النظم الانتخابية تدخل في الحجر الصحي قيد تعافي الديمقراطية الأميركية.
معظم المراقبون و المحللون السياسيون يتوقعون أن تكون هناك آثار سلبية في العالم لما يحدث في أميركا من خلاف حول نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة. و ذلك ليس عملا بالمثل المقتبس من السياسي النمساوي القائل إنه “عندما تعطس أميركا يصاب العالم كله بالانفلونزا”، إنما يبدو الأمر هنا أكبر بكثير.
أولاً لا يختلف اثنان ان ما يحدث في أميركا في هذه الأيام هو أمر غير طبيعي؛ إذ إنها لم تشهد منذ تأسيسها قط حالة كهذه. حدثت في التاريخ ثلاث حالات مشابهة. أقرب هذه الحالات إلى الذاكرة هو ما حدث في انتخابات عام 2000م بين مرشح الحزب الجمهوري الرئيس بوش ومرشح الحزب الديمقراطي آل غور، وذلك عندما نشب خلاف حول نتائج انتخابات ولاية فلوريدا؛ بسبب بعض القراءات غير الواضحة لماكينات فرز البطاقات الانتخابية.
يختلف الأمر الآن عن غيره؛ وذلك لأن الطرف المدعي (فريق الرئيس ترمب) لم يبرز أي دليل واضح أو مقبول أمام المحاكم يدل على خطأ أو تزوير، و إنما اكتفي بطرح الأمر على مسرح الرأي العام و قنوات التواصل الاجتماعي.
وثانياً يختلف الأمر لأن الرئيس ترمب قبل الانتخابات سبق أن رفض الإدلاء برأيه حول قبول النتائج، والإقرار بالتحول الديمقراطي في حال خسارته في الانتخابات. وهو ما فسره البعض بإنه “سبق إصرار وترصد” لوأد عملية تداول السلطة كما عرفها الأمبركيون.
ما نشاهده خلال هذه الفترة هو “الديمقراطية في حالة تفاعل كيميائي”، فقد أقدم الرئيس ترمب على اتخاذ قرارات خطيرة تمس بعضها الأمن القومي للولايات المتحدة. و لكن مع ذلك تعامل بها الأميركيون إلى الآن “ببرودة دم” لا مثيل لها.
فقد رفض الاعتراف بنتائج الانتخابات، رفض لفرق التسليم و التسلم العمل مع بعضها بعضاً، وقام بطرد وزير الدفاع ومدير الأمن القومي. وتجاهل تماما جائحة كورونا، وأمر بسحب معظم القوات الأميركية من أفغانستان، وخطط على ونوى ضرب إيران دون استشارة الكونغرس، عين في وزارة الدفاع شخصيات خلافية تم رفضها سابقاً من طرف الجميع. مثل هذه القرارات عادة لا تتخذ في هذهو الفترة من طرف الرئيس المغادر. وقد فسرها بعض المحللين بأنها قرارت يشوبها الانتقام.
تم كل هذا خلال أسبوعين فقط من تاريخ خسارته للانتخابات. لو حدث كل هذا في أي دولة أخرى من دول العالم ربما ستكون النتائج مختلفة وردود الفعل قد تكون عاصفة.
مثال ذلك أن يرفض قادة الجيش تنفيذ أوامر الرئيس، أو أن يقوم موظفو الخدمة المدنية بعمل تخريبي لتقويض إدارة الرئيس ترمب، أو غيرها من الأعمال المخالفة للقانون. و لكن على العكس لم يحدث كل هذا، و ظل الجميع يمارس مهامه، بالرغم من عدم الرضا العام الذي يسود الإعلام و الرأي العام. بل إن الرئيس المنتخب بايدن لم يعلق على بعضها، واكتفي فقط بالقول إنه أمر مخجل، وواصل في التركيز في بناء فريقه القادم لمواجهة جائحة كورونا والأزمات الأخرى.
ظلت أميركا مثالاً يشار إليه في الممارسة الديمقراطية، وللمواطن الأميركي مقدرة فائقة على تحمل إفرازات الحريات العامة، وممارسة الحق الديمقراطي، ويأتي ذلك نتيجة طبيعية لتاريخ تكوين المجتمع وما أفرزته الحروب الأهلية من تجارب مريرة، بما في ذلك نظام العبودية ومعاناة السكان الاصليين، إضافة إلى آثار الهيمنة التي مارسها عليهم التاج البريطاني.
لو كان للأميريكيين هذا القدر من التحمل “وبرودة الدم” في التعامل مع الوضع؛ لإرثهم التاريخي، فإن لذلك آثاراً وخيمة في مستقبل الديمقراطية، والعملية الانتخابية في العالم، بل ربما ستستمر هذه الآثار إلى أمد بعيد.
معظم الدول لا تتمتع بنظم سياسية متينة لمواجهة مثل هذه الحالات، بل ربما لو استشهدت بالمثال الأميركي، فإنها ستقود إلى أزمة دستورية في الحال.
إلى أن تتضح الأمور في أميركا، على النظم و الديمقراطيات الأخرى الدخول في الحجر الصحي حتى لا تنتقل إليها عدوى الانتخابات الأميركية.
السر محمد احمد
6ديسمبر 2020