الثورة السودانية المجيدة التي وضعت نهاية لحقبة سيطرة الإسلاميين السودانيين ما تنفك الإ و تكشف عن عمقها الضارب في علو الكعب وإستحقاق السودانيات /ين للتمتع بالديمقراطية و الحق في الحياة و العيش الامن والكريم ، الإسلام السياسي الذي إستندت عليه تجربة الإسلاميين السودانيين كفلسفة كانت تدرك بأن نقاط ضعفها تكمن في التنوع السوداني و البنية المدنية النسبية التي ارتبطت بفترات الحكم الديمقراطي القصيرة لما بعد الإستقلال ، أجدني أقف علي ما نظمه الدكتور فرانسيس دينق في رحيل رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي بعنوان إحياء ذكرى الإمام الصادق الصديق عبدالرحمن المهدي والتي برع في ترجمتها وتحريرها للعربية دينق ديت أيوك ، بداعتها تأخذك من مبتداه الذي إشرأب ملوحا بوداع نضير علي نسق الحصان أمام العربة ، مقامات الكتابة حملت بصمة قامة مجيدة ليس من اليسير أن أمضي في ما يحيط بها من إقتدار وبهاء أنيق متعدد المشارب والصنع المتنسمة ألق الإجادة حيث برع في إختيار مناخات المناهج بين التاريخ والسياسة و الأنثربولجي مكملة لبعضها في ديالكتيك لخص بها التاريخ السياسي لثلاثين عاماً من عمر ما بعد إستقلال السودانيين شمولا و ما بعد ذلك من إنفصال سياسي ، أنصف د فرانسيس الإمام الصادق و مولانا الميرغني معا و لا سيما أنه قامة حاضرة في المشهد السياسي ، فتناصفهما زنزانة الأعتقال تدفع شبكية العين إلي رؤية كامل المساحة ، وضع النقاط علي الحروف بما جعل التسلسل يقف مقام المقدمة التنفيذية التي لخص فيها قراءة العلاقة بين الحزبين الندين التقليديين ومسيرة الحكم المتقلبة بين الطائفية والديمقراطية ودكتاتورية العسكر وصولا الي المدنية العسكرية التي انتزعت من ثورة ديسمبر 2018 بعض دسامتها فافلت رباط عنق التحول المدني من ملامسة كامل الاناقة ، سجل مثّل عرض حال لمسار الحكم في السودان ظهر فيه من سيطروا على زمام الأمور إلى حد الإشراف على الإذن لزيارة المعتقلين و المحكومين او من لهم في المنزلتين مشترك ( كحال الرئيس السابق عمر البشير ) مؤكداً بذلك غياب السلطتين القضائية والنيابية عن ممارسة دورها أو بتعبير آخر ما يعتري العلاقة من تراجع بينها ومبدأ سيادة حكم القانون والحكم الرشيد .
ثلاثون عاماً و مصلحة السجون ليست على إشراف كامل على المحيط الجغرافي لمؤسساتها كأنها إقطاعية تؤجر بعض مساحاتها أو تمنحها للديكتاتوريات كلما بث التلفزيون القومي بياناً بتعليق دستور البلاد و إعلان الطواريء والسلطات الإستثنائية ، جسور ومبانٍ ضخمة من غابات الأسمنت غيرت من ملامح البلاد و مزاج النيل ،وشهية مصانع الأسمنت ما فتئت توازي أسعارها بسعر السوق الموازي للدولار ورغم ذلك ظلت مباني سجن كوبر متحصنة عن الإصلاح والتأهيل كأنها في سياق للإلتصاق بميزة العقارات الأثرية ، وهو ما يفسر كيف أن الزيارة لا تحظى بالخصوصية الكاملة والمقام المحترم لممارسة ذلك ، إستطاع د. فرانسيس أن يشير إلى الواقع المتحرك والمتحول لفعل علاقة العسكر و السلطة و بذات القدر وصف في إقتدار أن الثابت هو سجن كوبر في رمزيته لمسار إدارة دولة ما بعد الإستقلال الذي رغم عدد السنين التي شارفت ال٦٥ عاماً إلا أن قطار السلطة ظلت حركته بين القصر الجمهوري و سجن كوبر القابع كشاهد عصر على إنحراف مسار تجاربنا في تجسير العلاقة مع الديمقراطية و آمال السواد الأعظم من السودانيات /ين في التمتع بالحقوق و العيش والكريم .
