لماذا تبقى الفضائية السودانية معتلة ومختلة؟
كان وما زال كعب أخيل ثورة ديسمبر الباسلة، افتقارها لأداة إعلامية تروج لها ولمبادئها، ومعلوم ان الفضائية السودانية أداة حكومية ملزمة بالرقص على إيقاع الدفوف الرسمية، وكان المأمول انه وبعد تشكيل الحكومة الانتقالية الحالية التي يفترض انها تمثل الثورة، أن تكون تلك القناة مرآة للثورة وليس فقط بوقا للحكومة كما هو حالها الآن، وحتى فيما يتعلق بالحكومة فهي بوق لها فقط لكونها تعيش على المعلبات التي تأتيها جاهزة من دواوين الحكم
حاولت تطبيع العلاقات مع الفضائية السودانية بعد تشكيل الحكومة الانتقالية، على أمل ان أجد فيها ما يستجد من أحوال وأفعال وأقوال، وحرصت على مدى أكثر من سنة على متابعة نشرتها الإخبارية الرئيسية في التاسعة من مساء كل يوم، وأستطيع ان أقول بضمير مستريح إن الأمر الوحيد الذي من الثابت ان لقمان أولاه اهتماما حتى الآن ويشكر عليه، هو مكياج القناة، أي مظهرها فقد بات شكل الاستوديوهات لائقا، ولكن من الواضح لمن يتابع منتوج القناة لبعض الوقت أن الشغل فيها “كيري” يا بلا ضابط او رابط.
كان التعويل كبيرا في أن مجيء الأستاذ لقمان احمد مديرا لهيئة الإذاعة والتلفزيون قادما من مؤسسة ذات مهنية عالية (بي بي سي)، سيؤدي الى طفرة في أداء القناة بحيث تصبح جاذبة ومعبرة عن عهد جديد يتخلّق، نتج عن ثورة شعبية استثنائية في كل مراحلها وفعالياتها، فإذا بها تبقى على حالها مملة وعاجزة عن شد الانتباه، لأنها بلا منهج أو خريطة برامجية معلومة (استثني برنامج البيت السوداني العتيد الذي يستبسل القائمون على أمره في جعله منوعا وجاذبا وشيقا، وكانوا خير من غطى كارثة الفيضانات الأخيرة، ويعجب الإنسان كيف لقناة فيها كادر ينتج برنامجا يوميا طويل الأمد المدة بكفاءة ان يعجز عن انتاج نشرة أخبار واحدة دون خلل وعلل).
نشرة 9م نموذجا للعلة:
سأتوقف طويلا عند نشرة التاسعة هذه لأثبت أنني لا أتجنى على القناة عندما أصف منتوجها بعدم المهنية والكلفتة:
= تم استحداث شارة جديدة للنشرة عبارة عن خارطة كبيرة زاهية الألوان للكرة الأرضية، وخلال دورانها تظهر عبارة عبثية Sudan says (السودان يقول) مما يشي بأن اختيار الشارة أيضا جاء بالكلفتة، فهذه عبارة عديمة المعنى والمبنى والجدوى ولا ينبغي ان يكون لها مكان في الشارة
= شارة النشرة الحقيقية ساعة رقمية قبيحة التصميم، يعقبها إعلان صوتي مصحوب بشعار احد البنوك، والساعة تلك تخص شركة ذات سمعة طيبة في مجال الأدوات الكهربائية والالكترونية، ولكن القناة تقوم بتشويه تلك السمعة لأن منتجي تلك النشرة الرئيسية حريصون على عدم البدء فيها إلا بعد مرور بضع دقائق على التاسعة، فيكون الوقت الحقيقي التاسعة وخمس او تسع او 15 دقيقة، بينما تفيد الساعة الرقمية الى التاسعة، ويفيد كل ذلك بأن نشرات الأخبار تحظى ب”رعاية” وهو أمر معيب جدا، وإذا لم يكن ن رعاية النشر بدٌّ فبالإمكان الإبقاء على الرعاية ولكن بأن تكون الفقرتان الخاصتان بها بعد العناوين الرئيسية في مقدمة النشرة
= ترتيب الأخبار في النشرة إما عشوائي، أي لا يقوم على أهمية كل خبر؛ او بروتكولي، وكل كلمة يقولها البرهان او حمدوك او حميدتي تصبح خبرا جللا له الصدارة، وللتدليل على تلك العشوائية أورد الملاحظات التالية:
