يظن الكثيرون ان الخطر على الديمقراطية في الوقت الراهن يتمثل في وجود مليشيات عسكرية وعدم هيكلة القوات المسلحة، ولكن الحقيقة التاريخية تثبت ان الجيش كان مهيكلا وموحدا قبل انقلاب الانقاذ ولم تكن هناك مليشيات، ولكن هذا لم يحمي الديمقراطية بل تعرضت لعدد من الانقلابات، ولم تسجل دفاتر التاريخ اي وقوف عسكري ضد انقلاب عبود او نميري او البشير، إلا في حالات لا تكاد تذكر. وهذا الشيء ينطبق ايضا على المدنيين، لم يخرج المدنيون رفضا لأي انقلاب على الديمقراطية، لا ضد عبود لا النميري لا البشير، بينما من الغريب أن الجماهير أعادت نميري للحكم بعد حركة يوليو ١٩٧٦ التي قادها محمد نور سعد والجبهة الوطنية بقيادة حزب الأمة.
لذلك أزمة بلادنا في الديمقراطية ليست في هيكلة القوات المسلحة ولا وجود المليشيات من عدمه، وإنما في العقلية نفسها، في الثقافة المجتمعية وفي المعرفة الباطنية. العقلية العسكرية والعقلية المدنية السودانية تعاني من انخفاض حرج في مستوى الإيمان بالديمقراطية وحقوق الآخرين، وهذا هو السبب المباشر لازماتنا التاريخية في عدم استقرار الأنظمة الديمقراطية، والعامل الحاسم في نجاح الانقلابات المتعددة عليها.
لا مناص من الاعتراف بأن غالبية الشعب عسكر ومدنيين لا يهمهم كيف يحكمهم الحاكم سواء بالسوط او بالانتخاب، لا يؤسفهم سقوط الحكومات الديمقراطية ولا يغضبهم مجيء الشموليات، هذا الشعور هو الذي ساهم في استقرار الأنظمة العسكرية فترة أطول في البلاد، هو الذي جعل الديمقراطيات أقل عمرا وأقل احتراما، وهو شعور يظل مسيطرا حتى تهزمه هزات عظيمة في تاريخ الأمة توقظ الجماهير من غيبوبتها وتطلقها في ثورة هادرة لاسترجاع الديمقراطية، فتسترجع الجماهير الديمقراطية بالثورة ثم ما تلبث أن تعود لعدم اهتمامها القديم حتى تسقط الديمقراطية وتأتي شمولية جديدة وتعيث فسادا في الأرض حتى تصل الجماهير للحظة الحرجة وتثور مجددا، وهكذا ظل حال بلادنا منذ الاستقلال. وهو حال يحتاج إلى استعدال.
لاستعدال هذا الحال مطلوب أن تعمل ثورة ديسمبر على تغيير هذه العقلية في العسكر والمدنيين معا، العسكر هم مواطنون سودانيون وليسوا كائنات فضائية، يتأثرون بالثقافة السودانية ويحملون جينات الآباء والأمهات، اذا كانت الثقافة المجتمعية مشجعة على حماية الديمقراطية، تلقائيا سيكونون حماتها والمدافعين عنها، واذا كانت الثقافة الشعبية غير مهتمة بالديمقراطية والحقوق وتغلب عليها ثقافة السيطرة والهيمنة فإن العسكر لن يشذوا عن هذه الثقافة، وسيسعون للهيمنة والسيطرة عبر الانقلابات او غيرها.
هناك ظروف ربما لم تساعد السودانيين على الإيمان بالديمقراطية، منها ضعف الحكم الديمقراطي، إنتشار النعرات القبلية والجهوية، تدني مستوى التعليم، اعتماد التعليم على مناهج تغذي التبعية وثقافة القطيع وتستنكر الاستقلالية الفردية، مجمل هذه الظروف تجعل من الصعوبة بمكان إعادة من (شاب) على عدم الديمقراطية إلى(الكتاب) ليتعلمها من البداية. لذلك املنا في الأجيال الجديدة، فهي أكثر قدرة على الاستجابة لثقافة الديمقراطية، اكثر استيعابا لضرورة الاستقلالية الفردية داخل منظومة الحزب والمجتمع، وذلك لأنها محتكة بصورة شبه يومية عبر وسائل التواصل والانترنت بالحضارات الديمقراطية حول العالم، لذلك مهم العمل على هذه العجينة الخام، فما ينتج عنها هو المحدد الاهم لمستقبل الديمقراطية في السودان، هو المحدد اللهم في مدى إستبدال العقلية العسكرية والمدنية التقليدية بعقليات حديثة ترفض الهيمنة، تمنع الانقلابات، وتحمي الديمقراطية والحريات.
sondy25@gmail.com