سجن كوبر بشقيه المتناصف بين السجون والأمن ، يعيد تكرار السؤال حول العلاقة بينه والإصلاح المرتبط بفلسفة العقوبات ، و بين تواريخه التي إرتبطت بالحقب السياسية ، فبرغم طول الجدران و المقاصل و رغبة الجلاد المحمولة على دوافع سياسية لم تفت من عضد المقاومة السياسية بل ظل الأدب السياسي يخترق في إقتدار الجدران الصلدة و يعجز الرقباء عن كبحها برغم ” الأوامر المستديمة بإستخدام البارود لإبطال أي محاولة تسلل لا تحمل أوراقها ختم الإفراج ” الادب السياسي ردد معتقلوه في صمود “ودونا لكوبر ..غنينا لأكتوبر ” ، و لعل سجل المقاومة يطول ويتسع بتوازي مع نطاق محطاتنا السياسية .
بين كوبر والمقاصل صفحات جنائية و سياسية ، لكن رغم ذلك ظلت طقطقة مفاصلها وهي تنهي حياة سودانيين شجعان ما هز الموت لهم طرف، توازي بعثاً جديد لهم ليجبر الجلاد على إخفاء جثثهم بعضهم في أماكن مجهولة لأن مسارات خروج الروح كانت تردد ما سمعه الجلاد ومنفذيه، هم الشهداء و الأبطال ..
أشار دكتور فرانسيس عند زيارته لسجن كوبر العام 1989 إلي تناص الرفقة التي جمعت الإمام الصادق و مولانا الميرغني في زنزانتهما الضيقة حد تلاصق الأَسِرّة ، لكن غاب عن هذا المشهد قبل ثلاثة عقود الدكتور حسن الترابي برغم أنه كان بين أسوار كوبر ، ليس القصد التعدي علي حق د. فرانسيس في الإختيار أو الخصوصية لكن من منطلق أجده يعبر عني ركنت إلى أن بين الإعتقال أو السجن سبب و أن تعدي الصاح ، مما يجعل التواريخ السياسية وفيه لتدوين الوقائع المرتبطة بالسياق وليست المصنوعة بسبق إصرار وترصد و تكفي الإشارة إلي ” إذهب الي القصر رئيساً و سأذهب إلي القصر حبيساً” . دكتور فرانسيس فتح ذاكرة الوطن وجدل العلاقات المرتبطة بتواريخنا الإجتماعية والسياسية ، و لا سيما أن جوهر المقال في تقديري حملة مناصرة حرّض عبره للعض بالنواجز على الإستقرار السياسي، في فضاء تتعدد أضلاع علاقاته لكن ما يمكن إلتقاطه بسهولة أو طرحه كسؤال تحريضي جدل علاقة السلطة والعسكر و التفويض المرتبط بالدور الأساسي في حماية الوطن ، و دون ذلك في مواسم السلم العلاقة بين طابور الصباح و الثكنات ، وضلعها الثاني بين الوطن و الديمقراطية في لحمتها الموجبة للفصل بين السلطات بما ينعكس تعزيزاً لحكم القانون بحيث لا سلطة تمنح الإذن بزيارة لسجن كوبر سوى جهات الإختصاص في أضلاعها القضائية و النيابة دون إقصاء لوزارة العدل التى لابد أن تضع في أجندتها النظر إلى الإصلاح للمنشاءات العقابية و فك إرتباطها بالإعتقالات التعسفية وجدوي الإبقاء عقوبة الاعدام في النظام القانوني .
badawi0050@gmail.com