كنت قد كتبت بعد الإطاحة بنظام الإنقاذ في 11 أبريل 2019 أن الفترة الإنتقالية يجب أن يكون الحكم فيها قاصراً على الثوار الذين قادوا الثورة منذ سبتمبر 2013 وديسمبر 2018، ممثلين في حاضنتهم التاريخية تجمع المهنيين السودانيين، يكون فيها الحكم الفعلي مدنياً ممثلاً في مجلس وزراء من المهنيين يشرف على إدارة الدولة في حكومة متجانسة من ذوي الكفاءات والخبرات تضطلع بكل المهام التنفيذية المتمثلة في فك الضائقة المعيشية والمالية، التي كانت من أهم أسباب الثورة ونجاحها وزوال حكم الإنقاذ وقيام الحكومة كذلك بتحقيق شعارات الثورة- حرية، سلام وعدالة- لذلك كان من أوجب واجباتها الإشراف الكامل على عملية السلام وتحقيق الوحدة الوطنية ووقف الحروبات في دارفور والمنطقتين، وأيضاً إدارة التحول في التعامل الخارجي والابتعاد عن الوقوف في الحياد والمنطقة الرمادية المدمر والذي مارسته حكومة الإنقاذ، مما أدى إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية التي أدت إلى زوالها في ثورة شعبية سلمية.. وقُلت أن الأحزاب السياسية يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن الحكم في الفترة الإنتقالية وأن تتفرغ كلياً إلى الإعداد الجاد وتوفيق الأوضاع وعقد المؤتمرات العامة، وإعادة تنظيم عضويتها استعداداً لفترة حكمهم الحقيقية بعد انتخابات حرة نزيهة..
إذا تم ذلك كان الأمر سينتقل تلقائياً إلى الفصائل والحركات المسلحة بعد الوصول إلى اتفاق سلام، إذ أنها كانت سوف تحذو حذو الأحزاب في عدم التطلع إلى المشاركة في الحكم الإنتقالي والتركيز على تجميع صفوفها وانفاذ ما تم الإتفاق عليه، مثل عمليات دمج القوات في الجيش الوطني والأجهزة الأمنية الأخرى ومتابعة إعادة تاهيل المناطق المتاثرة بالحروب وعودة النازحين واللاجئين والتعويضات بجبر الضرر وايضاً ستبدأ في إعداد نفسها للمرحلة الجديدة من النضال المدني وتكوين احزابها وتنظيم عضوية مؤثرة تمكنها من الظفر بأكبر عدد من مقاعد البرلمان بعد انتخابات حرة نزيهة.
لو حدث ذلك بهيمنة تجمع المهنيين على إدارة الفترة الإنتقالية ما كان للشريك العسكري في الثورة أي سبب وجيه للتغول على صلاحيات المكون المدني في إدارة الدولة، ولاكتفوا بدورهم في حفظ الثورة وإشاعة الأمن والحفاظ عليه وأن يمثلوا السيادة في القصر. حتى اليوم لا أرى سبباً وجيهاً لإنشاء مجلس سيادة هجين من المدنيين والعسكريين ولعل تكوين هذا المجلس بكل قصر نظر من حاضنة الثورة المتحورة من تجمع المهنيين إلى إنشاء قوى الحرية والتغيير بإدخال الأحزاب السياسية وإضعاف دور الثوار الحقيقيين ممثلين في تجمع المهنيين، إلا أنه السبب الوحيد في فتح الباب مشرعاً للمكون العسكري في التدخل في اختصاصات المكون المدني المتمثلة في إدارة الدولة تنفيذياً والإشراف الكامل على عملية السلام حتى التوقيع النهائي.
تمدد المكون العسكري في المجلس السيادي وانزوى المكون المدني في المجلس ونال أعضاء المكون العسكري رئاسة لجان مفترض أن تكون تحت إشراف المدنيين، مثل لجنة التمكين، اللجنة الاقتصادية التي أصبح فيها رئيس الوزراء نائباً للرئيس ثم لجنة الإشراف على السلام إضافة إلى العمل المباشر لرئيس مجلس السيادة في إدارة الملف الخارجي واتخاذ أخطر القرارات منفرداً وهو مسألة التطبيع مع إسرائيل، كل ذلك أدى إلى إرباك وخلخلة دورالمكون المدني في الفترة الإنتقالية.
