رغم اهتمام حزب الأمة المبكر بالعلاقة مع الجنوب، والعلاقة الوثيقة التي ربطت بين حزب “الأمة” و”سانو” بزعامة وليم دينق، والمؤتمرات التي سبقت الاستقلال بشأن حل الأزمة ، إلا أن العلاقة بدت ملتبسة وضبابية ببروز قيادات جنوبية جديدة، تأثرت بتناقضات الحركة السياسية الشمالية وتقاطع مصالحها مع توجهات حزب الأمة سيما عندما تبنت “الحركة الشعبية “شعارات يسارية ومواقف متشددة في بداياتها، وقد برزت تلك الضبابية والتردد أكثر وضوحا خلال فترة نشاط “التجمع الوطني” ( تحالف لقوى المعارضة السودانية ضد نظام الرئيس عمر البشير) في الخارج، وما بعد ذلك بعد اتفاق الحكومة والحركة على صفقة نيفاشا ( اتفاق سلام بين حكومة البشير ورئيس الحركة الشعبية الراحل جون قرنق) .
ورغم مواقف حزب الآمة المناصرة لحقوق الجنوبيين ومنذ الأربعينيات، مرورا بكل التحولات، وحتى سعيه عبر اعلان “كوكادم” ثم دوره الأساسي بعد وقوع انقلاب الانقاذ ( انقلاب البشير في 30 يونيو 1989) في ضم الحركة الشعبية للتجمع الوطني، وما أعقب ذلك من الاتفاقيات الثنائية التي أبرمها مع الحركة الشعبية والدور الخاص الذي لعبته قيادته في الخارج بعد وقوع الانقلاب، إلا أن كل ذلك لم يدرأ للأسف عن حزب الامة ما ناله من هجوم وانتقادات الحركة الشعبية التي كانت تحت تأثير وتحريض بعض أحزاب الفصائل في “التجمع” المعارض لسباب غير موضوعية، ونتيجة لعدم تقبل تلك القوى بما فيها الحركة لاستقلالية مواقف حزب الأمة وتباينها مع مواقف الحركة في عدد من القضايا الخلافية الي كانت تجد الدعم من الآخرين .
في ظل ذلك الصراع السياسي بين قوى المعارضة في التجمع حاولت الحركة تكتيكيا في تلك الفترة أن تفصل في علاقتها بين الكوادر القيادية في حزب الأمة وبين الحزب نفسه بقيادة زعيمه السيد الصادق المهدي، الذي بدا أن تحركه السياسي والدبلوماسي بات يشكل إزعاجا كبيرا لبعض القياديين في التجمع، وعلى رأسهم زعيم الحركة الشعبية جون قرنق غير ان هناك من يرى أن الحركة اخطأت حين القت باتهاماتها غير الدقيقة والموضوعية التي انصبت على تاريخ حزب الأمة ودوره السياسي كمبرر لتناقضها مع بعض مواقفه في فترة المعارضة مؤخراً .
ايضا أنها أخطات حينما اوكلت لشماليين في الحركة لهم مواقف أقرب إلى كونها شخصية من بعض قيادات حزب الأمة مهمة الرد على رؤى ومواقف حزب الآمة إزاء بعض القضايا الخلافية، وقد وضح ذلك الالتباس في العلاقة وضبابيتها بين الطرفين في الفترة التي شهدت توتراً بين حزب الأمة وبقية فصائل “التجمع”، التي سلمت بقيادة الحركة الشعبية بما فيها الحزب الاتحادي الديمقراطي لتعزيز جبهة المواجهة لمبادرات ورؤى حزب الأمة ، التي تنتقدها بالتسليم التام لقيادة الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق، خاصة في ضوء تحالف شكلي بينه وبين زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي السيد محمد عثمان الميرغني.
وقد أبرزت الرسائل المتبادلة بين جون قرنق والصادق المهدي في تلك الفترة جوهر تلك القضايا، رغم أن هناك الكثير من الطموحات والرغبات التي اختبأت في حناياها والانطباعات والتوهمات التي سادت بين الطرفين، والتي ربما تتبين بعض معالمها من خلال رسالتين متبادلتين على سبيل المثال .
غير ان بعض المراقبين يرون أن بعض فصائل المعارضة قد لعبت دوراً متعمداً في إفساد العلاقة بين الأمة والحركة، كل لخدمة أهدافه، وقد صادفت تلك التوجهات رغبة لدى الحركة التي رأت في حزب الأمة حليفاً مشاكسا ، ًيهدد أهدافها الحزبية وهي تسعى للوصول إلى غاياتها على حصان التجمع الوطني وهو ما تحقق لها لاحقاً .
فكان على حزب الأمة أن يختار بين أن يكون تابعاً للحركة وزعيمها وهو الخيار الذي ارتضاه الأخرون مقابل اضعاف دور حزب الأمة، أو ان يحافظ حزب الأمة على دوره واستقلالية قراره وثوابته وهو الخيار الذي حمله أخيرا على الطلاق البين من “التجمع الوطني” في مؤتمر مصوع الشهير، حيث رأى البعض أن التجمع بعد ذلك الطلاق تحول حسب أولئك المراقبين إلى مجرد “كومبارس” لخدمة أهداف الحركة، وهي الأهداف التي تطورت فيما بعد بالتنسيق بين الحركة وحكومة الانقاذ عبر اتفاقية السلام والذي افرغ تماما روح ماتم الاتفاق عليه مع الحركة في اسمرا ،1995 ليفضي إلى انفصال كامل الدسم كانت تسعى له الحركة، لم يراع مصالح السودان أو مستقبل العلاقة بين الجنوبيين والشماليين في الوطن الواحد. ولم يحصد الآخرون من فصائل التجمع غير إلحاق عاثر بسلطة ومؤسسات الإنقاذ عبر اتفاق القاهرة الشهير .
أما الخطأ الذي يراه البعض من كوادر حزب الأمة القيادية أن إهتمام الحزب بالحركة ودعمها سياسياً ولوجستيا ًكان بأكثر مما يجب، فضلا عن أنه لم يجد التقدير من قبل الحركة بل النقيض من ذلك تماما . وقد تمثل ذلك في حالة الهجوم غير المبرر من قبل الحركة على حزب الأمة وحالة الانكار غير اللائقة التي تبنتها .
لقد انكر الراحل د جون قرنق في إحدى رسائله إلى المهدي دون إحساس بالحرج دور حزب الأمة في ضم الحركة لحلبة النشاط السياسي في الشمال، رغم ان الواقع يناقض قول قرنق الذي ربما فرضت عليه الظروف التي أحاطت بتلك المذكرة ان يقول ذلك ،ولعل مايرد من وقائع خير دليل على ذلك.
“الأمة” وانضمام “الحركة” للتجمع
بادر حزب الأمة بإطلاق إجراءات استكمال انضمام الحركة الشعبية للتجمع في أديس ابابا، وهي جهود بدأت بعمل متصل ما بين لندن وطرابلس وأديس أبابا، حيث كان التحضير قد بدأ بالفعل لعقد اجتماع للمعارضة في أديس بمشاركة الحركة عام 1990 للتداول حول الصيغة المطروحة لتعديل ميثاق التجمع وتضمين ملاحظات الحركة للميثاق .
وكانت أولى تلك الجهود التي بدأت من قبل حزب الأمة للالتقاء مع الحركة وجذبها الي عضوية التجمع الوطني الديمقراطي قد تمت عبر مباحثات مباشرة مع الحركة، بدأت تحديدا في الخامس من سبتمبر عام 1989 في الجماهيرية الليبية بطرابلس وامتدت المباحثات عبر سلسلة من اللقاءات حتى يناير عام 1990، حيث تم التوقيع علي اتفاق التحالف ( الاستراتيجي ) بين حزب الأمة والحركة الشعبية في اليوم التاسع والعشرين من يناير بمدينة طرابلس التي شهدت لقاءات بين القيادة الليبية وكل من الأمة والحركة وقع عليه من قبل حزب الأمة في ذلك التاريخ السيد مبارك المهدي ومن قبل الحركة السيد لوال دينق. تم الإعلان رسميا عن هذا الاتفاق بعد صياغته في أديس ابابا في 22 فبراير عام 1990 .
كما تزامن الحوار مع الحركة مع حوار مماثل بين حزب الأمة والقيادة الأثيوبية بدأ في النصف الأول من سبتمبر عام 1989 وهو الحوار الذي أثمر اتفاقا مع الحكومة الأثيوبية أتاح لحزب الأمة ممارسة نشاطه وفتح مكتب له بالعاصمة الأثيوبية وهو المكتب الذي كانت تمارس من خلاله كل نشاطات المعارضة السودانية بالإضافة الي منح المعارضة ساعة من البث الإذاعي عبر إذاعة أديس ابابا والسماح لقيادات المعارضة السودانية الالتقاء في العاصمة الإثيوبية بغرض التشاور والتفكر دون قيد أو شرط .
وبالفعل فقد مولّ ونظمّ مكتب حزب الأمة في أديس ابابا أول لقاء لفصائل المعارضة مع الحركة الشعبية تمت فيه مناقشة مقترحات الحركة وإضافاتها للميثاق، وتم الاتفاق علي مسودة التعديل علي أن تستكمل في القاهرة، حيث نظم حزب الأمة لقاءا مماثلا بفندق ميرديان القاهرة هيليوبوليس تمت فيه مناقشة مقترحات الحركة، حيث أمكن التوصل في نهاية المطاف الي الصيغة النهائية لميثاق التجمع الوطني الذي اصبحت الحركة بموجبه عضوا في التجمع الوطني .
الزميل حسن في حوار صحافي مع جون قرنق في اسمرة 95
وكان يوم 15 مارس عام 1990 يوم إنتظام الحركة في التجمع الوطني، ويوم توحيد القوي السياسية والجنوبية لأول مرة في جبهة واحدة ضد حكومة الإنقاذ .
