لا أعرف دعوة أفسدت خطاب الهوية منذ عقود مثل دعوة “السودانوية”. وهي “لا دعوة” لأنها تصف حالة كوننا سودانيين لا غير كما تصف “بريطانيا” البريطانيين وهم قوم شتى. وهي عندي صفقة لرأب الصدع السوداني كيفما اتفق مضربين عن اعتبار الثقافة التي هي لب الهوية. فأراد سدنة السودانوية صلحاً بين عرب السودان (أو من يزعمون العروبة) وأفارقته في طقس سياسي يخلع منهما هويته جزافاً. وكانت يا سلام. فلا عربي بعد اليوم ولا أفريقي بعد اليوم وإنما سوادنه أحباباً بفضل الله. وهنا مربط الفرس. فكيف يمكن ل”سودانوية” من أصول تاريخية وثقافية بين العرب والأفارقة أن تخلع مواردها هكذا وتظل شيئاً ذا معنى؟
دعنا نقف عند أوجه الصعوبة التي تُبطل السودانوية متى تحللت من مكوناتها الأصل. جاء المرحوم ماجد بوب مرة بأبيات للمرحوم حسن بابكر الحاج (نائب البرلمان عن الحزب الاتحادي في 1965 الذي صوت ضد حل الحزب الشيوعي) في ميلاد إحدى بناته:
يا بسمة الصبح العليل تهب من علياء نجد
فكيف يستقيم فهم هذا البيت، والأهم من ذلك تذوقه، بغير اعتبار للموضع العربي المذكور: نجد. فإحسان قراءة هذا البيت لا تتحقق بغير “بنية العاطفة”، كما يقولون، التي من وراء نجد العربية. ومثل هذا كثير. صبا بردى وضمين الطائف ونور الشام.
ولكن من أنصع الحجج على بطلان تجريد السودانوية من مواردها العربية أو الأفريقية ما جاء عن ذاكرة المنشأ التي من ورائهما. وهي الذاكرة التي لا تكون الهوية إلا بها.
ومن ذاكرة المنشأ العربي ما رواه لي نصر الدين جاري في مدينة كولمبيا ومن شعب العركيين عن جدته. فقال إنها كانت تستنجد” “يا الأحدب” في قيامها وقعودها. ولم استغرق طويل وقت لأجد سيرة هذا الأحدب العركي في سياق قدوم العرب للسودان. فكان الرجل زعيماً على العركيين وفي خصومة شديدة البأس ضد المماليك. فتحارب بنو عرك، من جهينة، وبنو هلال في 1348. فتناصر بنو هلال والمماليك وهزموا بني عرك.
وظلت بنو عرك تقاوم المماليك على رأس العرب المنسحبين جنوباً من مصر إلى السودان بغير هوادة. وصعد في هذه الفترة نجم محمد الواصل الأحدب من بني عرك الذي هزم بني هلال واضطرهم للهجرة جنوباً. وقد اشتهر بالكرم حتى جذب إليه الأعراب المشردة.
وبلغ من القوة أن المماليك ما كان بوسعهم جمع الضريبة في الصعيد المصري بغير إذن منه وحمايته. ولم يطل صبر المماليك على الأحدب وأعدوا عدتهم للقضاء عليه وعلى ثوار عرب من شاكلته في الصعيد. فسمع العرب بذلك وأزعجهم. فمنهم من رتب للهجرة للسودان أو طلب الحج أو التخفي.
وانضم بدو منفلوط ومراغة وبنو كلب وجهينة وعرك للأحدب. وتراجع الحلف العربي نحو السودان وتبعه المماليك وأعملوا فيه السيف بغير رحمة لسبعة أيام. واستسلم الأحدب بالعفو ففرضوا عليه كعقوبة فلاحة الأرض وعدم حمل السيف أو ركوب الحصان.
وجاء السفير خالد فرح بفوح من ذاكرة المنشأ هذا من أغنية بنونة بنت المك “أسد بيشة” قالتها في أخيها:
أسد بيشة المِكَرْبِتْ قمزاتو متطابقاتْ
وعلمت لأول مرة من السفير أن بيشة مأسدة في جنوب الحجاز. والمأسدة هي عرين الأسود. فبقاء هذه الصيغة (ويسميها الفولكلوريون الفورمويوليك” formulaic” وهي طوب العبارات الجاهز يبني بها الشاعر الشفاهي قصيدته) في الذاكرة العربية في السودان مما يُكذب الدعوة إلى تبني سودانوية مبرأة من العروبة أو الأفريقية. فلن نفصم هذه الذاكرة من هوية عرب السودانيين إلا بأمر صفوي عال يحتكر لنفسه التصرف في “بنية عاطفة” سائر الناس كيفما اتفق.
ولا أدري ما قيمة عقيدة في الهوية مثل السودانوية تقطع بين عرب السودان وذاكرة عروبتهم جرياً وراء صفقة سياسية للسلم الوطني. كيف ساغ لأهل هذه العقيدة أن السلم الوطني رهين بهذا الخلع الذي يدعون له وليس بإعادة التفاوض في السودان الموروث من الاستعمار على حد المواطنة؟ وهو ما ظللنا نحاوله نقوم ونقع ولم تخلص النيات ولا العزائم.
من أراد خلع عليّه فليفعل ولكننا لن نخلع معاويتنا.
IbrahimA@missouri.edu