تحقق السلام على يد المكون العسكري وبذلك نال رضاء وولاء كل الموقعين على وثيقة السلام في 3 أكتوبر 2020 في جوبا الأمر الذي يقلب كل موازين الثوار الحقيقيين في المجلس التشريعي ومجلس الوزراء ومجلس الشركاء .. الآن فقد المكون المدني كل الأرضية الثورية ولم يبق له إلا رئاسة اللجنة العليا للطوارئ الصحية.
المجلس السيادي الهجين كان أكبر خطأ اغترفته الحاضنة السياسية – قوى الحرية والتغيير – والذي في تقديري أنها فقدت كل مقومات بقائها وتاثيرها في الثورة، كل الفترات الإنتقالية السابقة كانت ناجحة لأن الأدوار كانت واضحة-
الفترة الإنتقالية الأولى 1964-1965 كانت تحت إدارة جبهة الهيئات والفترة الثانية 1985- 1986 كانت تحت إدارة تجمع النقابات المهنية وفي الفترتين كان دور المكون العسكري حفظ الأمن ورمزاً للسيادة في القصر- الفريق عبود والمشير سوار الدهب أما هذه الفترة الإنتقالية الثالثة اختلط فيها الحابل بالنابل و(جاطت).
أمر ثاني أشرت له وكررت فيه مقولة العالم الذكي ألبرت أنشتاين عندما قال: (الجنون أن تكرر الخطأ نفسه وتتوقع نتائج مغايرة) (Insanity is repeating the same mistakes and expecting different results).
ثبت منذ الإستقلال أن النظام البرلماني الموروث من الاستعمار البريطاني لا يصلح للسودان لأن متطلبات نجاحه كثيرة ومتعددة أهمها درجة الوعي وانخفاض الأمية في المجتمع وكلها مفقودة. لماذا نصر على تكرار نظام الحكم البرلماني بالرغم من فشله المتكرر؟: حكم ديمقراطي برلماني قصير بعد الإستقلال 1956-1958 أعقبه حكم عسكري 1958-1964 ، حكم عبود، حكم مدني برلماني قصير آخر 1964-1965 أعقبه حكم عسكري طويل حكم نميري 1969-1985 ثم ثالث حكم برلماني قصير 1986-1989 أعقبه حكم عسكري طويل1989-2019 حكم الإنقاذ.
لماذا لا نفكر خارج الصندوق ونتفادى تكرارالخطأ للمرة الرابعة؟ لماذا لا نفكر في الحكم الرئاسي بانتخاب رئيس جمهورية مباشرة بواسطة الشعب؟.. الحكم الرئاسي نجح في عدد من دول العالم الأول الديمقراطي- ناجح في أمريكا، فرنسا، ألمانيا وحتى في أفريقيا كل الحكم في الدول بعد نيل استقلالها كان ناجحاً مثلاً في كينيا حكم جومو كنياتا من 1964-1978، كوامي نكروما في غانا 1960-1966، أحمد سيكوتوري في غينيا 1958-1984، جوليوس نايرير في تنزانيا 1964-1985، كينيث كاوندا في زامبيا 1964-1991، جنوب أفريقيا نلسون مانديلا 1994-1999 وجمال عبد الناصر في مصر 1956-1970 وكلهم نالوا الرئاسة عبر انتخابات حرة وهم رؤساءلأحزاب سياسية أفريقية عريقة.
لكل ما تقدم يجب التفكير خارج الصندوق والإعتراف بأن النظام البرلماني غيرمناسب لحكم السودان وذلك بعد ثلاث تجارب فاشلة كلها أدت إلى انقلاب عسكري بعد فترة قصيرة.. النظام الرئاسي يُبرز رؤساء بمواصفات رفيعة وكاريزما عالية.. يجب الخروج من موروثات وعباءة الحكم البريطاني والذي نجح فيه الحكم البرلماني بسبب الوعي وانخفاض الأمية.