من أهم الشخصيات التي شاركت في تلك الاجتماعات من المعارضة ممثلة لفصائلها التي اعتبرت انضمام الحركة إنجازا تاريخيا السادة المرحوم الدكتور عزالدين علي عامر عن الحزب الشيوعي السوداني، السيدان محمد الحسن عبدالله يس والدكتور أحمد السيد حمد عن الحزب الإتحادي الديمقراطي، الدكتور منصور خالد والدكتور لام كول والسيد دينق ألور عن الحركة الشعبية كما شارك من حزب الأمة المرحوم الأستاذ الفاتح محمد سلمان ، مهدي داؤود، مأمون شرفي ،صديق بولاد ، حسن أحمد الحسن ، د سليمان الدبيلو وصلاح جلال .
في ضوء هذا النجاح الذي تحقق في القاهرة رأت الحركة وحزب الأمة استكمال مباحثاتهما التي بدأت في أكتوبر عام 1989 بأديس أبابا والتي قادت الي انضمام الحركة لتجمع المعارضة الشمالية، حيث شكلت الحركة وفدها للتفاوض مع الأمة والذي ضم في عضويته أعلي مستوي من قادة الحركة وهم الدكتور جستينياك، نيال وليم دينق ، لوال دينق لوال ، ماريو مور والكوماندر جيمس واني لتبدأ سلسلة من الحوارات واللقاءات والإتفاقات .
لعبت قيادة حزب الأمة في الخارج دوراً أساسياً في بناء علاقة خاصة باسم حزب الأمة مع الحركة الشعبية لدرجة أثارت غيرة القوى السياسية الأخرى، وهو ماحمل تلك القوى على التخطيط لهجوم مضاد خاصة عندما بدأت الحركة تحس ان بإمكانها قيادة نشاط المعارضة في الخارج على حساب حليفها حزب الامة وتوظيف تلك الفصائل المعارضة لخدمة أهدافها وهو ماحدث لاحقا بعد تجميد الأمة لعضويته في التجمع بسبب تداعيات خلافات المعارضة .
وفد النظام يهتف للقذافي
وعودة إلى تلك الأيام الباكرة من بدايات العمل المعارض من مطلع التسعينات حيث بدأت حكومة الإنقاذ تحركا مضادا بطرابلس استطاعت من خلاله التأثير المباشر علي بعض قيادات حركة اللجان الثورية التي استحسنت الدور الذي لعبه النظام لإرضائها من خلال دغدغة غرائز وتطلعات حركة اللجان وتبني الشعارات القومية ومقولات القائد وأحاديث الوحدة ومفردات الكتاب الأخضر وإعلان استعداد الخرطوم للدخول في وحدة اندماجية مع ليبيا علي أساس ان يكون النظام السياسي في السودان هو نظام المؤتمرات الشعبية، وقد هتف وفد النظام السوداني الذي قدم الي طرابلس للثورة الليبية وقائدها الأممي وما كان للأسلوب الذي أستخدمه النظام السوداني ليفشل في مسعاه حيث أدارت القيادة الليبية في تلك المرحلة ظهرها لحلفاء الأمس دون إغلاق الباب تماما.
انصرف المعارضون الي أديس أبابا حيث نظم حزب الأمة اجتماعا لأول لقاء مشترك يضم فصائل المعارضة الشمالية والجنوبية في العاصمة الأثيوبية، وذلك للنظر في برنامج عمل المعارضة وتصوراتها للمستقبل السياسي والاقتصادي في السودان وتنادي المعارضون الي الهضبة السمراء حيث كان هو أول اجتماع مشترك حضرته فصائل المعارضة، حيث مثل الحركة الشعبية فيه الدكتور جون قرنق علي رأس وفد ضم من قادة الحركة منصور خالد ودينق ألور والأخ ياسر عرمان ونيال دينق وآخرين، فيما مثل الحزب الشيوعي الدكتور عزالدين علي عامر ومن حزب البعث الأستاذ تيسير مدثر، ومن الأمة مبارك المهدي ومهدي داؤود ونصر الدين الهادي وصديق بولاد و حسن احمد الحسن ونسبة لعدم وجود ممثل للحزب الاتحادي فقد قام الدكتور جون قرنق بإبلاغ السيد محمد عثمان الميرغني بوقائع وقرارات الاجتماعات، والتي تمخضت عن عقد مؤتمر دستوري مصغر وترجمة ميثاق التجمع الوطني الي برنامج عمل سياسي وتشريعي مفصل يكون أساسا للحكم في السودان ويقوم علي أساس الديمقراطية وإرساء دعائم السلام العادل في السودان .
في ذلك الاجتماع برزت لأول مرة ضرورة وضع برنامج سياسي وتشريعي متكامل يتحدد علي أساسه مستقبل البلاد ويجمع بين القوي السياسية في الشمال والجنوب، يكون صماما لوحدة البلاد التي تعاهد الجميع علي صيانتها.
في أحد تلك اللقاءات التي جمعتنا بالدكتور قرنق في منزل السيد دينق الور مدير مكتب الحركة في أديس ابابا ، في تلك الأيام تحدث زعيم الحركة الشعبية بثقة وتفاؤل كبيرين حول رؤيته للتغيير المطلوب في السودان وقد كان حديثه لا يخلو من سخرية وطرفة في بعض الأحيان . تحدث عن التجربة السويسرية في الحكم باعتبارها مثالا يمكن أن يقوم في السودان وهي صيغة تحقق مشاركة جميع الأقاليم في الحكم على مستوي المركز . كما تناول رؤيته لمعارضة النظام على الصعيدين العسكري والسياسي وضرورة تنظيم مساهمة القوي السياسية في ذلك المشوار والتوحد من أجل سودان قوي موحد .
قرنق .. كاريزما وثقافة
الحقيقة أن قرنق يتمتع بشخصية كاريزمية وثقافة عالية وتعمق في دراسة التاريخ لاسيما التاريخ الاجتماعي وتاريخ الحضارة النيلية، ومع تطور الأحداث تطورت صورة جون قرنق من كونه الزعيم الثوري الماركسي في الثمانينات إلى زعيم وطني في التسعينات يسعى إلى التحالفات مع القوى السياسية في الشمال والجنوب، فيبدو تارة اقرب إلي المفكر والمنظر وتارة أخرى إلي السياسي الليبرالي المناور البارع ، وثالثة إلي سياسي يسعي إلي تطويع خصومه من الحلفاء بإثارة التناقضات مستفيدا من بريقه الإقليمي والدولي الذي بدأ في الظهور تلك الأيام لاسيما بعد تحالفه مع الدوائر المسيحية في الغرب.
يقول بيتر موسزينسكي، وهو متخصص في تغطية أخبار الحرب الأهلية السودانية لعدة سنوات، إن من الصعب إقامة علاقة شخصية مع هذا الرجل: يقصد جون قرنق ويقول “لديه مظهر بارد، يعطيك الانطباع أنه فوق الآخرين.”
ويصف جيل لاسك نائب رئيس تحرير أفريكا كونفيدينشيال والمتخصص في الشؤون السودانية قرنق بأنه رجل فخور، ويقول إنه “رجل ذو كاريزما وقدراته القيادية واضحة.” “هو رجل عسكري محترف. رجل يؤمن بأنه ماهر.”
يري الدكتور جون قرنق في نفسه مخلصا ليس للجنوب فحسب وانما لكل أولئك الذين يعتقد أنهم ضحايا لهيمنة الثقافة العربية الإسلامية التي لم تحترم ثقافات الآخرين، وقد لعبت ظروف وعوامل كثيرة دورا أساسيا في تشكيل هذه الشخصية التي لعبت دورا دراميا في بداياتها وانتهي دورها أيضا بطريقة درامية في حادث تحطم طائرة بطريقة مأساوية . وكما سبق فالقرب من شخصية العقيد قرنق يعطيك الفرصة لاكتشاف أنه قارئ جيد لتاريخ السودان ، راجح العقل تسري فيه روح الدعابة والإدراك لأبعاد الشخصية السودانية للمواطن الشمالي، وهي معرفة تراكمت مع سني تواصله مع جميع أطياف وقطاعات المجتمع السوداني التي كانت ممثلة في التجمع الوطني سياسيا واجتماعيا . ويزخر خطابه بالنوادر والأمثال الشعبية السودانية .
في تلك الفترة التي اتسمت بالشفافية الوطنية كانت النظرة للسودان واعدة بالمستقبل العادل لجميع أبنائه دون تمييز. كما شكلت تلك الفترة من عمل المعارضة التي امتدت لعقد من السنوات فرصة حقيقية للتعارف السياسي بين جميع القوي السياسية في الشمال والجنوب، ومن خلال التعارف صححت العديد من المفاهيم الخاطئة المتبادلة.
ورغم قصر المدة التي التأم فيها شمل المعارضة الجنوبية والشمالية إلا ان تحولات هامة حدثت على شخصية زعيم الحركة وعلى فكره حيث أصبح ينادي بأطروحة السودان الجديد او الوحدة على أسس جديدة دون أن يكون مطلب الانفصال حاضرا، كما أنه قام بدور أساسي في كبح جماح الانفصاليين في الحركة الذين كان من اهم أعلامهم الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول وهو مادعاهما في نهاية المطاف للاصطدام والمواجهة العسكرية مع د قرنق وتياره الرئيسي في الحركة .
من الوحدة إلى الانفصال
في صيف عام 1991 وبينما كانت العمليات العسكرية تحتدم في الجنوب مخلفة أعدادا كبيرة من القتلى والجرحى في صفوف الجانبين قامت إحدى المجموعات التي انشقت علي الحركة بإعلان ما عرف ” ببيان الناصر” بقيادة د رياك مشار ود لام أكول وذلك في أغسطس عام 1991 حيث رفعت جماعة الناصر شعار الانفصال فيما أبدت الحكومة آنذاك موافقتها و استعدادها لبحث تفاصيل مطلب الانفصاليين في مجموعة الناصر. وبالطبع كانت الحكومة تهدف من وراء ذلك إلي إحداث مزيد من الانشقاقات داخل الحركة وإضعافها دون أن تدرك أو أن يدرك مهندس مفاوضاتها آنذاك علي الحاج إن الموافقة المتعجلة علي مطلب الانفصال ربما تغري مجموعات أخري لإعلاء صوتها بالمطالبة بتقرير المصير، وقد كان الأمر حتي تلك المرحلة لا يعدو المطالبة بفيدرالية ذات صلاحيات موسعة .
