تلاحظ في الاونة الاخيرة ، وبسبب من ظرف جائحة الكورونا ، والاحترازات الصحية المعلنة والتي أثرت على كل القطاعات بالضرورة ومن بينها قطاع التعليم والذي توالت عليه وأسهمت في تأخير الدراسة، بالإضافة للجائحة، الظروف السياسية المضطربة منذ العام المنصرم، أن اعلنت الوزارة اتباع بعض التدابير التي من شأنها تقليل الخسائر ومن ضمنها اللجوء إلى توظيف واستثمار المتاح من الوسائط التي اتاحها العصر مثل الإذاعة والتلفزيون والمنصات والفصول الافتراضية وغير ذلك.
وهذا التدبير بطبيعة الحال ليس جديدا، وسبق ارتياده في مجال التعليم منذ أمد ليس بالقريب بل إن البعض يؤرخ له بالتزامن مع استقرار هذه الوسائط وانتشارها ،وهناك أنظمة تعليمية استفادت منه للاسناد التعليمي والاكاديمي مثل نظام التعليم عن بعد والتعليم المفتوح وايضا وظفته لهذه الغاية بعض المدارس والجامعات التقليدية.
اذن فيمكن القول بأن هذا يعد ضمن توظيف المستحدثات التكنولوجية في التعليم وهو منحى لاغبار عليه فهو يتماشى مع روح العصر ويمثل انعكاسا له وهذا في العموم . ولكن بالنظر إليه من موقع تربوي وجمالي نلاحظ حاجته إلى فحص وتدقيق وتطوير حتى يكون إضافة وليس خصما على العملية التعليمية.
ومن خلال وضعه على منضدة التشريح يتضح لنا مدى القصور التطبيقي له ..فهو بالاجمال ( على الأقل في تطبيقاته عندنا في السودان وفي هذه الفترة ) نلاحظ اعتماده بشكل كامل على نمط المحاضرة , و المحاضرة، بشكلها العام تعد من استراتيجيات التعليم الجمعي.. وهي من اوائل الطرق المستخدمة في عمليات التدريس حيث شاع استخدامها منذ القدم، وتقوم طريقتها علي القاء المعلومات علي الطلاب الذين يقفون موقف المستمع.
علي هذا فهي تعد من الطرق التي تعتمد علي المعلم في اعداد المعلومات وتقديمها للمتعلمين بصورة لفظية شفاهية، ولذا يعد المعلم فيها محور العملية التعليمية وذلك لان علي عاتقه تقع مسئولية الالقاء، والشرح، والتوضيح، والعرض لمادة التعلم وكما يري التربويون فان هناك جملة خصائص سالبة للمحاضرة فهي لا تراعي الفروق الفردية بين المتعلمين اذ ان المدرس يستخدم اسلوب الالقاء وتقديم المعلومات ولا تلبي حاجات واهتمامات المتعلمين حيث تؤدي بالمتعلمين الي الملل والنفور كونها تمتاز بطابع متطرف من الجدية والانضباط. ويضاف لذلك أنها تركز علي الجوانب المعرفية لدي المتعلمين وتهمل الجوانب الوجدانية والمهارية، كما انهاتفتقر الي الجانب التطبيقي، حيث انها لاتوفر الجانب العملي لمادة التعلم ويكون دور المتعلم فيها سلبي من حيث انها لا تتيح له الفرصة بالمشاركة بطرح الاسئلة والحوار والنقاش، لذا فهي تحرمه من فرص التفاعل الايجابي، وهذا بخصوص المحاضرة علي مستواها العام.. اما المحاضرة والتي تكون عبر الوسائط والتي يمكن تصنيفها ضمن نمط ” المحاضرة الرسمية المباشرةformal straight lecture – وهو النمط الذي يقوم المعلم بتقديم المعلومات وتوضيحها للمتعلمين دون اتاحة اي فرصة لهم بالمشاركة سواء من خلال طرح الاسئلة او ابداء الآراء او المشاركة بالحوار او النقاش – فبالاضافة الي ماذكر فان لها خصائص سالبة اخري، كونها تصدر عبر وسيط فهذا ما يجعلها تفتقر الي الوسائل التي يمكن ان يتخذها المحاضر في المحاضرة التقليدية مثل ما يسمي ب ” الوسائل الخارجة عن نطاق القوة ” .
وايضا فان المحاضرة الاذاعية – وبحكم طريقة انتاجها – يكون الاتصال فيها ” اتصال ذو اتجاه واحد ” الشئ الذي يخلق – اضافة الي ماذكر – الشعور بالعزلة، اي البعد المكاني والزماني بين المعلم والدارس وهذا البعد هو ما يفسر – ضمن ما يفسر – التقريرية و الضعف الملاحظ في استخدام الوسائل اللغوية، والتي تندرج ضمن ما يعرف في ادبيات الخطاب والاتصال ب ” تعديل القوة ” ) – مثل وسائل التشكيل الصوتي prosodic devices والتي تسمي ايضا ب ” الوسائل التطريزية ” ويقصد بها ( نوع النغمة، والنبر، وجهارة الصوت، والنغمات التقابلية ) وهي ليست من بنية المنطوقات في الشفرة المكتوبة، ولكنها وسائل فونولوجية توظف في تقوية قوة المنطوق وتعتمد علي التغذية الراجعة من الجمهور الحي الموجود مباشرة ( =الطلاب ) وتفاعله( -علي هذا يمكن القول بان محاضرة الوسائط تفتقر الي مقومات ” التفاعل ” سواء كان ذلك بين الطالب والمعلم، او بين الطالب والمادة الدراسية، او بين المعلم والمادة الدراسية.
