روزنامة الأسبوع
الإثنين
أوشكت على الكتابة مستنكراً التَّدريبات المشتركة «نسور النِّيل/1» للقوَّات الجَّويَّة السُّودانيَّة والمصريَّة، بقاعدة «مروي»، خلال النِّصف الثَّاني من نوفمبر 2020م، لولا أن شغلني البلاغ المؤرَّخ 17 نوفمبر (لاحظ رمزيَّة التَّاريخ!) حول لقاء تمَّ بالقاهرة، بين الحزبين الشِّيوعيَّين، السُّوداني ممثَّلاً بالحارث التُّوم، عضو سكرتاريَّة المركزيَّة، وفتحي الفضل عضو سكرتاريَّة المركزيَّة، ومسؤول الإعلام، والنَّاطق الرَّسمي، والمصري ممثَّلاً بصلاح عدلي، الأمين العـام، وبأعضـاء بالمركزيَّة، والمكـتب السِّـياسي.
«الميدان» التي أوردت البلاغ في 19 نوفمبر ذكرت أن الجَّانب السُّوداني نوَّر الجَّانب المصري بالتَّطوُّرات السِّياسيَّة في السُّودان، ومن بينها بيان الحزب ضدَّ التَّطبيع مع إسرائيل، وتحفظاته على سلام جوبا، وانسحابه من الحريَّة والتَّغيير، ونداؤه لاصطفاف جديد، ورؤيته للتَّحالفات الاستراتيجيَّة والتَّكتيكيَّة؛ ودعوة الطرفين إلى مزيد من الحوار، ولمبادرات القوى صاحبة المصلحة في السَّلام الشَّامل والدِّيموقراطيَّة، ولعقد مؤتمر دستوري لتقسيم الثَّروة والسُّلطة، ولحلِّ الأزمة من جذورها؛ كما أدانا الابتزاز الأميركي، والدَّور «السيء» لبعض الأنظمة العربيَّة في دفع التَّطبيع، والانجرار وراء «صفقة القرن» الرَّامية لتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة؛ كما اتَّفقا على تصعيد التَّضامن مع الفلسطينيِّين لإقامة دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس، واتَّفقا على التَّنسـيق مع القوى العربيَّة الرَّافضة للتَّطبيع، كونه لم يحلَّ مشاكل البلدان العربيَّة واﻷفريقيَّة التي اعتمدته.
من جانبه عرض صلاح عدلي للتَّحوُّلات الجَّارية بمصر، ودعوة حزبهم مع القوى التَّقدُّميَّة لحلِّ المشاكل الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة لصالح الأغلبيَّة، وتوسيع مشاركة الأحزاب الوطنيَّة والنَّقدُّميَّة في تحقيق الدِّيموقراطيَّة، والعدالة الاجتماعيَّة، والحريَّات السِّياسيَّة، وحقوق الإنسان، ومواجهة المخاطر الدَّاخليَّة والخارجيَّة. كما ناقش اللقاء تطوير علاقات الحزبين في ما بينهما، ومع القوى الوطنيَّة والتَّقدُّميَّة في البلدين.
انتهى البلاغ. وكلُّه جميل جدَّاً، إلا شيء واحد ليس جميلاً، ولا مقبولاً حتَّى، هو عدم تطرُّق اللقاء ولو بكلمة يتيمة، لاحتلال القوَّات المصريَّة لمثلَّث .. «حلايب وشلاتين»!
الثُّلاثاء
لو أن عبد الواحد كان قد طرح، قبل عام، مبادرته الحاليَّة لإنفاذ السَّلام من الدَّاخل، لكنَّا، الآن، قد .. «عَبَرْنَا»!
