يوم الخميس من كل أسبوع في هذه المساحة (بدون سياسة) حتى نرتاح قليلاً من سيرة المؤتمر الوطني وفلول الإنقاذ و(مجلس شركاء برهان).. وقد أهدانا مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي سِفراً قيماً من منشوراته يحمل عنوان (التجاني الماحي: أبو طب النفس الإفريقي) وهو كتاب قيم أعده باللغة الانجليزية ابنه (علي التجاني الماحي) وهو يحكي جانباً من سيرة أبيه الفكرية والإنسانية والعملية بتجرد تام إلا من (نفحة البر الواجبة) تجاه والدٍ كان أعجوبة في زمانه وسيرته وريادته وعلمه ومواهبه وعبقريته وسودانيته وإنسانيته الرحبة!
التجاني الماحي (رجل عجيب) يفعل الأعاجيب التي لا تخطر ببال وفق ما يؤمن به وما يمليه عليه ابداعه وضميره! وسنرى من ذلك عجباً.. ومثال ذلك أنه كان طبيباً (ملء السمع والبصر) في وزارة الصحة السودانية عندما تم العدوان الثلاثي على مصر فكتب استقالته وحمل بندقية الصيد خاصته (9M) وركب القطار وكان أول متطوّع في حرب السويس! لقد كان التجاني موسوعياً بحق شملت اهتماماته وآثاره علاوة على ريادته للطب والطب النفسي في إفريقيا والعالم العربي والعالم على إطلاقه؛ شملت التاريخ وعلوم الجغرافيا والاقتصاد والاجتماع والحضارة والفلسفة والتصوف والأديان والإلهيات والآداب والفنون الجميلة والانثربولوجي والايكولوجي والاركيولوجي وعلم الحيوان (الزيولوجي) واللغة والموسيقى والحفريات والسلالات وتحقيق المخطوطات والأدب الشعبي والطب الشعبي والمعتقدات الشعبية وتفسير الأحلام والشعر والترجمة بل ودراسة وإحسان اللغة الهيروغلوفية التي أراد عبرها الوقوف على المعرفة الفرعونية وتاريخ الطب النفسي الباكرة لدى المصريين الأقدمين، ثم تتبع هذه الخطوط الفكرية في حضارات بابل واليونان واللاتين والكنعانيين وعصور ما قبل الميلاد إلى العصور الوسطى، والإرث العربي الإسلامي عند ابن رشد وابن سينا ثم لدى اللاحقين إلى رواد الإصلاح الديني في الغرب.. إلى عصر التنوير وإسهامات فرويد واتباع مدرسته ونقاده.. إلخ!!
الكتاب ثمين وطريف ويحكي جوانب من سيرة الرجل لم تكن معروفة على النطاق الأوسع، فلم يكن الرجل من عشّاق الأضواء و(الهلوله) والشوفينية (نسبة إلى شوفوني..) رغم إن سيرته العلمية ملأت أقطار الدنيا وأنه كان يوماً ما على رأس مجلس السيادة في السودان بعد ثورة أكتوبر، وقد دهشت الملكة اليزابيث وهو يرافقها على رأس بعثة الشرف في زيارتها الشهيرة للسودان وهو يتحدث لها عن التاريخ والحضارة ويهديها من رسائل الجنرال غردون النادر الذي لم تُحظ به خزانة المخطوطات البريطانية! وقد كانت الجامعات والمراكز البحثية الأمريكية والأوربية والآسيوية تتخطفه وتخطب وده لمجرد أن تحظى بحضوره لإلقاء محاضرة حول أفكاره واكتشافاته الرائدة في التطبيب النفسي في السياقات الاجتماعية والثقافية في إفريقيا والشرق الأوسط والأدنى ومجتمعات حوض البحر الأبيض المتوسط! لقد حصل التجاني على إجازة اعتباره أباً للطب النفسي الإفريقي قبل أن يصل إلى جامعة الخرطوم وينشئ فيها لأول مرة قسم الطب النفسي. وهذا الإقرار (ليس لعباً) أو مجاملة؛ فقد صدر من أكاديميين وعلماء رواد في مجال علم الطب النفسي الحديث وهم الذين صاغوا مصطلحاته السائرة.
جاءه مرة جاره ليطلب منه الإذن في فتح نفاج بين الدارين بمناسبة زواج ابنه أو ابنته، وفي مقدمات الونسة جاء ذكر قنطور صغير للنمل في حديقة المنزل..قال الجار فيما بعد: لقد أخذ التجاني يتحدث ثلاث ساعات عن النمل وتكويناته وايكولوجية مجتمع النمل، حتى نسيت الغرض الذي جئت من أجله! …عجيب أمر التجاني..! والغريب أن العبارة التي لم تكن تفارقه هي (شيء عجيب).!
murtadamore@gmail.com