وهذا عكس ما هو مطلوب.. فالمطلوب هو ان يكون هناك تفاعلا بين شركاء واطراف العملية التعليمية وهذا ما يقودنا الي طرح سؤال هو من الخطورة والاهمية بمكان هو : هل يتوافق نمط المحاضرة الاذاعية- بخصائصه التي ذكرناها – مع جوهر ماتدعو له نظريات التعليم الحديثة؟؟ او بصياغة اخري : الا يتعارض مع مفاهيم مثل ” المشاركة” و ” التعلم الذاتي ” التي تنادي بها النظريات الحديثة والتي تسعى إلى تحقيق تعليم فعال نشط وتشاركي يعمل على مساعدة الطلاب على اتقان التعلم كما يعمل على بناء الشخصية والتفكير الناقد؟؟
اذا كانت المحاضرة عبر الوسائط تكرس لان يكون ” المعلم ” هو محور العملية التعليمية..واذا كانت تقوم علي ” تلقين ” المعلومة دون ان يكون هناك مجال لمناقشتها – اي انها تجعل دور المتعلم ” سلبي ” في العملية التعليمية بمعني انها تجعله في خانة ” المتلقي ” وليس ” المبادر ” او ” المشارك “. واذا كان مفهوم”التعليم الحديث يؤسس لأن يكون المتعلم هو محور العملية التعليمية، فاذا كان ذلك كذلك يمكن القول باطمئنان ان نمط المحاضرة عبر الوسائط لا يتوافق مع جوهر نظريات التعليم المعاصر ( للمزيد من تحليل أنماط التعليم وآثارها على الشخصية والمجتمع يمكن مراجعة سفر “تعليم المقهورين” لباولو فريري) والتكنولوجيات التعليمية الجديدة وبما أنها استفادت و تستفيد من التقدم العلمي في مجال التعليم والعلوم والوسائل الحديثة لجعل المادة التعليمية في متناول الطالب حيث كان ومتي شاء من خلال وسائل الاتصال الحديثة كالاذاعة والتلفزيون، وليحل اسلوب التعلم الذاتي محل التعليم التلقيني.
فهنا قد يقول قائل ان المحاضرة عبر الوسائط و بهذه الطريقة يمكن ان تكون جزء من معينات تحقيق التعليم المعاصر، وآليات الإسناد وهذا الحديث يمكن ان يكون صحيحا لولا انه اولا : الانتاج التعليمي عبر الوسائط في السودان يقتصر عليها فقط. وثانيا : هذا الحديث يجرد الوسائط ( بالاخص الإذاعة والتلفزيون) ويتغاضي عن العديد من سماتها ويحد من طاقاتها ويختزلها في دور ثانوي ويتغاضي عن قدراتها الكبيرة وامكانياتها في صياغة خطاب تعليمي فاعل وذو تاثيرات بنائية.. فبمقدور هذه الوسائط ان تنتج اشكال وانماط برامجية تتوافق مع طبيعتها وخصائصها ولا تتعارض مع نظريات التعليم الحديثة فهذه الوسائط ومن خلال ادواتها يمكن ان تنتج خطابا تعليميا يكون المتعلم فيه هو محور العملية التعليمية وان تحقق ” التفاعل ” وتعمل علي تنشيط التفكير واستثارة وتطوير القدرات الفكرية للطالب وتنمي فيه – كذلك – حواس الملاحظة والتحليل والربط وتملكه ادوات وتقنيات واساليب تعين – ضمن ما تعين – علي تحقيق فلسفة التعليم التي تهدف الي تدريب الدارس واعداده ليكون انسانا مستقلا يعتمد علي نفسه في التعليم مدي الحياة .بمقدور الوسائط تصميم وانتاج برامج تؤدي وتقود الي ذلك.
برامج تنشد وتعين علي الدراسة للفهم والاستيعاب من خلال اعانتها للطالب علي القيام بعمليات تحليل وربط الافكار وفهم معانيها، وكذلك ايجاد الروابط والعلاقات بين الافكار وتنظيمها وتحليلها ونقدها ( استيعاب، تحليل، تطبيق، ربط، استنتاج وتركيب، تقييم ) .
اذا.. واذا كان الشكل البرامجي للوسائط بشكله الراهن الذي يقتصر علي نمط المحاضرة يتعارض – او لا يتوافق مع نظريات وأهداف التعليم المعاصر . فما هو ” النمط” الذي يتوافق مع ذلك ؟ او بطريقة اخري ماهي المعايير لتوظيف هذه المستحدثات التكنولوجية – لتحقيق فلسفة واهداف التعليم المعاصر؟
في حديثه عن المعايير العامة لتوظيف المستحدثات التكنولوجية اشار الدكتور شوقي حسان محمود الي ضرورة مراعاة جملة اشتراطات مثل :
التفاعل الايجابي بين المتعلم والمادة التعليمية ( حوار، مناقشة،حل مشكلات، انشطة مصاحبة، مراجع، عصف ذهني) و تقديم المواد بصورة تتفق مع مبادئ التعلم الذاتي وتنميته وهذا الحديث يتضمن عددا من المطلوبات العامة فهو يعني …