الأربعاء
الحواريَّة الرَّاقية التي افترعها صديقي العزيز عبد الله علي إبراهيم، تحت عنوان «مطلب الاحتكام للقضاء كلمة حقٍّ لباطل»، وتداخل فيها معه الأستاذ بلَّه البكري بعنوان «العَدالة والقانون وتفكيك ما بينهما»، حدت بي لاستدعاء كلمة، في ذات الموضوع، كنت نشرتها في 14 أكنوبر 2018م، بعنوان «فِي المَسَافَةِ بَيْنَ القَانُونِ والعَدَالَة»: كالآتي:
[كثيراً ما يرتجَّ الأمر على النَّاس في شأن العلاقة بين مفهومي «القانون» و«العدالة»، فيحسبونهما متطابقين، وأن لكليهما دلالة تبادليَّة واحدة interchangeable؛ بينما هما في الحقيقة متباينان تماماً، وإن كان المأمول أن يفضي أوَّلهما إلى الثَّاني. وربَّما لهذا قال بعض الحكماء إن بين الظلم الظاهر والعدل الخفي خيط رفيع لا يراه إلا أهل القلوب! ذلك أن «القانون»، كجزء من الثَّقافة الرُّوحيَّة ذات المضمون الطبقي، هو جماع القواعد التى تقرِّرها «الدَّولة» لضبط العلاقات الاجتماعيَّة وفق القيم التي تعكس مصالح الطبقة السَّائدة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً واجتماعيَّاً وثقافيَّاً. فحماية هذه المصالح، إذن، هي غاية القاعدة القانونيَّة التي يقرِّرها المشرِّع، والتي تضمن «الدَّولة» احترامها وإنفاذها. بهذه الكيفية ينتمى «القانون» إلى البناء الفوقي superstructure الذى يعكس مستوى الوعي الاجتماعي السَّائد. فإذا أخذنا في الاعتبار البطء النِّسبي الذى يَسِمُ التغيُّر في هذا البناء، فإن «القانون» يتمظهر كقوَّة خارجيَّة محايدة، في حين تحتاج «الدَّولة» التي هى توأمه، كونها الأداة التنظيميَّة لسلطة الطبقة السَّائدة، والتَّعبير الأكمل عن إرادتها السِّياسيَّة، إلى ترسانة من أجهزة القمع، وتدابير الإكراه، لضمان إنفاذه! وحيث أن كلَّ نظام قانوني يعكس، بالضَّرورة، مبادئ النِّظام الاجتماعي الذى يضبطه، فيمكن، ضمن هذا الاطار الفكري، ملاحظة الفارق الشَّاسع بين طلاقة التَّوقير الذي تحظى به، فى المجتمعات البدائيَّة، أو الخارجة، لتوِّها، من مرحلة البدائيَّة، قواعد السُّلوك الاجتماعي العام المرعيَّة بالتَّراضي، ومكانة الشِّيوخ المسلم لهم، عن طيب خاطر، بالإشراف الأبوي على الالتزام بذلك السُّلوك، من جهة، وبين الكلفة العالية التي يقتضيها، من جهة أخرى، فرض هذه القواعد، في «الدَّولة» الحديثة، بفيالق مسلحة، وأجهزة قمع متخصِّصة!
فـ «القانون»، إذن، مؤسَّسة اجتماعيَّة، وشكل تاريخيٌّ لـ «حقوق» و«واجبات» الأفراد والجَّماعات يتَّسق وأسلوب الانتاج في المجتمع المعيَّن، وطابع العلاقات بين طبقاته. لذا، فهو، من هذه الزَّاوية، مفهوم ملتبس؛ فعلى حين يعبِّر، في حقيقته، عن أفق محدود من التَّصوُّرات القيميَّة والمعرفيَّة لجزء من المجتمع، يزعم تمام القدرة على الإحاطة بكلِّ القيم الاجتماعيَّة! ومن ثمَّ، على حين يجرى تصويره كأداة محايدة، منتصبة فوق الجَّميع، وعلى مسافة واحدة من الجَّميع، ومقبولة، بالتَّراضي، من الجَّميع، فإنه يمثِّل، في الواقع، ساحة صراع تاريخي، اقتصادي سياسي، واجتماعي ثقافي.
