إيمان فضل السيد
اليوم طفح الحب وحصحص برحيلك الحزن والحق، وفرض نفسه بيننا الاحترام، احترام عقوداً عشتها تنافح وتكافح تتدبر وتتفكر تعطي فتجزل، وتدافع بلا كلل أو ملل عن قيم آمنت بها، كانت ديباجتها التسامح والسمو فوق الجراحات.
المارد الذي لم تقيده السجون، ولم تعطل عطائه الثر ومنتوجه الفكري والسياسي المنافي، في أضيق المساحات كان ينتزع حق التعبير عن رؤيته، ولو بورقة صغيرة داخل جيب جلبابه.
لا تستطيع أن تختلف معه دون أن تحترم وجهة نظره، وعندما تتفق معه تجده الأجدر على التعبير عنك. كيف لا وهو الممتلك لناصية الكلم، وتطويع العبارات، واستمالة الشعبي منها والفصيح، بلباقة فائقة وبلاغة يُحسد عليها، إذ تأتي كل العبارات مطاطئة الرأس طائعة لأمره.
أيقونة السلم والوفاق
الآن يحضرنا سعيه الدائم إلى نزع فتيل الخلافات، وتوطين التوافق بين الفرقاء، تحضرنا أكثر العبارات التي كان يرددها (الفشَ غبينتو خرب مدينتو)، تحضرنا مبادرات لم الشمل التي وزعها يمنة ويسرى، وما مشروع الميثاق الجامع لأهل القبلة إلا واحداً من مبادرات جم.
مشروع عظيم كان يهدف إلى ردم الهوة بين المتضادات، بالسعي إلى تنظيم الخلافات الحتمية بين السنة والشيعة، وبين التوجه الإسلامي والعلماني، بل تطرق المشروع حتى لاختلاف القوميات وصولاً إلى الاصطفاف الاجتماعي بين الثراء والفقر.
الإمام ببديهته الحاضرة والخارقة، دعانا إلى الاعتراف بهذه العوامل لكونها موجودة في الواقع وليست مفتعلة، ولقطع الطريق أمام استغلال الأعداء لها مع أنها ليست من صنعهم، إذ أكد أن السبيل الوحيد للتعامل معها هو القوة الناعمة، وأن أي محاولة لحسمها عن طريق القوة المفرطة تأتي بنتائج عكسية. هكذا على الدوام كنت يا إمام أيقونةً للوفاق والتسامح والمحبة والسلام فعلى روحك السلام.
رب الوسطية
أيها الورع المتدثر بالتقوى والصلاح المتسلح بالمعرفة والإيمان، أيما اختلاف جوهري معك، هو محض افتراء ومحاولة بائسة للنيل منك أو ربما عدم معرفة بمراميك النبيلة ونظرتك البعيدة لواقع الأشياء، فقد كنت الأقدر على التفكير خارج الصندوق في كثير من القضايا، على الرغم من أن هذا أتى خصماً عليك، وعلى حزبك السياسي الذي كنت في زعامته. ولكنه أظهر إلى أي مدى عشت كبيراً، تنظر إلى المشكلات والجراحات العميقة نظرة مسؤولية وحكمة. مبدؤك الوسطية ومنهجك الاعتدال. فكم وكم دعوت إلى الإقرار بحقيقة أن السنة والشيعة كلاهما مذهب موجود في الأمة الإسلامي،ة ولا يمكن إزالة أي منهما، وأن الوسيلة الوحيدة هي التعايش السلمي السني الشيعي، والاتفاق على الثوابت التي لا اختلاف عليها. ومضت نظرتك إلى أبعد من ذلك بما يوجب، التعامل الإيجابي مع العولمة والاحتماء من الأمركة، والحرص على الخصوصية الثقافية. فالوسطية كما وصفتها هي نسيج الإسلام، ومنهجه ودعوة إلى تحرير المجتمع من التقليد، والاستلاب، والهيمنة الأجنبية، ومن الحكم الاستبدادي.
الإمام الصادق بوصفه رئيس المنتدى العالمي للوسطية قدم في هذا الجانب عصارة جهده الفكري، إذ طالب الحركات الإسلامية (السلفية، الإخوانية، الصوفية و…الخ) بإجراء مراجعات تبيّن فيها المفاهيم الإيجابية في نهجها، فتتمسك بها، وتبيّن السلبيات فتتخلى عنها.
