رحل طائر الهوى على رهو المحافل والأغنيات الحزينة ذات ليلة لم يداعبها القمر أو يغازلها شعاع نجم وسيم. رحل في صمت الغروب من صدح بأعذب الألحان وبديع الكلمات فهز وجدان الأمسيات الهائمة بحبه دون وداع يسجي النفس بذاكرة الرحيل، ودون حديث يهمس للحلم ببقايا زخم يطول.
رحل الفنان العظيم والصديق العزيز حمد الريح، وهكذا يصبح قدر المسافات أن تطوي سكة الطلوع بلا إياب، يعود بما مضى من عذوبة تلاشت فجأة وتداعت بيننا كحبات عشق قديم.
حمد الريح منذ عرفته بالوطن المقدس، ومنذ أكلنا العيش والملح معاً بالسويد أدركت تماماً أن حمد رجل فنان ومبدع يتحلى إضافة إلى ما يتحفنا به من أعمال عظيمة وألحان جميلة وأداء ساحر بروح مرحة، كما أنه رجل إنسان بكل ما تحمل الكلمة من معنى وكريم ومجامل بلا حدود.
حمد أحب الغناء، وأخلص له كثيراً جداً، وهو من الفنانين القلائل الذين ولدوا عمالقة، خاصة وأن أول لحن له سيظل خالداً على مر العصور، وهو لحن أغنية ( يا مريا ) للشاعر الكبير الراحل صلاح أحمد ابراهيم:
يا مريا، ليت لي إزميل فدياس وروحاً عبقرية
وأمامي تل مرمر
لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك تمثالاً مكبر
وجعلت الشعر كالشلال
بعض يلزم الكتف وبعض يتبعثر»
لقد حولت أزاميل حمد كلمات هذه الأغنية لينبوع من التدفق النغمي الحالم فانهمرت شلالاً في كتوف الغناء السوداني يظل منسكباً على كل مقاييس العبقرية. ثم كانت ( إلى مسافرة ) للشاعر الراحل عثمان خالد وردة في حقل العطاء والحنية الدافئة:
«كل العمر كان لحظة واحدة نشوفو والشوق يتقد
نسكر نغيب من لطفو من دلو الحبيب
من لونو من كرز المغيب
الرامي محلو الثمر
في شفايفو زي ياقوت ندر
في شكلو زي نص القمر»
حقيقة تلك الأغنية تختصر كل مسافات العمر في لحظة من الوله المعتق والشوق المضئ، وما بها من شاعرية وألحان متموجة على وهج العيون وأنفاس الرحيق لهي استراحة حقيقية على شواطئ دنيا يهدي المرء فيها أعينه لمحبوب ينوي السفر (أهديك عيوني عشان أستريح .. الدنيا بعدك ما بتسر). ثم توالت الروائع:
« إن سحر الحياة خالد لا يزول
فعلام الشكاة من ظلام يحول
سوف يأتي الصباح وتمر الفصول
سوف يأتي ربيع أن تقضّى ربيع »
ما صاغه الشابي، وعطر به مسامعنا حمد لهو ربيع في فصول الأغنية السودانية، وروابي الكلمات والأداء. تعاقبت تلك الفصول لتنتج لنا باقات من عناقيد الورد الجميل كما جاء على لسان الشاعر عبد الواحد عبدالله:
« بيض الوجوه كأنهم رضعوا على صدر القمر
سود العيون كأنها شربت ينابيع السحر
وكأن ليلات المحافل كستهموا خصل الشعر »
فأي قمر رضع منه الشاعر تلك العبقرية، وأي ينابيع السحر تلك التي تمنح الأغنيات بريق الماس ورذاذ المطر غير ما بثه إلينا حمد الرجل المنارة والرجل الوعد ومحطات الرحيل لكل طيور الغربة (طير الرهو، حمام الوادي، العصفور الذي هجر العش في الأغنية التي يقول فيها انتو في وادي ونحن في وادي والأيام بيناتنا تنادي، ثم أغنية إنت كلك زينة وعايمة كالوزينة، وإلى آخر العقد الفريد). ثم تأتي رائعة كامل عبدالماجد « تايه الخصل»:
« أمانة عليك يا تايه الخصل
ويا خير عم في دروب عمرنا الضايع هطل
أنحن متين عرفناك ومتين الكنا ما دايرنو يحصل
داس مشاعرنا وحصل »
إن هذا الكم الهائل من العذوبة، ومشاعر الانتماء والتكوين تجعل المرء يغفو و يكاد لا يفيق، حين يرحل في إبداع حمد وفي حسن اختياره للكلمات والألحان التي يموسقها هو، أو يجد نفسه فيها بين إبداع الآخرين الذين يمدوه بألحان لا تتكرر ( كالساقية ) لناجي القدسي و(شقى الأيام) ليوسف السماني.