أما «العدالة» فهي المعيار الأساسي الذي يقدِّر به عقل الأغلبيَّة ووجدانها الجَّمعيَّان، في المجتمع، حدود الالتزام بهذه «الحقوق» و«الواجبات» بمنأى عن إرادة السُّلطة. بعبارة أخرى، لئن كان «القانون» علماً يستلزم تدريباً مخصوصاً للإلمام بفنيَّاته، كأداة ضبط سلطانيَّة تتنزَّل نصوصها على الأغلبيَّة دون اعتبار لإرادة هذه الأغلبيَّة، توهُّماً من عند السُّلطة بأن «العدالة» تدور، حتماً، حيثما دارت هذه النُّصوص، فيتحقَّق الخير بقانون، ويندحر الشَّرُّ بقانون، وتستقيم الفضيلة بقانون، وتنتفي الرَّزيلة بقانون، ويسطع الجَّمال بقانون، وينطفئ القبح بقانون، فإن «العدالة» تمثِّل، في حقيقتها، نزوعاً تلقائيَّاً أصيلاً للفطرة تستشعره العقول السَّليمة، والضَّمائر الحيَّة، دونما حاجة إلى نص. بل ما أكثر ما يجابه القاضي، مثلاً، من تناقض بين نصوص «القانون» المصنوع، ومقاصد «العدالة» التِّلقائيَّة، فلا يكون أمامه سوى أحد مخرجين: إما أن يتنحَّى، أو أن يغلب هذه المقاصد لدى تأويله للنُّصوص، مع ما في هذا الخيار الثَّاني، على نبله، من شبهة المصادمة، أحياناً، لـ «القانون»!
مهما يكن من شئ، فلا ثالث لهذين المخرجين سوى أن يلغي القاضي عقله، ويغطي على ضميره، معزيَّاً نفسه بأن وظيفته هي، فحسب، تطبيق النُّصوص! وما أضيق ذلك من مخرج يختاره قاض مسلم أو مسيحي! فالقاعدة الشَّرعيَّة الإسلاميَّة: «لئن يخطئ الإمام في العفو خير من أن يخطئ في العقاب»، تقابلها القاعدة الأنجلوسكسونيَّة المنحدرة من أثر مسيحي: «الأفضل تبرئة مائة مجرم من إدانة برئ واحد». وفي الحديث الشَّريف: «قاضيان في النَّار وقاض في الجَّنَّة»، و«من جلس للقضاء كمن ذبح نفسه بسكين». ولعلَّ وليم تمبل، كبير أساقفة كنتربري، قد ذهب إلى معنى مشابه، لدى زيارته لبعض المحاكم فى إنجلترا، حسبما روى اللورد ديننق، أحد أشهر القضاة الإنجليز، في صدر كتابه «طريق نحو العدالة» عن مخاطبة نيافته لقضاة تلك المحكمة بقوله: «لا أدَّعي أننى أعرف الكثير عن القانون، غير أننى أوجِّه اهتمامي، بالدَّرجة الأولى، إلى العدالة»!
وإذن، فالنزوع إلى «العدالة»، وكراهة «الظلم»، قيمتان ساميتان متجذِّرتان في صميم الفطرة الإنسانيَّة، وقد أمرت بهما الأديان أجمعها، مثلما درج الحكماء من مختلف الجِّنسيَّات، وشتَّى البيئات، والمدارس الفكريَّة، على توقيرهما. وقد جرى التَّعويل عليهما، دائماً، لمجابهة القمع، كطبيعة متأصِّلة في «القانون»، وللتَّخفيف من غلوائه فى كثير من الحالات، بل ولكسره فى غير القليل منها! واستطراداً، فإن قيمتَي «العدل» و«المساواة» غير متطابقتين، كما قد يظنُّ البعض. هذا من ناحية، أمَّا من ناحية أخرى فقد أضحت حتَّى أكثر التَّيَّارات سلطويَّة تدرك، ولو من باب الحرص على الاستقرار النِّسبي لسلطتها، أهميَّة ألا تصطدم القاعدة القانونيَّة، في أىٍّ من سياقيها التَّشريعي أو القضائي، إصطداماً فاجعاً بتطلعات الأغلبيَّة الشَّعبيَّة، في المجتمع المعيَّن، إلى الحياة الأفضل، والوجود المغاير، وأن تعي ضرورة انفتاح هذه القاعدة، بالقدر الذي يمكِّنها من استيعاب أعمِّ التَّصوُّرات الجَّمعيَّة للخير والشَّر، الصَّواب والخطأ، الجَّمال والقبح، الفضيلة والرَّذيلة، وما إلى ذلك، لضمان القدر المعقول من القبول بالقواعد القانونيَّة الحاكمة للعلاقات في ما بين النَّاس، من جهة، وبينهم وبين السُّلطة، من جهة أخرى، وهي علاقات اقتصاديَّة سياسيَّة في المقام الأوَّل].