- انعقدت في يوليو اول جلسة لمحاكمة مدبري انقلاب 30 يونيو 1989، وهي أول مرة في تاريخ الكون يمثل فيها للمحاكمة اشخاص نجحوا في تنفيذ انقلاب والبقاء في الحكم سنين عددا، مما جعل الحدث محل اهتمام وسائل الإعلام الدولية، ولكن جاء ترتيب الخبر عن الجلسة سادسا في نشرة ذلك اليوم، ولا تفسير لهذا سوى أن من أعد النشرة إما يفتقر للحس الصحفي، او لديه “موقف سياسي” من ذلك الحدث
- كانت وسائل الإعلام العالمية تتناقل قبل ثلاثة أشهر وصول مفاوضات سد النهضة الى طريق مسدود ينذر بمخاطر إقليمية، ولكن الحدث جاء دون المرتبة العاشرة في نشرة الأخبار تلك، وما زالت القناة تتعامل مع أمور سد النهضة باستخفاف شديد
- ليس لهذه النشرة مدى زمني معين فقد تستغرق الساعة او أربعين دقيقة او نصف الساعة، حسب التساهيل
- رغم ان القناة رسمية وبالتالي يفترض ان أبواب اهل السلطان مفتوحة أمامها، فإنه لم يحدث ان سجلت سبقا/ انفرادا تنقله عنه وسائل الإعلام الأخرى، ومن الواضح انه تبث ما يأتيها جاهزا ولا يكلف مندوبوها أنفسهم عناء تقصي أي أبعاد او خلفيات او مآلات لما ينقلونه من أحداث او اقوال، بل ينقلون ما يصلهم “صُرَّة في خيط”
- للقناة مراسلون في جميع الولايات، ولكن تطالع تقاريرهم فتحسبهم ضباط علاقات عامة للولاة، وقلَّ ان يأتوا بأمر لا يصدر عن غير الوالي، فالترتيب البروتوكولي للأخبار يقضي أن تأتي أخبار مجلسي السيادة والوزراء أولا وتعقبها “أقوال” الولاة (أقوالهم لأنهم معذورون وليس لديهم حيلة لإنجاز شيء على الأرض)
غياب السياسة والضوابط التحريرية
- غياب سياسة تحريرية متفق عليها وملزمة، تجلياته كثيرة، ومنها عبثية توزيع الألقاب؛ فوزير البنى التحتية تارة مهندس وتارة باشمهندس، ووزيرة العمل والتنمية الاجتماعية تارة أستاذة وتارة يأتي اسمها “حاف”، ويتم توزيع لقب أستاذ بسخاء على كل من يظهرون او تظهر أسماؤهم على الشاشة بشرط أن يكون قيافة وبالزي الأفرنجي أما الإنسان “العادي” فيكتبون اسمه مصحوبا بمواطن (وبهذا يتم نسف مبدأ دولة المواطنة، لأنه يصبح مفهوما ضمنا ان الأساتذة ليسوا مواطنين)، كما تمت لبننة د. عبد الله حمدوك فصار “دولة رئيس الوزراء”، وجعلوه صنوا للويس الرابع عشر قائل “أنا الدولة”، بينما الأسلم هو ان تكون جميع الأسماء غير مصحوبة بلقب غير مستحق، أي ان يكون الدكتور فعلا دكتورا، والبروفسر فعلا أستاذا، بل لا معنى حتى لوضع “السيد” أمام كل اسم، لأن ذلك يفتح بابا يجيب الريح عند استضافة النساء حيث لا يجوز ان تسأل الضيفة ما إذا كانت سيدة أم آنسة. والقناة ليست ملزمة بمجاراة ما هو سائد، بحيث يكون اسم بعض القانونيين متبوعا ب”المحامي” وكل من يمتهن الهندسة يصبح “المهندس فلان”، كي لا نغمط حق أصحاب المهن الأخرى فنحن لا نقول فلان المحاسب او علان السمكري، فلماذا نخص المحامين والمهندسين بالتمييز المهني؟ ولو اعتاد الناس على الاطلاع على أسمائهم مجردة من القاب غير مستحقة او حتى لقب سيد/ سيدة فلن يكون ذلك موضع تحسس
- الشريط الإخباري أسفل الشاشة يعج ويضج بأخطاء لغوية املائية كثيرة كما انه يحفل بأشياء “حشو” ليس لها أي قيمة خبرية فالغاية من الشريط هو ان يعطي عرضا موجزا لأهم الأحداث التي تستحق الرصد والمتابعة
- بسبب شح الصورة الحية يحدث في كل نشرة أخبار تقريبا ان يتردد نفس المشهد الفيديوي عدة مرات في سياق الخبر الواحد، بينما معالجة هذا الأمر سهلة، إما بتضمين التقرير مشاهد من الأرشيف/ المكتبة، او بتجميد (فريز) الصورة، ليصبح ما تبقى من الخبر OOV وهو ان يكون مقدم النشرة خارج الكادر out of vision بينما صوته يصاحب النص، كما ان تقريرين منفصلين او أكثر تتواتر فيها نفس الصور (وإن اختلف التعليق المصاحب لها)، مما يشي بغياب التنسيق بين معدي النشرة