نجحت الحكومة باستجابتها السريعة لحوار الانفصاليين في وضع خصمها الرئيسي ” الحركة ” في موقع يبدو الأقل دفاعا عن مطالب الجنوبيين حيث تطرح الحركة شعار الوحدة والتحرير للسودان كله وليس الجنوب فقط وحل مشكلة الجنوب في إطار قضية السودان المركزية وليس كجزء منعزل .
أسهمت سياسات الحكومة في تلك الفترة وإطلاق يد الدكتور علي الحاج في التعامل مع الملف الجنوبي في تعزيز مطلب الانفصال رغم أن هدف الحكومة كان إحداث انقسامات داخل جسم الحركة واختراق الحركة بعمل
داخلي لإقناع قياداتها بالتفاوض معها والسعي لمساومة مجموعة الناصر من ناحية أخرى وكسب الوقت للإعداد لمواجهات فاصلة مع الحركة في ظروف بدت فيها الحرب تأخذ طابعا دينيا واقصائيا لكن الحكومة لم تكن تحسب أن التطورات ربما تقود إلي نتائج غير التي تريدها بحيث يصبح تقرير المصير أمرا واقعا لا يمكن تجاهله .
وبالفعل فقد أحدث إعلان الناصر ارتباكا كبيرا في صفوف الحركة مما دعا الدكتور جون قرنق الي الدعوة لعقد اجتماع هام لقادة الحركة في مدينة توريت لبحث تداعيات إعلان الناصر علي مسيرة الحركة، في ظل وجود تأييد كبير للرأي العام الجنوبي لمطلب الانفصال . وتداول الاجتماع في كافة المعطيات علي الساحة الجنوبية وفي مستقبل علاقات الحركة مع حلفائها الشماليين إن هي أقدمت علي تبني خيار الانفصال لسحب البساط من تحت أرجل خصومها في مجموعة الناصر، وحاولت الخروج بعد جدل دام لعدة أيام بين مناصري الانفصال ومناصري الوحدة إلي الخروج بحل وسط يخاطب مشاعر الجنوبيين ويعمل في نفس الوقت علي عدم إحراج شعارات وتحالفات الحركة وخطابها المعلن مع حلفائها الشماليين وذلك من خلال معالجة مطلب تقرير المصير بما لا يخل بالتزامات الحركة كفصيل داخل التجمع الوطني، وأسفرت المداولات عن إصدار ما عرف “بإعلان توريت ” والذي تمثل في تبني الحركة لثلاثة خيارات محددة هي :
أ الوحدة المشروطة
ب الكونفيدرالية
ج حق تقرير المصير.
وعلى صعيد مجموعة الناصر وسيناريو مهندس العلاقات الجنوبية الدكتور علي الحاج قام الأخير بترتيب عقد اجتماع سري في مدينة فرانكفورت الألمانية مع وفد المنشقين عن الحركة بقيادة الدكتور لام أكول لمناقشة موضوع تقرير المصير والبحث في تفاصيله، وبالطبع فقد أستخدم دكتور علي الحاج كل مهاراته في إتمام التوصل إلي اتفاق مع مجموعة الناصر وإبرام اتفاق يتضمن تزويد الحكومة للمجموعة بأسلحة وذخائر علي أساس قبول الحكومة بحق تقرير المصير وقبول مبدأ الانفصال نهائيا فضلا عن التعاون في تحقيق ذلك لاسيما التنسيق الميداني بين قوات الحكومة وقوات مجموعة الناصر للإطباق علي قوات قرنق وتصفيتها .
هذا البند من الاتفاق الذي يتضمن التعاون العسكري للإجهاز علي قوات الحركة والذي اعتبره عضوان في الوفد محاولة لإضعاف الجنوبيين بتزكية القتال بينهم دعاهما للاستقالة من المجموعة بصورة مسببة وهما القاضيان
تيلار دينق ودينق تيل.
وقد أصدر القاضيان بيانا في فرانكفورت أشارا فيه الي أن د لام أكول قد حرص علي إخفاء كل تحركاته في ألمانيا عن أعضاء الوفد بما في ذلك اجتماعاته السرية مع الدكتور علي الحاج، وأضاف القاضيان أن تعامل لام أكول بهذه الطريقة مع قضية الجنوبيين دفعهما للاستقالة من مجموعة الناصر وهما في غاية الأسف، كان هذا البيان هو الذي نسف سرية المباحثات في فرانكفورت وفضح الاتفاق قبل أن يجف مداد التوقيع عليه .
أما عن تفاصيل فحوي الاتفاق فقد نص على التزام مجموعة الناصر التعاون التام مع الحكومة مقابل قبول الحكومة لمبدأ الانفصال التام لجنوب السودان عن شماله وقيام دولة مستقلة في الجنوب، وأن يظل ذلك مبنيا علي ترتيبات الفترة الانتقالية المتفق عليها، وأن يكتفي بالتوقيع علي الاتفاق في تلك المرحلة تفاديا لأي حرج يمكن أن يسببه بالنسبة للحكومة داخليا إقليميا أو علي صعيد المعارضة في الخارج . وباستقالة القاضيين وكشف تفاصيل الاتفاق ما لبث أن دبت الانقسامات داخل
رياك مشار
مجموعة الناصر نفسها بعد أن تحولت المجموعة الي آلية في يد الحكومة حيث تم التنسيق بين الحكومة والمجموعة في هجوم قاداه علي مواقع حركة قرنق فدارت معارك ضارية راح فيها عدد كبير من الضحايا علي الجانبين الإ أن الفصيل الرئيس قد تمكن من إعادة السيطرة علي عدد من المواقع التي خسرها وأعاد تأمينها. .
وبفشل الهجوم في تحقيق أهدافه تجاهلت الحكومة اتفاقها مع مجموعة الناصر الذي وقعته في فرانكفورت مما حمل مجموعة الناصر كرد فعل علي ذلك التجاهل للقيام باقتحام مدينة ملكال التي توجد فيها القوات الحكومية وقال لام أكول الذي عبر عن ذلك في اطار ابتزاز للحكومة أن المجموعة المنشقة لاتزال عضوا في التجمع الوطني المعارض وكنا قد أشرنا سابقا أن الدكتور لام أكول هو الشخص الذي مثل الحركة في التوقيع علي انضمامها للتجمع في القاهرة عام 1990لممارسة مزيد من الضغط علي الحكومة التي تنكرت لالتزامها لهم .
ندوة أتلانتا
في أغسطس 1992 أطلق حزب الأمة مبادرة بعنوان ” مشروع سلام عادل ” مرفقة برسالتين الي كل من الفريق عمر البشير والعقيد جون قرنق زعيم الحركة الشعبية يتحدث فيها عن ضرورة تحقيق السلام في السودان علي أساس الحقوق المتساوية بين المواطنين مفصلا مشروع المبادرة ومحددا آلياتها .
كانت هذه المبادرة مدخلا لترتيب ندوة أعد لها حزب الأمة بالتعاون مع مركز كارتر بأتلانتا للترويج للمبادرة بالتنسيق مع الرئيس الأسبق جيمي كارتر ولتسليط الضوء علي جوانب الأزمة السودانية بمشاركة جميع الأطراف بما في ذلك الحكومة ،ورغم معارضة لجنة التنسيق العليا التي كانت تتولي تنسيق نشاط المعارضة في الخارج علي مبدأ الجلوس مع ممثلي النظام إلا أن حزب الأمة قد تمكن في النهاية من إقناع الجميع بضرورة الإفادة من أي منبر دولي يمكن أن يسهم في تحقيق الأهداف المعلنة والتي تتمثل في تحقيق السلام والديمقراطية وكانت بعض أطراف في المعارضة قد اتهمت الأمة بالسعي للتصالح مع النظام الحاكم وهو اعتبره حزب الأمة عدم إلمام بالحقائق وقد تم من خلال النقاشات تجاوز هذه الشكوك وإصدار بيان من قبل التجمع يؤكد ضرورة الإفادة من أي منبر دولي لشرح قضية الشعب السوداني، مؤكدا مشاركة التجمع في الندوة .
الرئيس كارتر
إنعقدت الندوة في الفترة من 15 الي 17 يناير 1992 بمركز كارتر بمدينة أتلانتا الأمريكية متزامنة مع إعلان ” هيئة التفاوض الدولية لفض النزاعات الداخلية في دول العالم وهي هيئة تكونت من شخصيات مرموقة عالميا من مختلف قارات العالم من أبرزها الرئيس جيمي كارتر ووزير الخارجية الأسبق سايروس فانس وأندرووينق ممثل الولايات المتحدة الأسبق في مجلس الأمن وبيريزديكويلار السكرتير الأسبق للأمم المتحدة وسان شيز رئيس فنزويلا الأسبق وأوباسانجو من نيجيريا والسيدات ماريا مستشارة هيئة غوث اللأجئين ومسزبالما زوجة رئيس وزراء السويد والعديد من الشخصيا ت الأخري المؤثرة وهو ما أضفي علي مناخ الندوة الكثير من الإيجابية في هذا المهرجان العالمي الذي انعقدت علي هامشه ندوة اتلانتا السودانية .
حرص الرئيس كارتر علي توظيف زخم هذا الحضور الهام لصالح الندوة السودانية ، حيث شارك بالحضور في الندوة التي ترأس جلساتها الأب ديزموند توتووشارك فيها السكرتير العام لمنظمة الوحدة الأفريقية ومساعد سكرتير الأمم المتحدة وممثلون للبرلمان الأوروبي والخارجية الدنماركية والخارجية الأميركية ،فيما حضر ممثلو التجمع الوطني الديمقراطي بوفد موحد ضم الأمة والاتحادي والشيوعي والحركة الشعبية كما شارك وفد يمثل مجموعة الناصر.