الخميس
حقَّ لحكومة الجَّزائر، لدى زيارة الرَّئيس الفرنسي ماكرون لها في ديسمبر 2017م، أن ترفض طلبه لقبول عودة «الحركيِّين» إلى البلاد، وهم الجَّزائريُّون الذين حاربوا في صفوف الجَّيش الفرنسـي ضـدَّ ثورة بلادهم (1954م ـ 1962م)، والتي دخلت التَّاريخ باسم «ثورة المليون شهيد»، ثمَّ، عندما انتصرت الثَّورة، وأُبرمت «اتِّفاقيَّة إيفيان 1962م»، غادر نحو 60 ألفاً منهم، في خسَّة ونذالة، إلى فرنسا، مع جيشها، وتحت حماية عناصره التي كان يُطلق عليها «الأقدام السَّوداء»، خشية التَّعرُّض للانتقام، بينما بقي نحو 80 ألفاً منهم في الجزائر، حيث تعرضوا، بالفعل، للكثير من العمليَّات الانتقاميَّة!
منذ وصولهم فرنسا، وحتَّى أواسط سبعينات القرن المنصرم، وُضع «الحركيُّون» في مراكز لجوء وُصفت بـ «السُّجون المفتوحة»، في الجَّنوب والشَّمال الفرنسيَّين، فظلوا يقاسون شظف العيش فيها، قبل أن تُغلق، على أيَّام ديستان، عام 1974م. ثمَّ نُقلوا إلى شقق أفضل، نوعاً، في بعض الأحياء الشَّعبيَّة، لكن معاناتهم بقيت على حالها، بل وتفاقمت، مع كرِّ السِّنين، من حيث الفقر، والبطالة، والعنصريَّة، وشُحِّ فرص العمل.
استمرَّ ذلك الواقع المزري لأكثر من نصف قرن، مشكِّلاً أزمة للحكومات الفرنسيَّة المتعاقبة، وتحدِّياً انتخابيَّاً للمتنافسين على كرسي الإيليزيه. حدث ذلك مع جميع الرُّؤساء الذين لم تخلُ حملة أيِّ منهم الانتخابيَّة من وعود بتحسين ظروف «الحركيِّين»، والاعتراف بـ «فضلهـم» على فرنسـا خـلال الثَّورة الجَّزائريَّة! شيراك، مثلاً، خصَّص، في 2003م، يوماً وطنيَّاً لتكريمهم، وساركوزي أكَّد، في 2012م، عدم وجود سبب لتخلي فرنسا عنهم، وهولاند اعترف، في 2016م، بمسؤوليَّة فرنسا عمَّا تعرَّضوا له من انتقامات في الجَّزائر بعد خروج الاستعمار عام 1962م، أمَّا ديستان وشيراك فقد قدَّما لهم الكثير من الخدمات، وإن لم تبلغ، في نظرهم، مستوى «تضحياتهم»، حيث ظلت التَّعويضاتُ الماديَّة هي ما يهمُّ أجيالهم الجَّديدة أكثر من المعنويَّة!