- وهناك أمر آخر معيب جدا يمارسه معدو نشرات الأخبار وهو – مثلا- عندما يستقبل رئيس الوزراء حمدوك عددا من الضيوف كلا على حدة، فتأتي النشرة بحمدوك في عدة اخبار منفصلة وهو يمارس تلك المهام، بدلا من دمجها في تقرير واحد، أو عندما يقوم أحد الولاة بنشاط معين، ثم يكون في طرفا في أمر آخر يصبح الوالي مادة لخبرين منفصلين زمنيا وبنيويا
- معظم معدي التقارير لا يعرفون أصول “التوقيع” وهي نسب ما يقال الى أنفسهم، ويكون ذلك بظهورهم على الشاشة غالبا في آخر التقرير، لأنهم يقولون جملا غير مفيدة فقط للوصول الى نقطة فلان الفلاني من المكان الفلاني (استثني مندوبا للقناة اسمه محمد الزبير يترك لنفسه مادة ذات قيمة خبرية يختم بها تقاريره، وهناك “الزبير” الآخر الذي يتقن أيضا صوغ مقدمة ومتن وخلاصة تقاريره، ويجدر بي القول إنه لا سابق معرفة لي بهما)
- خاض بعض مذيعو ومذيعات القناة تجربة تقديم البرامج الحوارية والعمل الميداني بكفاءة عالية، وكانت نازك ابن عوف خير من غطى موكب 30 يونيو المنصرم كما أنها أعدت تقريرا متقنا عن أزمة الوقود خلال الأيام القليلة الماضية، وأحد مقدمي برنامج المشهد (ومعذرة لأن اسمه لا يحضرني) يقوم بين الحين والآخر بتغطيات ميدانية لأحداث مهمة باقتدار، ولو خرجت الكوادر المؤهلة في القناة من قمقم مبانيها يستطيعون إحداث نقلة نوعية في أدائها، وعلى كل حال فقد انتهى عصر المذيع الببغاء الذي يقرأ ما يعده الآخرون وحسب، ولا ينبغي ان يجلس خلف المايكرفون إلا ذو “الرأس المليان”، لأن عي كثير من المذيعين والمذيعات يتجلى عند اجراء ابسط الحوارات خلال نشرات الأخبار
- في الجزء الخاص بأخبار الرياضة، وكل ما تعلق الأمر بمباراة في كرة القدم بين ناديين سودانيين، يُقرأ الخبر وعلى الشاشة لوحة تحمل الرمز المختصر لاتحاد كرة القدم SFA، وهذا محض كسل فني، فوضع شعاري الناديين المعنيين ليس بالأمر العسير فنيا، وكم عدد السودانيين الذين يعرفون إلامَ ترمز الحروف الثلاثة؟
- انتقال أي إعلامي الى رحمة مولاه يصبح خبرا في نشرة تلفزيون يفترض انه قومي وليس عائلي، وهو أمر لا يجوز، ولكن غياب سياسة تحريرية تحدد نوعية الشخصيات “العامة” التي يتم نعيها، هو الذي يجعل اهل التلفزيون يخصون “الزملاء” بالنعي، فقبل أيام قليلة فقدت البلاد خمسة من خيرة أطبائها، وما كان ممكنا نعيهم عبر التلفزيون رغم علو قاماتهم المهنية وسجلاتهم الحافلة بطيب الأعمال التي استفاد منها مئات الآلاف
مدير الهيئة اكتفى بتقديم برنامجه الخاص
والشاهد هو ان التلفزيون القومي يبحر في الأثير بدون بوصلة، ولا نلمس فيه بصمة لقيادته الجديدة التي انتظرنا فارسها لقمان احمد بحماس وشغف ليعيد تشكيل كل شيء في القناة بما يجعلها جاذبة، فإذا به يكتفي بتكريس كل او جُلّ وقته لبرنامجه الخاص (حوار البناء الوطني)، وكأنما كانت القناة تفتقر الى برنامج حواري، بينما برنامج المشهد الذي تقدمه القناة بانتظام يواكب الحال الراهن يوما بيوم، وإن كانت جميعها برامج “إذاعية” لا مكان فيها للصورة وتستطيع ان تتابع ما يجري فيها وظهرك الى الشاشة