أما الحكومة فقد مثلها المستشاران بسفارتي السودان في كل من واشنطن ولندن الأستاذان أبوبكر الشنقيطي وعبد الوهاب الأفندي، ناقشت الندوة الحرب الأهلية، غياب الديمقراطية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتداعيات الحصار الخارجي وقضايا الإرهاب.
وقد نجحت الندوة في أنها سلطت الضوء علي المشكل السوداني وتأكيد ضرورة إيقاف الحرب وتحقيق السلام وتحقيق الديمقراطية، وتمثلت أهم التوصيات التي خرجت بها الندوة في ضرورة عقد مؤتمر مائدة مستديرة يضم جميع القوي السياسية السودانية لإيجاد حل سلمي وعادل للمشاكل القائمة في السودان وأن تعمل هيئة التفاوض الدولية علي تبني عقد هذا المؤتمر علي أن يرتبط ذلك بإجراءات تمهيدية تتمثل في إطلاق سراح المعتقلين ورفع حالة الطوارئ ووقف مؤقت لأطلاق النار .
نشطت المعارضة في فتح نوافذ خارجية عديدة لاستقطاب الدعم الخارجي من كل نوع وهي ذات النوافذ التي أصبح إغلاقها صعبا علي الحكومة والمعارضة معا فمثلما نشطت المعارضة في جر أرجل المجتمع الدولي لدعمها في مواجهة النظام الحاكم نجح النظام أيضا في جذب التدخلات الخارجية نتيجة لسوء الممارسات التي تعتبر بمقاييس المجتمع الدولي خارجة علي القيم الإنسانية والحضارية فبقيت النوافذ والأبواب مشرعة فيما تلي من سنوات لتعبر من خلالها تيارات ومصالح عديدة الي صميم الشأن السوداني بينما أصبحت قطاعات واسعة من المجتمع السوداني أسيرة لذلك الواقع . اتفاقية شقدوم
في شتاء عام 1994 توصل حزب الأمة والحركة الشعبية بعد حوارت ممتدة بين الطرفين إلى ” اتفاقية شقدوم” باعتبارها اتفاقاً سياسياً بين حزب الأمة والحركة الشعبية والجيش الشعبي لتحرير السودان، ووقد مهر الاتفاق بتوقيعه كل من د عمر نور الدائم وسيلفاكير بحضور جون قرنق بقرية شقدم في جنوب السودان .
كانت أبرز حيثيات الاتفاقية الالتزام بوضع حد للنزاع المسلح، وقيام الوحدة الوطنية في السودان على العدالة.
أسست تلك الاتفاقية لاتفاق أسمرة الأول والثاني الذي اختار له الدكتور عمر نور الدائم اسم اتفاق أسمرة للقضايا السودانية المصيرية.
د عمر نور الدائم
بعد توقيع اتفاق شقدم غادر د عمر نور الدائم ومبارك المهدي أسمرة للقاء القيادة الأريترية واقترحا عليها دعوة قرنق حيث لم تكن هناك أي علاقة بينهما، اقترحا ايضا دعوة زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي السيد محمد عثمان الميرغني الذي كان يقيم بين السعودية والقاهرة ، وذلك لوضع أسس جديدة للعلاقة مع اريتريا من جانب القوى الوطنية السودانية الممثلة للمعارضة آنذاك.
وقبلت القيادة الاريترية الاقتراح وتم الاتصال بقرنق الذي حضر مباشرة الى أسمرة، حيث حضر الاجتماع الأول للمعارضة السودانية في أسمرة والذي ضم الأمة والاتحادي والحركة وقوات التحالف.
وانطلق بعد ذلك التنسيق بين قوى المعارضة بعد نجاح الاجتماع للتحضير لمؤتمر المعارضة في أسمرة التي قبلت استضافته .
بعد مخاض عسير في عمل التجمع الوطني الذي كانت أنشطته محل شد وجذب بين أطرافه سجلتها حيثيات تلك الفترة انطلقت الاجتماعات التحضيرية للجنة التسيير بدار الحزب الاتحادي في القاهرة والتي شاركت فيها جميع أحزاب وفصائل التجمع.
مبارك المهدي
انتقلت بعد ذلك الوفود في الموعد المقرر إلى أسمرة وقد اثارت قضية هوية الدولة أهي علمانية أم ذات مرجعية إسلامية جدلا واسعا بين الحركة الشعبية وحلفائها من ناحية وبين حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي وإن كان بدرجات متفاوتة من ناحية أخرى، رغم ان إعلان نيروبي واتفاقيتي شقدم وأسمرة الأولى قد عالجت أو نظمت الخلاف حول هذه النقطة كما أثار تحفظ حزب الأمة على المناطق الثلاث جبال النوبة والنيل الأزرق وأبيي أيضا خلافا كبيرا بين الجانبين، ورغم كل هذه الخلافات تمكن التجمع بمساعدة الجانب الأريتري من تجاوز بعض الخلافات حول الميثاق الذي تم الاتفاق على صيغته النهائية والذي تم إعلانه في حضور ممثلين دبلوماسيين ومراقبين في اسمرة تحت اسم إعلان مؤتمر أسمرة للقضايا المصيرية وذلك في الفترة من 15 الى 23 يونيو 1995، والذي شاركت فيه كافة القيادات السياسية والنقابية والعسكرية والشخصـيات الوطنية المنضوية تحت لواء التجمع الوطني الديمقراطي وهي الحزب الاتحادي الديمقراطي، حزب الامة، الحركة الشعبية / والجيش الشعبي لتحرير السودان، تجمع الأحزاب الإفريقية السودانية، الحزب الشيوعي السوداني، النقابات، القيادة الشرعية، مؤتمر البجة، قوات التحالف السودانية، وشخصيات وطنية مستقلة.
لم يكن الحزب الاتحادي الديمقراطي وفصائل التجمع الأخرى في حالة من الرضا للعلاقة الوثيقة التي نشأت بين الحركة الشعبية وحزب الأمة والتي بدأت منذ كوكادام وحتى اعلان اسمرة 95، لذا بدأت عمليات تشويش مستمرة لهذه العلاقة بتسليم معظم هذه الفصائل لزعامة الحركة الشعبية في شخص الدكتور جون قرنق وتصوير حزب الأمة منافسا بل متطلعا لابرام اتفاق مصالحة مع النظام بسبب مناداته دعوة النظام لحل سياسي شامل ورفضهم في تلك الفترة لذلك واعتبار الدعوة للحل السياسي الشامل ككلمة الكفر.
فتوترت العلاقة بين الأمة والحركة في نفس الوقت الذي احتدم فيه نوع من الصراع بين الأمين العام للتجمع الوطني ورئاسة التجمع المتمثلة في زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي .
ومما لايدع مجالا للشك أن النشاط الذي كان يقوده حزب الأمة والحراك الدبلوماسي الذي كان ينشط فيه السيد الصادق المهدي بعد وصوله إلى القاهرة قد اثار حفيظة فصائل التجمع الأخرى رغم ضعف تحركاتها على المستويين الإقليمي والدولي، ماخلق حالة من الاستقطاب بين حزب الأمة ومعظم تلك الفصائل بزعامة الحركة الشعبية وبمباركة من زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي أصبح حليفا مقربا للدكتور قرنق ومسلما له في جميع مبادراته دون رد .
أيضا فقد أصبحت معظم فصائل التجمع الأخرى مسلمة أمرها لزعامة الحركة الشعبية نكاية في حزب الأمة حيث تفرقت معظم تلك الفصائل للنيل من جهود الأمة وإحاطتها بشبهات التصالح مع النظام .
هذه الأوضاع السياسية والانقسامات بين قوى التجمع خلقت أجواءا مناسبة للحركة الشعبية لتمرير مخططاتها وتنفيذ برامجها في نفس الوقت الذي تواصل فيه مفاوضاتها مع النظام بمباركة التجمع رغم تهميشها له وإقصائها للتجمع من المشاركة في اجتماعات “الإيقاد” بحجة أن الحكومة ترفض ذلك .
أما في الاتجاه الآخر فقد أصبح حزب الأمة يشكل خطرا على الحركة من خلال حراكه الدبلوماسي وكشفه للتطورات السياسية بين النظام والحركة فيما ظلت عناصر التجمع الأخرى مشغولة بالتشكيك في حزب الأمة والصاق الاتهامات به في سعيه للحل الشامل .
هذه المشاهد أفرزت البيئة السياسية التي قادت إلى مؤتمر التجمع في مصوع والذي تحالفت فيه كافة فصائل التجمع بقيادة الحركة الشعبية ومباركة الميرغني لدفع حزب الأمة لتجميد عضويته في التجمع والتحرك منفردا وهو ماحدث فعلا، حيث أشار ياسر عرمان لاحقا لكاتب هذه السطور أنهم فعلا اتفقوا على تنفير حزب الامة من الاستمرار في التجمع ودفعه لاتخاذ ذلك القرار لتنفرد الحركة الشعبية بقيادة التجمع فعليا لإنجاز برامجها، فيما تحولت رئاسة الميرغني للتجمع إلى رئاسة وهمية حيث كان الرئيس الفعلي نائبه العقيد جون قرنق الذي ترك في نهاية المطاف حليفه في القاهرة وحيدا وذهب مصافحا البشير والترابي ومصالحا ومشاركا للنظام في اتفاق السلام الشهير .
في تلك الأجواء التي خلقتها تداعيات اجتماع مصوع جاءت رسائل المهدي وقرنق وهي رسائل تقول مصادر المعارضة أن من قام بصياغتها الدكتور منصور خالد مستشار قرنق وهو قام بالتعليق فيما بعد على تلك الرسائل في صحيفة البيان الإماراتية.
