكز غسيل الكلى، والعناية الوسيطة والمكثفة، والعمليات الطارئة وأقسام الطوارئ، وحضانات حديثي الولادة. ويدعو أطباء الامتياز وزارة الصحة لأخذ موقف قوي يطالب الدولة بفتح ميزانيتها لمكافحة الجائحة تفاديا لإنهيار النظام الصحي. ونادت نقابة أطباء السودان الشرعية بوحدة الأطباء لمجابهة الوضع الصحي المنهار في البلاد، مطالبة رئاسة مجلس الوزراء بتحمل مسؤوليتها في الحرب ضد الكورونا ومنعا لإنهيار القطاع الصحي. وعلى ذات الطريق سار الأطباء الاختصاصيون والاستشاريون السودانيون فطالبوا بتفعيل اللجنة العليا لمكافحة الكورونا، وتفعيل الشراكة مع المنظمات الوطنية والدولية، وضرورة إلتزام الدولة بواجباتها في توفير الدواء والمعينات الطبية.
نعم، يمكننا تفادي الموت رغم عجز الحكومة!
نقلا عن القدس العربي