أمثلة الروائع لدى حمد لا تنتهي فأنت تسافر بين ضفاف أبحر من سحر الأغنيات: أحلى منك، عشان عارفني بستناك، حبيبتي، شالو الكلام، أمر الهوى، حينما كنت صغيراً، فرح المواسم، فاكرك حنين، مساخة الحلة، الرحيل، نسمة العز، كنا قبلك يا حليوة، لو عارف عيونك، سلم بي عيونك لو عز الكلام، ثم نختم الأمثلة بأغنيته العجيبة والتي يقول مطلعها:
«خليتني ليه عشت الشقا قبال اعرفك من زمان
من بدري لاقيتك أنا .. وصرحت ليك بالريد كمان»
لعلنا الآن نخرج قليلاً من شجن التنقل في حنايا الأغنيات لنروي بعض ما عاصرته مع حمد، وأقله ما أحدثه في رحلة (البوت) لفنلندا من السويد وهو أمر يستحق الوقوف والتأمل.
هذا البوت سفينة في حجم مدينة بها أربعة عشر طابقاً، وقاعات مؤتمرات وسينما وأسواق حرة وصالات رياضة، وأعداد من المطاعم الفاخرة، وصالات الديسكو والكازينوهات والاستراحات المختلفة.
وعادة ما تكون بها أكبر الفرق الموسيقية، وهو يعبر بحر البلطيق من استوكهولم في الغرب إلى هلسنكي بالشرق ثم يعود في رحلة تستغرق ثلاثة أيام.
كانت الجالية السودانية قد نظمت تلك الرحلة المليئة بالأحداث، وكان أهمها عندما استأذن رئيس الجالية من فرقة موسيقية تؤدي عروضاً في أحد مسارح السفينة لكي يقدم حمد أغنية واحدة كنموذج يعرف الحضور بالأغنية السودانية الآتية من قلب افريقيا النابض.
اختار حمد أغنية رجيتك وفي انتظار عينيك كملت الصبر كلو. حقيقة ما حدث من تجاوب من الجمهور يصعب وصفه.
هذا البوت يحمل قرابة الثلاثة آلاف شخص هجر معظمهم أماكنهم الأخرى، وأتوا يستمعون لحمد الريح الذي حول تلك الليلة الشتوية في القطب الشمالي إلى دفء استوائي حالم.
وبدلاً من أغنية واحدة أصر جمهور الحضور ومعظمهم من السويد، فنلندا، الدنمارك، ألمانيا، الولايات المتحدة واليابان أن يقدم حمد الأغنية تلو الأخرى، فكان فاصلاً عظيماً انتهى بمحاولات التعاقد معه للعام القادم.
أيضاً احتف بحمد كثير من الجاليات الأجنبية بالسويد، كما استضافته مراسلة ال MBC في ذلك الوقت (رولا مقدسي)، واختارته المدرسة البريطانية باستوكهولم ليحيي حفل التخرج، كما كان يغني في كل مناسبات السودانيين خلال فترة وجوده بالسويد، ولم يطلب فلساً من أحد.
كانت زيارة حمد للسويد بغرض المشاركة في أسبوع السودان بالسويد ورافقه المذيع اللامع الطيب عبد الماجد، وشقيقه الموسيقار صلاح عبدالماجد، واستمرت زيارتهم عدة أشهر ستظل محفورة في عمق الذاكرة، وقد مرت كأنها لحظات قليلة من عمر الزمان.
أنا بالحق أدين بفضل كبير لهم جميعاً، ففي أثناء وجودهم معي بالمنزل تعلمت ابنتي الصغيرة (الطبيبة بالسويد الآن) سارة العربي من خلال الحديث اليومي معهم، كما فعل أيضاً الأستاذ العظيم محمد ميرغني مع ابني الكبير محمد (المهندس بالسويد الآن)، عندما زارني بالسويد، وصار كل يوم يعلم محمد قواعد اللغة العربية كما علمني أنا بمدرسة العزبة الإبتدائية قبل أعوام خلت، وهذا حديث آخر لذاكرة الإبداع وإبداع الذكريات سأرويه لكم في مرة أخرى قريباً بإذن الله.
رحمك الله رحمة واسعة يا حمد، ونحن نحبك ونفتقدك بقدر ما متعتنا بروائع الأغنيات، ولك يا أيها الرجل البحر، وأيها الفنان الصادق في العطاء والإبداع والانتماء، لله والوطن والآخرين.
لك دعواتنا الصادقة بأن يتولاك المولى عز وجل بواسع رحمته ومغفرته، وأن يسكنك فسيح جناته، وأن يلهمنا في وأهلك وذويك ومحبيك الصبر والسلون، ولله ما أعطى ولله ما أخذ، ولا نقول إلا ما يرضي الله، وحقاً اننا لفراقك لمحزونون يا حمد.
مدخل للخروج:
مد البصر لف الظلام حول الجداول أسوره، نعسان خضارها الإتكى ورمى الغصون متكسره، والساقية طاحونة الانين طول الليالي مدوره
(مقال قديم جديد)