رسالة من رئيس جائزة قوسي
الصادق المهدي
في نهاية نوفمبر 2013 كتب باري قوسي رئيس جائزة قوسي الدولية للسلام موجها خطابه للسيد الصادق المهدي قائلا: :
” تقديرا لجهودك التي لا تكل للعمل من أجل خير شعبك ولإيجاد حلول سلمية ولرفاهية الشعب (عبر الحنكة السياسية وبناء السلام)، كرئيس حالي لحزب الأمة وكإمام لجماعة الأنصار الدينية وكرئيس لمجلس الحكماء العربي لحل النزاعات وكعضو للمجلس الاستشاري لمجموعة العمل الدولية للدبلوماسية الوقائية وكعضو في شبكة الناشطين الديمقراطيين العرب وكعضو في مجموعة سي واحد (C1) للحوار العالمي (وهي المبادرة المعنية بالحوار بين العالم الإسلامي والغربي) وكرئيس سابق للجبهة الوطنية المتحدة وحزب الأمة والجبهة الوطنية، وكرئيس سابق لوزراء السودان. ولاهتمامك وعملك بحماسة لإسعاف الديمقراطية والتنمية والإصالة في السودان. ولرفعك شعار الإحياء الإسلامي في العالم الإسلامي وفق وصفة للإحياء الإسلامي تطبق حقوق الإنسان والديمقراطية والتسامح الديني والسلام والتعاون العالمي. ولدورك في تحقيق الحداثة والعالمية في العالم الإسلامي بصورة تبنى على أسس دينية وثقافية. ولإصداراتكم وكتاباتكم العديدة ومحاولاتكم حتى هذه اللحظة لبناء سلام مستدام ومجهودات اتصالاتكم وتعبئتكم المستمرة التي لا تنتهي لاستعادة السلام والديمقراطية الحقيقية في السودان، وحل جدلية الحياة المعاصرة والإحياء الديني في العالم الإسلامي. ولأن كل هذه الانجازات والمجهودات جعلت منك مثالاً حياً للآخرين للاقتداء ليس فقط في السودان وإنما عبر العالم العربي وأفريقيا وأوربا والولايات المتحدة الأمريكية وآسيا والمجتمع الدولي ننتظر بشغف كبير حضوركم في يوم الأربعاء 27 نوفمبر 2013م الساعة الخامسة مساء بمركز الفلبين الدولي للمؤتمرات بمانيلا بالفلبين، لاستلام التكريم المتميز المخصص والمكافئ لمساهماتكم الهامة في مجال فن إدارة الدولة والحنكة السياسية (statesmanship) مجال بناء والسلام
صديقكم
باري قوسي
رئيس جائزة قوسي الدولية للسلام.
يرى البعض أن السودانيين لايحتفلون كثيرا بمن هيأ الله لهم أسباب التميز في كافة المجلات بقدر من التكريم والثناء ومعظم هؤلاء عادة ما يكرمون بعد وفاتهم .
وهذا الضنين ربما هو ناتج عن حصيلة التربية الاجتماعية لقطاع واسع من السودانيين التي انعكست حتى على السلوك الاجتماعي الخاص الذي يتمثل أحيانا في صعوبة التعبير حتى عن المشاعر الخاصة و مدح الشخص بعد رحيله وفي ذلك أمثال شعبية معلومة .
إلا ان غيرنا ممن اكتسبوا تنشئة اجتماعية مختلفة كما في بعض المجتمعات الأخرى يكونون الأكثر قدرة على التعبير والافصاح فيما يستوجب التعبير عنه لهم او عليهم .
قال الدكتور مصطفى الفقي مدير مكتب الرئيس الأسبق حسني مبارك للمعلومات وهو يقدم المهدي للحديث في إحدى المناسبات إن المهدي يمثل جوهرة فكرية حبا الله بها وادي النيل بأكمله وليس السودان فقط باعتباره يمثل منظمومة متكاملة للعطاء الفكرى والإنساني.
ورغم الحيف الذي يحاصر به الخصوم السياسيين من غلاة العصبية والغيرة السياسية اسهامات السيد الصادق المهدي في الشأن العام من دين ودنيا في بلادنا من المتحاملين سياسيا والمنكفئين دينيا إلا أن الامام ما انفك يتلقى تقدير المجتمعات المتحضرة في بلاده وبلاد الاخرين ولعل سلسلة التكريمات التي يحظى بها خارج بلاده أهم دلالة على ذلك .
اما في وطنه فقد نبشت كل الانظمة الديكتاتورية في ملفاته وسيرته لاقتناص ما يعينهم على إخفات نبضه في مسيرة المدافعة عن الحق والاشراق فيه فلم يجدوا إلا حصاد الهشيم .
منافسوه من السياسيين منهم من يقدر سعيه ويتمناه لنفسه، ومنهم من يجحد، بنكران بين أما منافسوه من الشموليين فيحسبون كل صيحة عليهم تسيطر عليهم عقدة الشرعية ودائما ما ينشغلون بسيناريوهات وأد الخصوم.
الإمام الصادق المهدي بملامساته الفكرية يبدو للمهتمين والباحثين من داخل الوطن ومن خارجه مجتهدا في حلبة الفكر بما يوازن بين الالتزام والمعاصرة ووطنيا ، يبدو صبا عاشقا للسودان ومعتدا بشعبه رجالا ونساء يرى بلاده بعين العاشق ما لايراه الخصوم.
قلوب العاشقين لها عيون
ترى ما لا يراه الناظرون
وأجنحة تطير بغير خفق
إلى ملكوت رب العالمين
الرسائل المتبادلة بين المهدي وقرنق
بعد خروج السيد الصادق المهدي من السودان عبر أريتريا في عام 96 أضاف انضمامه للمعارضة الخارجية زخما جديدا ونشاطا سياسيا ودبلوماسيا وشعبيا واسعا وبقدر ما نشطت المعارضة بدأت الخلافات بين فصائل التجمع نتيجة الغيرة السياسية ومحاولات البعض الاستئثار بقيادة العمل المعارض بحق وبغير وجه حق .
ونسبة للنشاط الدبلوماسي والسياسي الواسع الذي كان يقوده رئيس حزب الأمة بحكم وضعه السياسي والدبلوماسي بوصفه رئيس وزراء سابق ومنتخب تعرض الحزب لاتهامات عديدة من قبل بعض فصائل التجمع . بينما حاول البعض اتخاذ الحركة الشعبية كمظلة قيادية لعمل المعارضة دون انتباه لتباين الرؤى والتوجهات وتحويلها إلى جبهة مواجهة ضد حزب الأمة .
وقد نجحت تلك الفصائل بقيادة الحركة الشعبية والشيوعي والاتحادي لاحقا من خلال مؤتمر مصوع الذي شهد اختلافا بينا حول مشروع الحل السياسي الشامل في دفع حزب الأمة لتجميد نشاطه داخل التجمع بسبب العديد من الاتهامات المقصودة من قبلهم بسعيه للتصالح مع النظام لتبرير ابعاده . وبالفعل جمد حزب الامة نشاطه داخل التجمع وبدا يمارس دوره السياسي بلا قيود وخلا في نفس الوقت المجال للحركة الشعبية لقيادة التجمع رغم وجود الميرغني رئيسا للتجمع وبرضائه حيث انفردت الحركة بالحوار مع الحكومة وتعمل في نفس الوقت على التشكيك في مواقف الاخرين وعرقلة أي مشاركة لفصائل التجمع الأخرى التي تتحالف معها في المفاوضات الي بدأت في نيروبي بحجة أن الحكومة والشركاء لا يقبلون ذلك .
والغريب أن مفاوضات الحركة في نيروبي لم تكن محل نقد من قبل فصائل التجمع بقدر م كانت توجه نقدا لاذعا لحزب الأمة في حديثه حول الحل السياسي الشامل واتهامه بالسعي للمشاركة في السلطة ثم تصوير مفاوضاته في جنيف وجيبوتي على انها صفقة لاقتسام السلطة رغم ان حزب الامة حافظ على التزامه بعدم ابرام صفقة ثنائية مع الحزب الحاكم الا في اطار قومي .
وبالفعل حافظ حزب الامة على عهده مما أدى إلى خروج مجموعة فاعلة من عضويته القيادية وابرام اتفاق منفرد مع النظام وهو ما فتح الباب لاحقا إلى انقسامات من تلك المجموعة بسبب المكاسب والمكافآت التي تلقوها من النظام .
أما مجموعة التجمع الوطني التي ظلت تشكك في مواقف الآمة من مشاركته في السلطة فسرعات ماهرعت بتشجيع الحركة الشعبية التي وقعت صفقة منفردة مع النظام لدفع الحرج عنها وبمباركة مصرية لتحسن العلاقات بين البلدين للتفاوض مع النظام الحاكم في القاهرة مما افضى إلى اتفاق القاهرة والحصول على مكاسب شكلية بنسبة ستة بالمئة من كعكة السلطة .
وبقى حزب الامة وحيدا في خط المعارضة والبحث عن حل سياسي شامل.
وعودة إلى اتهامات حزب الامة بالسعي للتفاوض وابرام صفقة مع الحزب الحاكم والاتهامات المتبادلة التي سبقت إعلان القاهرة جاءت تلك الرسائل المتبادلة بين المهدي وقرنق والتي حددت ملامح الخلاف السياسي وأبعاده. وكمثال لتلك العلاقة الملتبسة تأتي الرسائل المتبادلة بين المهدي وقرنق لتشكل مؤشرا حقيقيا على تلك الحالة ومن هذه الرسائل رسالتين متبادلتين تبودلتا في الفترة ما بين ديسمبر تسعة وتسعين ويناير عام الفين ومنها هذه الرسالة الموجهة من السيد الصادق المهدي إلى الدكتور جون قرنق وتلخص الرسالة في اختصار محكم دور حزب الأمة إزاء تطورات الأزمة السودانية وجوهرها المتمثل في مسألة جنوب السودان بكل أبعادها فضلا عن التناقضات السياسية بين اطراف التجمع وجوهر تلك التناقضات بما في ذلك دور الحركة الشعبية ورؤية حزب الأمة لذلك الدور.