وبدأ هو نفسه بعمل مراجعات للمهدية، وقال إنه يدعو إلى إحداث هذه المراجعات؛ لأن الإسلام محمول عقدي، ثقافي، واجتماعي لا يمكن التخلي عنه، ولكن يجب التخلي عن الممارسات السيئة فيه. فطالب الحركات الإخوانية مثلاً بالتخلي عن فكرة الحاكمية المنسوبة لسيد قطب، والتخلي عن تكفير المجتمع، وأن يدرسوا ما حدث من أخطاء لهم في مصر والسودان. وكذلك طالب السلفية بضرورة مراعاة ظروف الزمان والمكان والحال في المسائل المتعلقة بالمعاملات. وفي التعامل مع حركات الغلو، مثل: داعش والقاعدة، طالب الإمام بالتصدي للفكرة نفسها (تكفير الآخر، العنف العشوائي، الجهاد بالعنف.. إلخ)، ومعالجة المظالم التي أدت لردود الأفعال الغاضبة هذه باعتبار أن استخدام المسائل الأمنية لا يعالج المشكلة.
الإمام من خلال منهجه، (الوسطية) دعء إلى العمل على بث ونشر وترسيخ ثقافة التسامح والسلام والحوار الدولي كأساس لفهم الآخر ،و قبوله والتعايش معه. وجعل الحوار الآلية الأمثل لحل الأزمات والخلافات، وآلية مواجهة آفات العصر من التطرف والإرهاب والعنف.
حكيم الأمة
أي القناديل أنت، وأي نبراس وضئ أنار دهاليز وعرة في دروب الحياة، اتسعت بصيرتك فهزمت بعميق الرؤيا، ضيق أفق السلفيين وضيق رؤية الإسلاميين. كم كنت جديراً في مقاربتك بين ما هو في أصل الدين الإسلامي وما هو ليبرالي، وبرز ذلك جلياً في نظرتك لاتفاقية (سيداو) التي تعامل معها كثيرون من دعاة التحرر، بدغمائية حمقاء.
قال الإمام فيها بكل ثقة، وهذا من أصيل خصاله، إنه لا يخاف في قول الحق لومة لائم. قال (نحن مع سيداو، موافقون على الاتفاقية مع التحفظ على البنود التي هي في حقيقتها ليست تمييزاً ضد المرأة، بل هي أشياء تخصّ الرجل والمرأة معاً).
وقال أيضاً (نحن نتحفظ فقط على ما يتعلق بنظام المجتمع، كالبنود التي تحوي علاقات مثلية وإباحية، فهذه الموقف منها لا يخصّ المرأة وحدها، وهذا لا يجعلنا ضد سيداو بل ضد أشياء تعتدي على الفطرة السليمة). بهذه الفلسفة الدينية والاجتماعية دافع الإمام عن حق عدم التمييز ضد المرأة، كما حافظ على الحق العام للمجتمع، الذي يتساوى فيه الرجل مع المرأة. فأي قائد أحق منك يا أمام أن يكون سيد الدفاع عن الحقوق والحريات مع إيجاد فلسفة وسط تجمع ولا تفرق وهذا يُنبأ عن نظرة كبير القوم وحكيمهم، فاستحققت عن جدارة لقب حكيم الأمة.
(بتاع كلو)..
(تعلم شيء عن كل شيء وتعلم كل شيء عن شيء) من المقولات التي رددها الإمام كثيراً، وظل يتمثلها في حياته حرفياً. فهو يمكنه أن يتحدث ويجادل في جميع المجالات، نقاش العارف المطلع القادر على تقديم موقف ورؤية نقدية في كل موضوع. رأيناه كيف يتحدث في قضايا البيئة والمناخ حديث العالم وفي الفلك والأجرام حديث الفلكي المحنك وفي الجيولوجيا والطبيعة والكيمياء والأحياء حديث الباحث والخبير وذلك كله لم يقلل تبحره في مجالات علم النفس والتاريخ والاجتماع والفلسفة والاقتصاد والقانون والإعلام والدبلوماسية الدولية…الخ
حتى الموسيقى والأدب أخذا جزءً وافراً من اهتمامه. لم ينكفئ كغيره من السياسيين في السياسة البحتة ولم تجعل منه إمامته للأنصار رجل دين فحسب، ليصبح ما قدمه من نظريات ورؤى وأفكار ومبادرات ومؤلفات في كافة المجالات، كافياً بان يجعله متمثلاً للمقولة الشهيرة: (بتاع كلو).
سنفتقدك يا إمام في هذه المرحلة الحرجة من عمر الوطن، وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر. الأحباب في حزب الأمة وكيان الأنصار، قد وضع الإمام على عاتقكم إرث عظيم. وأظهرتم أنكم على قدر المسؤولية عندما حسمتم أمر الإمامة والزعامة وفق المؤسسية، فإما حافظتم على إرثكم فدفع بكم إلى الأمام وإما بعثرتموه فصرتم هباءً منثورا.