وما يشي بأن لقمان يرى أن برنامجه هذا هو سدرة المنتهى الإعلامية، هي انه وفور انتهاء البرنامج يجب ان تتضمن نشرة الأخبار الرئيسية فقرات مطولة منه، رغم أن تلك الفقرات تكون على الدوام كلاما مجترا ومعاد التدوير، أي لا جديد فيه ذا قيمة خبرية، بل بلغ “تكسير الثلج” للقمان من قبل القائمين على امر تلك النشرة، ان جعلوا الإشارة الى ما جاء فيها يتصدر عناوين نشرة يوم السبت 21 نوفمبر (2020)، رغم ان الضيفين فيها (مني مناوي ومالك عقار) لم يأتيا فيها بجديد ورددا نفس ما ظلا يقولانه منذ وصولهم الى الخرطوم، ثم استحى معدو النشرة قليلا وأخروا ترتيبها في متن النشرة
فعاليات ثورة ديسمبر مجرد لقطات “سد فراغ”
وليس للفضائية السودانية كبير اهتمام بثورة ديسمبر، وتكتفي بأن تعيد نحو أربعة مشاهد للحراك الشعبي بين فقراتها، ولكن من باب ملء الفراغ لحين العبور الى برنامج آخر، وبين الحين والآخر يتردد عبر القناة صوت جهوري: ذكرى ثورة ديسمبر السلمية (ويكون ذلك في فبراير وابريل ونوفمبر)، ورغم وجود آلاف ساعات الفيديو الخاصة بتلك الثورة الا ان القناة تكتفي ببث أربعة مقاطع ثابتة مصحوبة بأكثر الأناشيد الوطنية ركاكة ورتابة، متجاهلة عشرات المواهب والمواد الفنية والموسيقية والأدبية التي تفجرت في سياق ديسمبر 2018، ولو أراد القائمون على أمر القناة الاعتناء بأمر الثورة ورموزها الحقيقية واستنهاض الهمم بالتذكير بالتضحيات الجسام التي قدمها زهرة شبابنا لما كلفها ذلك عنتا او شططا، فالمواد التي تدين النظام الفاشي الموءود موجودة في أرشيف القناة، والمواد التي توثِّق للثورة وما صاحبها من عنف وعنفوان موجودة أيضا بالأطنان عند صناع الثورة، وليس عند تجار الكلام الذين يتنافس اقطاب القناة لاستنطاقهم
وشتان ما بينها وقناة الخرطوم وسونا
وانظر الى قناة الخرطوم التي لا تملك معشار ما عند الفضائية الرسمية من الكوادر والعتاد المهني، ولكنها صارت صوت وضمير الثورة عن جدارة ودون ان يكلفها ذلك كبير جهد فني وكل ما تفعله القناة يوما بعد يوم هو أنها تتواصل مع من صنعوا الثورة وما زالوا قابضين على جمرها وتعرض ما عندهم من صورة حية وصامتة، وقناة الخرطوم هي الحاضنة الأولى لكل الأصوات والمواهب التي تفتحت في أرض الاعتصام وتفجرت ابداعا، بل إن قناة سودانية24 غير الرسمية اكثر التصاقا بمناخ وروح ثورة ديسمبر من قناة السودان، ثم انظر الى وكالة السودان للأنباء (سونا) التي تركها الحكم المباد خرابا، ولكن ادارتها الجديدة لم تتعلل ببؤس الإمكانات، ونهضت بها من الرماد كطائر الفينيق، فصارت حضورا في كل محفل رسمي او شعبي ولا يكاد يمر يوم دون ان تتناقل الوسائط ما تبثه
(عصر يوم الثلاثاء 24 نوفمبر استضافت سونا ممثلين للجان المقاومة في مؤتمر صحفي، ولم أعجب لغياب كاميرا التلفزيون السوداني لنقل جانب من المؤتمر حيا على الهواء، فليس من عادة القناة تغطية أي حدث لا يرتبط بوزير على أقل تقدير)
ليت الأستاذ لقمان يعطي الأولوية لهيكلة العمل في التلفزيون بحيث يكون هناك رئيس او مدير تحرير او كبير محررين، وبحيث يتولى انتاج البرامج الإخبارية والحوارية أشخاص واسعو الأفق المعرفي يتولون توجيه الأمور من غرفة التحكُّم، والأمر الآخر الذي يشغل بال لقمان هو السعي لتحويل الإذاعة والتلفزيون الى هيئة مستقلة، وهذه غاية نبيلة، ولكنه لا هو لا وزير الاعلام يملك من هذا الأمر شيئا، وأقصى ما يستطيعان فعله في هذا الصدد هو تكليف شخصين او اكثر لإعداد دراسة حول الأمر، الذي لا يملك حق البت فيه الا البرلمان، والذي هو حاليا في خبر سيكون وقد يصبح في خبر كان، وخير للقناة السودانية أن ترتقي بأدائها المهني حتى يحس جمهورها أنها بحاجة الى حماية من تغول السياسيين، واهل الحكم ويصبح الدفاع عن استقلالها قضية عامة