حاول المهدي من خلال رسالته إلى قرنق تشريح الموقف السياسي وتبيان موقف حزب الامة من كافة التطورات التي حدثت بما في ذلك تحفظات حزب الامة على بعض مواقف الحركة وجاءت رسالته على النحو التالي :
الدكتور/ جون قرنق دي مابيور
رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان
قائد قوات الجيش الشعبي لتحرير السودان
أخي العزيز:
لقد التفتت قيادة حزب الأمة، ومنذ 1964م للجوانب السياسية والثقافية والاقتصادية لأزمة السودان القومية المتمثلة في الحرب الأهلية، شكل ذلك قفزة نحو تحويل الرأي السياسي الشمالي في هذا الصدد.. لا بد أنك تدرك أن حزب الأمة قد بادر ومنذ ذلك الوقت بالمبادرة وسط الرأي السياسي الشمالي بكل الأفكار التي يسرت العبور من الصورة القديمة للجديدة، أي: الاعتراف بالتعددية الثقافية، قيام الحقوق الدستورية على المواطنة، تضمين المواثيق الدولية لحقوق الإنسان في دستور البلاد المستقبلي، التحرك لعقد اتفاقيات سلام بين قبائل التماس والتفويت على نظام الجبهة أن يدرج تلك القبائل في «حربه المقدسة».. المبادرة بضم الحركة الشعبية للتجمع الوطني الديمقراطي، ثم تقديمها أي الحركة ـ للرأي العام العربي بوجه يتجاوز الشكوك المتبادلة بين الطرفين. لقد قامت بيننا ومنذ أن اتخذنا قرارنا بالتعاون من أجل إقامة السلام والديمقراطية وإعادة هيكلة السودان، قامت بيننا علاقة مقدرة من حيث الإتفاقيات التي وصلنا إليها والطرق التي اتبعناها لتنفيذ مقرراتنا لتحقيق التطلعات المشروعة لأهل السودان، ولكننا أخيراً فشلنا في التفاهم حول بعض الأمور:-
– لقد ألححنا على مراجعة “الإيقاد” توسيعاً لها لتشمل الجوانب الناقصة، ولم تكونوا متحمسين بقدر كافٍ تجاه هذه المراجعة.
– شجعنا المبادرة المشتركة كوسيلة مهمة تعالج قصور الإيقاد وتكملها، رحبتم بالمبادرة المشتركة بداية ثم اتخذتم موقفاً مغايراً بعد ذلك، أما مراجعة الإيقاد التي اقترحتموها كبديل للمبادرة المشتركة فقد جاءت مجحفة بصورة لم يستغرب معها رفضنا لها.
– مع نهاية 1998م تعاظمت مخاوفنا من احتمالات حدوث التدخل الدولي بصورة تمر فوق رؤوس السودانيين، ومن بلقنة السودان الداهمة. ربما لم يكن لديكم مخاوف من هذا القبيل، على أية حال فإن مداولاتنا مع شخصيات بارزة في المجتمع الدولي جعلتنا أكيدين من أن الحركة الشعبية وجيشها يعتبران صنوين لنظام الجبهة في المسؤولية عن انتهاكات حقوق الإنسان وعن استدامة الحرب.
إن بلقنة السودان التي نخشاها لا تُرى عبر ثنائية شمال-جنوب فحسب، بل كظاهرة تراجعية شاملة.. إنكم لا تمثلون سبباً في تلك المخاوف، ولكن ضحايا متوقعة لها. على كل حال فإن أهم سببين لتباين رؤانا هما: سرعة السير نحو الحل السياسي الشامل، وهامش تحرك الأحزاب تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي.
1ـ لقد رأينا في حزب الأمة، وبدءاً بمايو 1998م والأحداث التي قادت إلى حرب القرن الإفريقي وحرب البحيرات العظمى، إن خارطة إقليمنا الجغسياسي بدأت تتشكل بصورة جديدة وتفتح الباب لتحالفات لم تكن متوقعة من قبل.. وأنذر ذلك حسب تحليلنا بزوال مساحة الدعم العسكري واللوجستي التي كنا نتمتع بها حتى ذلك الوقت.
2ـ في 1997م لاحظنا تغيراً في لغة النظام ظهر في قبوله المتأخر بإعلان مبادي الإيقاد، وقبوله بالمواطنة كأساس للحقوق الدستورية، وتبنيه لبعض مقررات أسمرا 1995م خاصة مبدأ تقرير المصير للجنوب، ثم تعيين لجنة «قومية» للدستور للقيام بكتابة مسودة لدستور يكفل التعددية السياسية.
إن توسيع هامش المعارضة الداخلية وانكماش فرص العمل العسكري، والمخاوف من أخطار أجندة التداول الخبيث وخطر البلقنة الداهم، كل ذلك أقنعنا بالتحرك السريع بحثاً عن حل سياسي شامل مهدت له الظروف الجديدة. إن الأحداث الداخلية والخارجية التي رأيناها تقترب ومن ثم توقعنا حدوثها فاجأت معظم حلفائنا في التجمع. اختلاف القراءات هذا سبب اختلافاً في سرعة التحرك، وهو مكمن الشكوك التي نتجت.
3ـ لقد كنتم في التجمع، ولكن لم تكونوا تعملون بالتجمع. احتفظتم لأنفسكم بمسافة تنظيمية وسياسية نسبية بينما حاولنا نحن انتشال التجمع من سباته الذي أظهره كما لو كان مسماه هو: لا أحد يفعل شيئاً..
Nobody Does Anything NDA!..
في مارس1997م اقترحنا برنامجاً نفيرياً من عشر نقاط لاستصحاب الإنجازات العسكرية، واقترحنا مجموعة عمل – Task Force- لتحقيقه. أقر برنامج نفيري ولكن دون إقرار مجموعة العمل، والنتيجة: لم يفعل أحد شيئاً. في فبراير 1998م انتقد مؤتمر حزب الأمة الرابع هياكل التجمع وأداءه. كتبنا مذكرة موسعة ساقت إنجازات الماضي وإعاقات الحاضر، واقترحت برنامجاً إصلاحياً لإعادة هيكلة التنظيم وتوسيعه وتفعيله.. ولكن بلا جدوى!.. بعد عدة محاولات فاشلة لإصلاح التجمع وتفعيله قررنا أن نحرر أنفسنا من ذلك الموات، وذلك بمواصلة نشاطنا الحزبي مع الارتباط بالمرجعيات المتفق عليها، وبعد أن صار هذا اتجاها تقليداً معروفاً في التجمع سعينا لتقنينه باقتراح إصدار قرار يؤمن ذلك في يونيو 1999م. أعلنا أننا سنقابل أي شخص في سعينا نحو الحل السياسي الشامل. كان آخر اجتماع لهيئة قيادة التجمع في القاهرة قد دعا لوضع ورقة عمل للتفاوض، فقدم حزب الأمة ورقة عمل مستصحبة لكل المرجعيات السابقة. وكان متوقعاً للقائنا بالبشير في جيبوتي أن يكون لقاءً عادياً لتبادل وجهات النظر حول كيفية تفعيل المبادرة المصرية الليبية، ولموازنة لقاء جنيف بالترابي، ولإتاحة فرصة لنا لشرح ضرورة إجراءات بناء الثقة.. عوضاً عن هذا التبادل البسيط وجدنا البشير متطلعاً لصفقة أكبر: كان مستعداً للتوقيع على ملخص لورقة العمل التي قدمناها، لذلك لم نتردد في الموافقة. إن الذين قاسوا الاتفاق بحسناته قدروه، ولكننا لم ندهش لرد الفعل السلبي لاجتماع «مجموعة» القاهرة لعلمنا لأي درجة كان مطبوخاً.. ولكن وبالرغم من أننا لاحظنا التغير في نظرتك نحو توسيع الإيقاد ونحو المبادرة المشتركة عقب زيارتك الأخيرة لواشنطن بصورة تتطابق مع الموقف الأمريكي في الأمر، إلا أننا فوجئنا بموقفك العنيف ضد جيبوتي. لقد مثل خطابك في كمبالا في ديسمبر 1999م هجوماً مريراً ومجحفاً وشائهاً على حزب يمثل رأي الأغلبية في السودان، كما أنه وعبر الممارسة ـ له القدح المعلى في العطاء بين الأحزاب الشمالية في صياغة السياسات الجديدة لحل قضايا الجماعات السودانية المهمشة. وحوى لغة تتبنى تبنياً شاملاً للخطاب السياسي لبعض شُذاذ الآفاق من المثقفين الشماليين الذين يطمعون في تجنيد الجيش الشعبي ليحارب من أجل «أهدافهم اليائسة» التي ليست لديهم الرغبة ولا الزخم الجماهيري للقتال من أجلها. إنك تعلم أننا ومراعاة لمعانٍ أكبر، تحملنا كل تجاوزاتكم:-
في أكثر من مناسبة قدمتم لحكومة السودان خطة لتكوين دولتين كونفدراليتين بتقسيم السلطة المركزية بين الحركة ونظام الجبهة، ورسمتم حدوداً جديدة للدولتين.. كل ذلك يناقض بصورة صارخة مقررات أسمرا وكل اتفاقيات التجمع الماضية. كنتم جزءاً من أحد مقررات أسمرا 1995م بأن تمثلوا التجمع في عملية الإيقاد وتسعوا لتوسيعها في جوانب أخرى.. وقد كان الظن دوماً أن نظام الخرطوم هو الذي يرفض توسيع الإيقاد، حتى بدا جلياً أن الحركة الشعبية هي حاملة لواء الرفض. وحينما اقترحتم مشاركة التجمع، لم يزد اقتراحكم عن ترديد ما جاء في مسودة وفد السيد جونستون المرفوضة. تبنيتم علناً المبادرة المصرية الليبية حيث وقعت الحركة على إعلان طرابلس في أغسطس 1999م، ولكنكم لاحقاً وفي نفس العام راجعتم موقفكم وتحولتم نحو الموقف الرافض للمبادرة المشتركة مبدئياً.. إذًا فبمقياس الالتزام بمرجعيات التجمع يبدو سجل الحركة فقيراً جداً. ولو خضعت تحركات حزب الأمة لتمحيصٍ مماثل، خاصة اتفاق جيبوتي ـ لثبت أن موقف حزب الأمة ظل دوماً متسقاً مع مرجعيات التجمع. إن ملف الجيش الشعبي لحقوق الإنسان لدى الكثير من المراقبين المحايدين قد أعاق حملات المعارضة ضد انتهاكات نظام الجبهة لحقوق الإنسان إن لم يكن أوقفها كليةً. فالدورة الخامسة والخمسين للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 1999م، وتقرير وزارة الخارجية الأمريكية حول انتهاكات حقوق الإنسان في 1998م، والمنظمات العاملة في السودان خاصة الأربع الكبار التي ساقت ملاحظاتها في خطابها للأمين العام للأمم المتحدة في نوفمبر 1998م، والشاهد على حقوق الإنسان الأمريكية American based Human Rights Watch في ديسمبر 1999م، وعدة مقالات في الصحافة الأمريكية، كلها ساوت بين انتهاكات الجيش الشعبي لحقوق الإنسان وبين انتهاكات النظام.نقول، مهما بلغت درجة استيائنا من ظلم وقسوة هجومكم على حزب الأمة، وتمسكنا بصحة موقفنا. فإننا لن ندع رد الفعل يحيدنا عن سعينا الإستراتيجي نحو السلام ـ الديمقراطية ـ الاستقرار الإقليمي ـ وإعادة وضع السودان في «المجتمع الدولي».