عليه ضمَّن ماكرون حملته الانتخابيَّة، في 2017م، تعهُّدات قويَّة بـ «إنصافهم». لكنه، عند دخوله الإيليزيه، فعل ذلك بطريقة مختلفة عن سابقيْه، حيث حاول اصطياد أكثر من عصفور بحجر واحد، وبكلفة زهيدة، إذ سعي لإعادتهم إلى الجَّزائر لتصبح هي، لا فرنسا، المسؤولة عنهم، لولا أن حكومتها رفضت إعانته على ذلك! ولعلَّ أقوى تعبيرات ذلك الرَّفض ما صرَّح به الطيب زيتوني، وزير المجاهدين وقدماء المحاربين، لدى ترحيبه، في سبتمبر 2018م، باعتراف ماكرون الاعتذاري عن نظام «التَّعذيب» الذي افترعته بلاده في الجَّزائر، وراح ضحيَّته، مثلاً، موريس أودان، المناضل الشِّيوعي الجَّزائري ذو الأصل الفرنسي، أمَّا «الحركيُّون» فقد اعتبر زيتوني أن «التَّاريخ قد حسم مصيرهم»، قاطعاً بأنَّ «الذين خانوا وطنهم لا تحقُّ لهم العودة إليه»!
ومع أن ذلك الرَّفض لا يشمل أولاد «الحركيِّين»، إﻷ أن الحكومة لا تستطيع، مهما سنَّت من القوانين، أن تضمن ألا ينظر إليهم الجَّزائريُّون باحتقار، فتلك مشاعر لا تملك الحكومات، بطبيعة الحال، أن تتحكَّم فيها!
الجُّمعة
سبق أن أثرنا، وها نحن نثير، هنا، لعناية رئيس وأعضاء مجلس السَّيادة، مسألتين مهمَّتين كالآتي:
أوَّلاً: لئن يقوم الفريق أوَّل البرهان، مؤخَّراً، بتهنئة رئيسي رومانيا وأفريقيا الوسطى، بالعيدين الوطنيَّين لبلديهما، فذاك أمر من أخصِّ اختصاصاته الدُّستوريَّة «الشَّرفيَّة». أمَّا أن يصرَّ على مواصلة حلمه بأن يصير «الرَّئيس القائد»، حيث ما ينفكُّ يتخطَّى، المرَّة تلو المرَّة، جهاز الدَّولة «التَّنفيذي»، ليتواصل مع «تنفيذيِّي» الدُّول الأخرى، خصوصاً «رؤساء جمهوريَّاتها»، في كلِّ ما لا يخصُّه، معتبراً نفسه، هو الآخر، «رئيسَ جمهوريَّةٍ»، بينما هو ليس كذلك، وما ينبغي له، فذاك أمرٌ غير مقبول ولا معقول، بل إن لديَّ ما يحملني على الاعتقاد بأن «متنطِّعاً» ما، من قدامى الفلول، أو من المتزاحمين بالمناكب، منذ حين، حول السُّلطة، وسوس في أذنه بأن «الوثيقة الدُّستوريَّة» لم تحسم أمر «برلمانيَّة» الجُّمهوريَّة! وربَّما كان هذا صحيحاً. لكن ما غفل عنه هذا «المتنطِّع»، يقيناً، هو أن «الوثيقة» ذاتها لم تحسم، أيضاً، مسألة «جمهوريَّة الرَّئيس القائد»، فضلاً عن أن الشَّارع قد حسم هذا الأمر، بإرادته الحرَّة، منذ أمدٍ بعيد، فصار، بالنِّسبة لكلِّ من ألقى السَّمع وهو شهيد، أحد قوانين الثَّورة السُّودانيَّة التي لا تقبل «المكابرة»! فالجُّمهوريَّة الأولى، عقب نيل بلادنا استقلالها السِّياسي في 1956م، كانت برلمانيَّة، والجُّمهوريَّة الثَّانية المستعادة، بعد إسقاط عبود في ثورة أكتوبر 1964م، كانت برلمانيَّة، والجُّمهوريَّة الثَّالثة المستعادة، بعد إسقاط النِّميري في انتفاضة أبريل 1985م، كانت برلمانيَّة؛ والآن، وسواء أقرَّ البرهان بذلك أم لم يقر، ليس هنالك سبب واحد يجعل الجُّمهوريَّة الرَّابعة المستعادة، الآن، بعد إسقاط البشير في ثورة ديسمبر 2018م .. «رئاسيَّة»!
