بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ
رحل عن دنيانا الحبيب الإمام الصادق المهدي بعد عمر حافل من الإنجازات، وبوفاته فقد السودان والأمة العربية والأفريقية والاسلامية والعالم أجمع أحد قادتها من العلماء الأفذاذ.
قائد تنوعت قدراته ومواهبه، كاتباً، ومحاضراً، وموجهاً، ومرشداً ناصحاً بالحق، جمع بين الفكر والدين والسياسة والثقافة والرياضة والفن، ومختلف المعارف والعلوم قديمها وحديثها، عرفته بها مختلف المنابر وقاعات المحاضرات.
كان الحبيب الإمام مبدعاً ومتميزاً ومتقناً لكل أمر ينجزه، وفوق ذلك كان قائداً سياسياً، وإماماً ملهماً يرى المقبل من الأحداث بعيون زرقاء اليمامة، ويتعامل معها بذكاء إياس وحكمة لقمان.
اعتدت على نعي كل صديق أو عزيز ينتقل إلى رحمة الله ممن أحببتهم وأحبوني، بمجرد وفاتهم، ولكن جاءت وفاة الحبيب الإمام، رحمه الله، استثنائية، فمع يقيني، والحمد لله، أن الموت سبيل الأولين والآخرين، فقد أصابني شيء من الوجوم تعطل معه تفكيري، وعجز قلمي عن التعبير، لأكثر من أسبوع، ولسان حالي يردد قول الشاعر :
أيتها النفس أجملي جزعاً إن الذي تحذرين منه قد وقعا
إن الذي جمع السماحة والنجدة والحزم والنَدى جمعا
الألمعيَ الذي يظنَ بك الظَن كأن قد رأى وقد سمعا
تعددت أنشطة الإمام ومهامه ومسؤولياته عبر حياته العامرة بالعمل الصالح، عرف خلالها بقدرته العالية على الابتكار، والرؤية الثاقبة للأمور من منظور أشمل.
كان متابعاً لكل صغيرة وكبيرة، مرحباً بكل زائر، ومستمعاً جيداً لكل من يجالسه، ومواكباً للحياة، مع سرعة إيقاعها. يتميز بقوة الذاكرة، واطلاعه الواسع، ومقدرة على الحفظ، وطلاقة لغوية، وقدرة على إنتاج كثير من الأفكار الجديدة التي تبدو لبعض الناس متنافرة، إلا أنه يقوم بما له من مقدرات بجمعها بما يتطلب ذلك من الاستدلال والتوثيق العلمي؛ ليخرج بنتائج لم يسبقه إليها أحد، وهذا ما جعله في مصاف المفكرين المجددين في العصر الحديث.
ولعل منبع هذه القدرات هو جمعه بين البرهان العقلي والإشارة الروحية، وقد أشار اليها في كتابه “أيها الجيل”: (وأعلم أني أعيش ثنائية بين البرهان العقلي والاشارة الروحية، فأكثر اجتهاداتي تنطلق من خواطر إلهامية أدعمها بالبرهان العلمي).
وكان الحبيب الإمام مسكوناً بحب الوطن، ويرى خدمة الوطن عبادة يتقرب بها الى لله، وهو ما عبر عنه في مقدمة كتابه “ميزان المصير الوطني في السودان”، وهو يقول: (أحرص في كل المراحل المفصلية لمسيرة الوطن أن أكتب ما أوثق به للمرحلة، وما أستشرق به ما بعدها بصورة تثرى النجوى الوطنية وتساهم في نجاة الوطن.. ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، صدق الله العظيم).
وفي الشأن الوطني، ظل الإمام يقدم المصلحة القومية، وجمع الصف الوطني فوق كل مصلحة خاصة أو حزبية، وكانت رؤيته ووصيته دوماً أن القومية تصنع من الأزمة فرصة، على عكس التفكير الحزبي الضيق الذي يضع الوطن على كف عفريت.
وفي سبيل الوطن، كان الأعلى تضحية على حساب صحته وأسرته، إذ قضى ثماني سنوات ونصف السنة من عمره في سجون الطغاة، واثنتي عشرة عاماً في المنافي، إضافة الى ما طاله من مصادرات ومحاكمات تصل عقوبتها للإعدام، ورغم كل ذلك لم يغير مبادئه، ولم يخنع للطغاة في سبيل الدين والوطن، وهي اجتهادات ومجاهدات نضالية لم يسبقه إليها سياسي من أبناء جيله والأجيال اللاحقة، ولعل أبلغ عبارة لتسجيل هذه المواقف الوطنية ما ذكرته ابنته الحبيبة رباح في إهدائها لكتاب “الإمام الصادق المهدي سيرة ومسيرة” (في شان الدين والوطن سرج فرسه وسبل نفسه).
ورغم ما ظل يواجه من عسف وظلام من الطغاة، ومن خصومه من بعض من عشيرته والمقربين إليه أحياناً ظل حليماً متسامحاً فاتحاً بابه، ومواصلاً لهم جميعاً، حريصاً على عدم ظلم الآخر.
وقد عبر عن ذلك في كتابه أيها الجيل وهو يقول (لم أظلم أحدا،ً وكل الذين اختلفوا معي ظلموني ولم أظلمهم، ودائماً أفكر في ماذا يكون موقفي إذا جلسنا لمحاكمة في دنيا أو آخرة ؟ وأحرص أن يكون موقفي في أي محاكمة عادلاً. نعم ارتكبت أخطاء، لكنها كلها في ظلم نفسي، لا في ظلم الناس، وأكثر الذين اعتدوا علي اتصلوا في مراحل لاحقة يعتذرون من سلوكهم).
والإمام، رحمه الله، كتب وهو على فراش المرض مقاله (تأملات في فقه السعادة والمشقة أو المراضة) مؤكداً مبدأين راسخين التزم بهما طوال حياته العامرة الايمان بالله، وحب الناس (ولكن أمرين هما بلسم الحياة: الايمان بالله بما في سورة الجن”، فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً ولا رهقاً” والثاني:
إن نفساً لم يشرق الحب فيها هي نفس لا تدر ما معناها
ولعل في هذا أفضل وصية تركها الإمام لمحبيه وعارفي فضله، ولكل من ألقى السمع وهو شهيد. وبعد هذه الوصية الغالية ودع الحبيب الدنيا الفانية، وهو راض عن نفسه، عالماً من خلال فراسته ما ستكون عليه صورة تشييعه وهو يخط بقلمه (وأفضل الناس في هذا الوجود شخص يترحم مشيعوه قائلين: لقد شيعنا حقانياً إلى الحق. ألسنة الخلق أقلام الحق. إن إلى ربك الرجعى).
وكان تشييعه شاهداً على ما كتب، إذ تدفقت الحشود البشرية من كل حدب وصوب مستقبلة لنعشه، لم تفرق بينهم الفكر أو الدين والسياسة أو الجنس أو اللون أو الموقف الشخصي من الحبيب الإمام، شاهدين بأنهم شيعوا حقانياً إلى الحق.
ألا رحمك الله أيها القائد الهمام، وأسكنك عليين مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً.
المستشار البشرى عبد الحميد محمد
السبت 11 ديسمبر 2020م