1ـ لقد فشلت أجندة الجبهة الإسلامية في إنعاش الاقتصاد، أو كسب الحرب الأهلية، أو اجتثاث المعارضة، أو التمدد إقليمياً، أو إقامة دولة ومجتمع قابل لأن يُعرض كنموذج إسلامي.
2ـ في المقابل فإن المقاومة المسلحة، والمعارضة السياسية، والاستجابة الإقليمية، وتفاعل المجتمع الدولي، كل ذلك ساهم في عزل نظام الخرطوم وإحكام محاصرته.
3ـ أمام ثبات المعارضة وفشل النظام، وأمام انقساماته الداخلية، غيّر النظام اتجاهه متيحاً هامشاً أكبر للحريات داخل البلاد، وغيّر خطابه الإقليمي نحو حسن الجوار، وغيّر أجندته الدولية، فانكمشت «مساحة التصلب» لدى الجبهة.. بالنسبة لنا انكمشت فرص الضغط العسكري والحصار الدبلوماسي، ولكن فرص العمل السياسي تضاعفت. كما أن فرصة الوصول للحل السياسي لمشكلات السودان أو الفشل فيه مما يتيح لمزيد من الضغط السياسي صارت سانحة.
4ـ إن توقع أن يظل جيراننا الإقليميون على مواقفهم السابقة تجاه المعارضة السودانية في هذه الظروف يعد ضرباً من التمني. وإذا غضضنا الطرف عن استجابتهم للتغيير في لغة النظام الدبلوماسية، فإن أجندة جيراننا القومية قد انقلبت رأساً على عقب بسبب أولويات أمنية داخلية، ومتطلبات حرب القرن وحرب البحيرات العظمى. جيراننا هؤلاء نبلاء ويعلمون أن لنا قضية عادلة، لذلك فمن الممكن أن نتوقع ربطهم للتطبيع مع السودان بحل مشكلات السودان الداخلية.
5ـ إن نتائج رصدنا للوضع السياسي الداخلي والموقف الإقليمي والتطورات داخل النظام تشير إلى فرص الوصول لاتفاقية سلام وبرنامج للتحول الديمقراطي، وكل بنودنا في أسمرا صارت كبيرة. كل ما نحتاج إليه هو القرار بشأن آلية التنفيذ، معايير الضمان، والإجراءات الانتقالية.
هذا السيناريو عملي وبإمكانه إنجاز اتفاقية سلام لتحقيق تطلعات شعب السودان المشروعة، وإذا فشل النظام في التجاوب فإنه سيخلق الديناميكية لضغط سياسي لن يستطيع مقاومته. هنالك سيناريوهان بديلان:
ـ سيناريو استئصالي يتحدى النظام ويقتلعه من الجذور بالرغم من أنه يُرضي أحلام الكثيرين الذين عانوا كثيراً من هذا النظام.. ولكن الوسائل لتحقيقه ليست متوفرة. كل الممكن هو خلق حالة توتر مستمرة في السودان، وهذا بإمكانه أن يفكك الدولة والمجتمع ويصومل البلاد. استمرار المأساة الإنسانية المتعلقة بالحرب يخلق المناخ المحتمل للتدخل الدولي.. التدخل إذا تم فلن يهدف لحلٍ شامل لمشكلات السودان، وببساطة يطبق برنامجاً على غرار ما حدث في كوسوفو أو تيمور الشرقية. إنه مدخل لاستقطاب قومي وعالمي خطير. استقطاب يمكن أن يشكل مبعثاً للإسلاموية المتحالفة مع الاحتجاج والغضب الإسلاموي عبر العالم. إن التدخلات الدولية المفروضة سالبة المفعول، فهي تعطي النظام فرصة أن يبدو كمنافح ضد الاستعمار الحديث ومدافع عن الإسلام والسيادة الوطنية. كلا السيناريوهين لا تؤمن عواقبه، وبغيض تماماً من وجهة النظر الوطنية.
6ـ إن التطورات داخل السودان خاصة بعد 12/12/1999م يمكن أن تؤدي إلى أحد التطورات الأربعة التالية:
أ/ أن ينجح الترابي في إبطال الإنقلاب ضده.
ب/ إن نجاح البشير يغريه في تطوير ديكتاتورية عسكرية محضة.
ت/ أن يلجأ الطرفان لحل النزاع عبر القوة، حاثين تقهقر البلاد نحو الصوملة.
ث/ حدوث المزيد من المآسي التي تحتم التدخل الأجنبي.
الاحتمالات الأربعة فاجعة بالنسبة للسودان، ويمكن تجنبها عبر إستراتيجية للمعارضة تكون ناجعة وواقعية ومناسبة. إن قراءة حزب الأمة ومداولاته مع الوطنيين، ومناقشاته مع الجيران ومع أعضاء في المجتمع الدولي، تشير نحو البرنامج الآتي:-
أ/ عقد مؤتمر قومي جامع لمناقشة وحل كل المشكلات القومية، يحقق اتفاقية للحل السياسي الشامل.
ب/ يحكم المؤتمر القومي إعلان مبادئ للحل الشامل.
ت/ على آلية الوساطة للمؤتمر أن تحدد زمان ومكان وعضوية وأجندة المؤتمر، كما تقدم بعد استشارة أطراف النزاع إعلاناً للمبادئ. يجب أن تتكون آلية الوساطة من «اثنين + خمسة» يمثلون جيراننا في شمال إفريقيا وفي القرن الإفريقي، وتعضد بشركاء الإيقاد.
ث/ وحتى يصل المؤتمر للاتفاقية، تحكم البلاد بدستور انتقالي، وتكتب مسودة الدستور الانتقالي لجنة فنية تصوغه من المصادر التالية:-
1ـ مسودة الدستور التي قدمتها اللجنة القومية.
2ـ إعلان مبادئ الإيقاد.
3ـ مقررات أسمرا 1995م.
4ـ نداء الوطن.
ج/ يجيز الدستور الانتقالي قمة من قيادة البلاد السياسية تعمل كجسم تشريعي.
ح/ تعيين حكومة قومية انتقالية لحكم البلاد حتى يجري الاستفتاء والانتخابات العامة التي تحددها اتفاقية الحل السياسي الشامل عبر المؤتمر القومي الجامع.
وأخيراً، تفضل بقبول أطيب التمنيات
الصادق المهدي
رئيس حزب الأمة
شكل د قرنق ومستشاروه فريق عمل للرد على مذكرة المهدي لياتى رد قرنق على الرسالة شاملا لكل الاتهامات التي تحملها الحركة الشعبية ومؤيديها على حزب الأمة منذ الاستقلال وحتى لحظة صياغة تلك الرسالة وكانت صحيفة البيان قد نشرت سلسلة مقالات للدكتور منصور خالد مستشار رئيس الحركة تحت عنون الفتوق والرتوق حملت الكثير من معاني هذه الرسالة .
وتقول مصادر سياسية ان الدكتور قرنق جمع مستشاريه وابرزهم الدكتور منصور خالد وطلب منهم الرد على هذه الرسالة محددا نقاطها الجوهرية وهي الرسالة التي نشرت ايضا في الصحف و شكلت منصة هجوم حقيقية على حزب الأمة وقد حملت روحا عدائية بعكس روح النقد الموضوعي التي حملتها رسالة قيادة حزب الأمة وبالتأمل في هذه الرسالة يتبين القارئء الموقف النفسي السالب والروح غير الودية التي كانت تحملها الحركة إزاء قيادة حزب الأمة وإزاء دور الحزب وحراكه السياسي رغم الدور الذي لعبه الحزب في تقديم وإعادة تعريف الحركة الشعبية في المجالين العربي والإسلامي، وفي ترتيبه لأول زيارة لزعيم الحركة الشعبية إلى القاهرة بعد فتح قنوات التواصل بينه وبين القيادة المصرية.
في هذا السياق جاءت رسالة قرنق إلى المهدي تعبر تلك المشاعر السالبة بكل وضوح وخالية حتى من التحية التي يوجبها أدب الخلاف ومقتضيات الزعامة السياسية والأخلاقية ورغم ان الرسالة اعدها وصاغها شماليو الحركة إلا أن قرنق وأفق عليها ومهرها بتوقيعه وقد وجدت استحسانا في اوساط التجمع عند نشرها وهي تكشف في الواقع طبيعة المواقف والأجندات الخاصة لدى كثير من اطراف التجمع في تلك الفترة.