ثانياً: لئن يصف البروفيسير صدِّيق تاور دور «مجلس السَّيادة»، الذي هو عضو فيه، بأنه «تشريفي ومحدود»، وأن «رئيس الوزراء هو رئيس الدَّولة الفعلي»، وأن «مجلس الوزراء هو المؤسَّسة المعنيَّة بالسَّلام، والعلاقات الخارجيَّة، وإصلاح الأجهزة الأمنيَّة»، ويدمغ بعدم السَّلامة «أيَّ تفسير يحاول انتزاع هذه الصَّلاحيَّات من مجلس الوزراء»، فهذا موقف صحيح تماماً؛ ولئن تعبِّر، كذلك، الأستاذة عائشة موسى السَّعيد، عضوة مجلس السَّيادة، عن رفضها لما يسمَّى «مجلس شركاء الحكم»، وتعتبره «انقلاباً صارخاً على ثورة ديسمبر المجيدة»، و«تقويضاً للوثيقه الدُّستوريَّه»، وتعترض، أيضاً، على «ضعف تمثيل النِّساء في كلِّ المستويات»، وعلى «عدم السَّعي لإصلاح المؤسَّسات العدليَّة والقوَّات النِّظاميَّة»، مِمَّا «عطّل مسيرة التَّحقيق في الجَّرائم ضدّ الانسانيَّة»، فهذا، أيضاً، موقف صحيح تماماً؛ أمَّا أن يقتصر اﻹفصاح عن موقف القطاع المدني داخل مجلس السَّيادة على تاور وعائشة، فهذا لا يبشِّر بأيِّ خير؛ كما وأن يظلَّ كلاهما مشاركاً بصمته في ارتكاب هذا الفعل «غير السَّليم» طوال الفترة الماضية، ثمَّ عندما ينتبهان إلى ذلك الآن، بعد انقضاء زهاء نصف الفترة الانتقاليَّة، يكتفيان بإصدار التَّصريحات، فقط، على صحَّتها، فهذا، بدوره، غير صحيح، ولا معقول، ولا مقبول!
السَّبت
أستبعد أن تكون للأخ الأستاذ يسن حسن بشير أجندة ذاتيَّة ضيِّقة تجاه الحزب الشِّيوعي. لذا فإنني، بالنِّسبة لخلطه، أواسط نوفمبر 2020م، على قتاة «سودان بكرة»، بين موقف الشِّيوعيِّين من مفهومي «الرَّأسماليَّة الوطنيَّة»، و«الرَّأسماليَّة الطفيليَّة»، أرجِّح أحد أمرين: فإمَّا أنه، لمشاغله الجَّمَّة، لم يجد فرصة كافية للتَّدقيق في أدبيَّاتهم بشأن المفهومين، أو أنه، هو نفسه، لا يرى فرقاً بينهما. كلا الاحتمالين وارد، خاصَّة وأن يسن ما لبث أن انبرى للدِّفاع عن «الرَّأسماليِّين الطفيليِّين»، مسمِّياً من بينهم «السَّماسرة» بالذَّات، معتبراً أنهم «يقومون بعمل مفيد للوطن!»، فلا يجوز، على حدِّ تعبيره، أخذهم بالبحث عن «الرِّبح»، حيث أن ذلك «ليس ممنوعاً ولا حراماً»!
أيَّاً كان الأمر، ورغم أن الشِّيوعيِّين، كغيرهم، ليسوا معصومين من النَّقد، إلا أن النَّقد، عموماً، ينبغي أن يتَّسم بالانصاف، ولكي يكون كذلك لا بُدَّ أن ينبني على حقائق، لا تصوُّرات، ولذا كان على الأستاذ يسن استصحاب الآتي:
أوَّلاً: الشِّيوعيُّون لا يقولون إن «الرَّأسماليَّة الطفيليَّة»، من حيث الجِّنسيَّة، لا تنتمي إلى «الرَّأسماليَّة الوطنيَّة»، لكنهم يقولون إنَّها، من حيث الوظيفة، وعلى حين يمكن أن تسهم «الوطنيَّة» في التَّنمية، تنشط تلك، بعكس ذلك، في تدمير جهود هذه «التَّنمية»، ومن ثمَّ يقف الشِّيوعيُّون ضدَّ أن تتصدَّى «الطفيليَّة» لقيادة بقيَّة الأقسام «الوطنيَّة»، وضدَّ أنظمة الحكم التي تمكِّنها من ذلك.
ثانياً: عليه، أضحى الشِّيوعيُّون، منذ زمن بعيد، يخصُّون بمصطلح «الوطنيَّة» أقسام «الرَّأسماليَّة السُّودانيَّة» التي تسهم في «التَّنمية»، تاركين مصطلح «الطفيليَّة» ليعبِّر عن القسم غير المنتج، والذي ينشط، بالأساس، ضدَّ جهود «التَّنمية».
ثالثاً: الشِّيوعيُّون لا يقولون إن كلَّ الرِّبح «ممنوع أو حرام»، لكنهم يميِّزون بين نوعين منه؛ الأوَّل يتحقَّق بالنَّشاط الاقتصادي المنتج، كما في القطاعين الصِّناعي والزِّراعي وغيرهما، وهو ما تمارسه «الرَّأسماليَّة الوطنيَّة»، وما ينبغي أن يكون مباحاً، بل ومشجَّعاً عليه؛ أمَّا الآخر فيتحقَّق بالخبطات الهامشيَّة السَّريعة، غير المنتجة، كالسَّمسرة، والمضاربة في العقارات، والعملات، على نهج «الهبرو ملو»، وهو ما ينبغي ألا يكون مرحَّباً به، ولا مشجَّعاً عليه، وتنشط فيه «الطفيليَّة غير المفيدة للوطن»، بعكس ما قال يسن.
رابعاً: تلعب الدَّولة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة دوراً أساسيَّاً في توجيه السِّياسات الاقتصاديَّة، ودفعها على طريق الإنتاج والتَّنمية على الأصعدة كافة، وهو ما يعني، بشكل صريح، التَّضييق على كلِّ ما يعبِّد الطريق أمام «الطفيليَّة». غير أن ذلك لا يعني، البتَّة، استخدام العنف ضدَّها، أو شنَّ أجهزة القمع عليها، بقدر ما يعني وضع الخطط، ورسم البرامج التي تيسِّر نشاط «الوطنيَّة» المنتجة، وتشجِّعها على تحقيق أرباحها بهذا الطريق. وكمثال على ذلك ينبغي إصدار قوانين للاستثمار تحدِّد مجالات التَّنمية الصِّناعيَّة، والزِّراعيَّة، والسِّياحيَّة، والثَّقافيَّة، وغيرها، مِمَّا يُفترض أن تتكفَّل الدَّولة الوطنيَّة الدِّيموقراطيَّة برعايته، ومنحه، وحده، كلِّ التَّسهيلات، والإعفاءات، وما إليها.
الأحد
دخلت الزَّوجة مطبخها لتجد زوجها يجول فيه ممسكاً بمضرب ناعم. سألته: «ماذا تفعل»؟! أجابها: «أطارد الذُّباب»! سألته: «وبكم ظفرت منها»؟! أجابها: «بذكرين وثلاث إناث»! سألته مندهشة: «عجيبة! وكيف ميَّزتَ الذكور من الإناث»؟! أجابها واثقاً: «بسيطة، الذَّكَران كانا عالقين على دورق الجُّعة، أمَّا الإناث فكنَّ عالقات على .. الهاتف»!
***
kgizouli@gmail.com