وجود السيد الصادق المهدي في ساحة العمل السياسي الخارجي وماناله من أضواء واهتمام سياسي بحكم وضعه شكل ازعاجا للدكتور جون قرنق وأركان حزبه ومستشاريه يشاطرهم في ذلك بعض قيادات الحزب الاتحادي رغم العلاقة الخاصة التي تربط بين المهدي وقرنق .
واستنادا على الكثير من التراكمات التي تشكلت بسبب الخلافات في أساليب العمل السياسي بين رئيس التجمع والأمين العام ورغم المساندة المادية والسياسية التي قدمها حزب الأمة فيما يشبه التحالف مع قرنق في مرحلة بناء التجمع وما لحقها ودور حزب الامة في انضمام الحركة للتجمع في اعلان اديس ابابا، ورغم دعمه وتمويله لكافة أنشطة المعارضة ماديا وسياسيا بقيادة مسؤول العمل الخارجي السيد مبارك المهدي لم تجد الحركة حرجا في قيادة معسكر من الخصوم السياسيين في مواجهة زعيم حزب الأمة وقد عكست رسالة الدكتور جون قرنق ردا على رسالة المهدي له كيف تنظر الحركة الشعبية وزعيمها حقيقة ليس إلى حزب الامة المعاصر وقيادته المعاصرة المتمثلة في السيد الصادق المهدي فقط بل إلى تاريخه منذ الثورة المهدية وحتى عهد الإنقاذ
رسالة الدكتور جون قرنق إلى الصادق المهدي
السيد الصادق المهدي
رئيس حزب الأمة، ورئيس الوزراء السابق
كان علي أن أدع عدم التصديق جانباً وأنا أقرأ خطابك بتاريخ 22 ديسمبر 1999م، والذي وزعته للرأي العام قبل أن أتسلمه أنا.. ومن الواضح أنك قصدت من هذا الخطاب أن تقدم عرضاً للجمهور، وطالما كان هذا هو قصدك، إذن فليكن كما تريد. لقد جاء خطابك متناقضاً ومرتبكاً، ومجافياً للحقائق، وحمل قدراً كبيراً من الادعاءات والمزاعم الكاذبة، وأعتقد أنك كنت تعرف أنني لا يمكن أن أترك مثل هذه الرسالة تمر دون رد، لقد سعيت إذن وعملت من أجل هذا الرد المستحق.
لقد استهللت رسالتك بأكاذيب صارخة عن دور حزبك، فقد قلت: «لقد اعترفت قيادة حزب الأمة منذ عام1964م بالعوامل السياسية والثقافية والاقتصادية في الأزمة السودانية التي عكستها الحرب الأهلية..» لقد كنت رئيساً للوزراء، مرتين منذ عام 1964م، ولم تتح الفرصة لأي زعيم سياسي أو حزب سوداني مرتين خلال تاريخنا الحديث لتصحيح الأوضاع في البلاد، وبددها، مثلما فعلت. وحقيقة، لو كان ما ذكرته صحيحاً، لما تورطت البلاد في حربين لعينتين.. إن الشعب السوداني لا يعاني من فقدان الذاكرة.. وهو يعرف حقائق التاريخ. وطالما اخترت أنت، عام1964م كبداية، إذن دعنا نراجع الحقائق بدءاً من تلك الفترة.. إن عام1964م معروف في تاريخ الحرب الأهلية في السودان باعتباره العام الذي حدثت فيه ثورة أكتوبر، ومؤتمر المائدة المستديرة حول ما يسمى بـ «مشكلة جنوب السودان» والنتائج التي تمخض عنها.. وإذا ما كانت هناك جهة واحدة تتحمل المسؤولية واللوم حول فشل وعدم تطبيق مقررات المؤتمر ـ بغض النظر عن قيمة تلك المقررات ـ فهي حزب الأمة.
إن نصيبك من المسؤولية ـ ياسيادة رئيس الوزراء السابق ـ ضخم وكبير، لأنك أنت من نظم ودبر مع حسن الترابي الدعوة الخطيرة، لأول مرة في تاريخ السودان الحديث لقيام دستور إسلامي في بلد متعدد الأديان والثقافات مثل السودان.. ومنذ ذلك الوقت انتكست مسيرة السياسة السودانية وانحدرت حتى وصلت إلى قاع الجحيم مع وصول سلطة الجبهة الإسلامية الفاشية عام1989م. إن الشعب السوداني يتوقع منكم الاعتذار والتكفير عن مسؤوليتكم في الكارثة التي نعيشها اليوم، بدلاً من الأكاذيب والدعاوى غير الصحيحة عن أن حزبكم ظل يعترف بالتعدد الثقافي والديني في السودان. أما ادعاءاتكم عن ان حزبكم ـ وطبعاً تحت قيادتكم ـ «ظل يقوم بمهمة صعبة في ريادة الأفكار الجديدة عن التنوع.. الخ». فهي ادعاءات زائفة، بقدر ما هي مغيظة. ومن حقنا أن نتساءل ونتعجب: من إذن المسؤول عن الأفكار القديمة؟.. إن ريادة الأفكار الجديدة هو وصف يصعب تماماً أن نطلقه على الرجل والحزب الذي ظلت دعوته الأساسية هي فرض الأسلمة والتعريب على جنوب السودان.. وفي هذا الخصوص دعني أذكرك بالمحاضرة التي القيتها في الخليج منذ فترة ليست بعيدة، والتي ذكرت فيها، وبلا خجل، وبالمفتوح، عن ضرورة تعريب وأسلمة جنوب السودان.. وقد تكررت هذه الأفكار في بحثك المعنون «مستقبل الإسلام والعروبة في السودان» والذي أشرت أنا إلى فقرات منه من صفحتي 114 ـ 115، في خطابي في كوكادام في 02 مارس 1986م، وقد استهللت خطابي ذاك بالطلب من ممثلي حزب الأمة أن لا يحبطوا من صراحتي.. نحن لم ننس كلماتنا في ذلك الوقت، ولن نفعل ذلك الآن. ودعنا أيضاً لا ننسى أن هؤلاء الذين ناصروا فكرة السودان الجديد، والتي تريد الآن أن تغتصب أبوتها وتنسبها لنفسك، قد حوكموا في الخرطوم من قبل حكومتك، عندما كنت رئيساً للوزراء، باعتبارهم طابوراً خامساً. فإذا كان الشعب السوداني يغفر، يجب الا نتوقع منه أن ينسى.. أن أرشيف الفترتين اللتين توليت فيهما رئاسة الوزراء متاحة للتاريخ، كما هو الحال بالنسبة لفترة المهدية، والكثير من السودانيين، خاصة الجنوبيين، لا يرغبون في تذكيرهم بهذه الفترات، وأكثر ما يثير أيضاً، إشارتك إلى دوركم في حل النزاعات بين قبائل التماس الجنوبية والشمالية. ودعني أذكر، يا سيادة رئيس الوزراء السابق ـ أنه لم يكن هناك عهد في تاريخ الحرب الأهلية في السودان شهد تصعيداً للنزاعات بين قبائل التماس لدرجة يصعب التحكم فيها، مثل ما حدث في عهدكم، وقد كانت تلك هي بداية المذابح المنظمة التي لم تتوقف. إن المليشيات القبلية، التي يطلق عليها الضحايا من الجنوبيين اسم«المرحلين»، هي من صناعة حكومتكم. وما فعلته الجبهة الإسلامية، وببساطة، هي أنها واصلت سياسة المليشيات القبلية الحكومية، التي بادرت بها حكومتكم، وسمّتها «القوات الصديقة». وفي نموذجكم للسودان فإن المواطنين يقسمون إلى قبائل صديقة، وأخرى غير صديقة.
إن الخلافات والنزاعات حول الماء والمراعي ليست شيئاً جديداً على قبائل التماس في بحر الغزال، دارفور، وكردفان، لكنها كانت دائماً ما يتم تسويتها عن طريق زعماء القبائل، ولم ينسق أهلنا على جانبي مناطق التماس إلى سياسة التطهير العرقي المريضة. إن حكومتكم هي التي حولت مليشيات أنيانيا «2» إلى مليشيات قبلية حكومية، ولا بد أن حكومة الجبهة الإسلامية قد درست أرشيف نظامكم جيداً قبل أن تصل إلى ما يسمى بـ «اتفاقية الخرطوم للسلام».
إن سجل الأعمال البشعة التي ارتكبتها حكومتكم يتضمن أيضاً اللامبالاة الواضحة تجاه مصير أبناء الدينكا الذين راحوا ضحية هذه السياسات الغادرة.. وعندما قرع اثنان من أساتذة الجامعة الوطنيين «د. عشاري أحمد محمود ود. سليمان بلدو» أجراس الإنذار حول مذبحة «الضعين» وبدلاً من التحقيق في هذه الاتهامات الخطيرة، اختارت حكومتكم أن تصوب ناحية حاملي الرسالة وأن تصفهم بأنهم طابور خامس.
وفي الحقيقة، فإن إعادة بعث الاسترقاق في مناطق التماس في بحر الغزال يمكن إرجاعه إلى عهد حكومتكم، وهي حقيقة تم توثيقها ببراعة عن طريق الأستاذين عشاري وبلدو وعدد من الشهود المحايدين. وبعد، هل لنا أن نفاجأ إذا توافق هذا الأمر مع خطكم؟
كذلك فقد أشرت إلى تعاونكم معنا من أجل السلام والديمقراطية وإعادة بناء السودان، ولاحترامك والتزامك بالاتفاقيات المتعلقة بهذا الأمر، ولكن وللأسف، فإن هذه أيضاً مقولة لا تستند إلى حقائق. فالتعاون بيننا لم يبدأ مع قيام التجمع الوطني الديمقراطي، بل له تاريخ طويل.. ومنعرج.
في عام1986م، التقينا في كوكادام، إثيوبيا، وكان حزبكم من أوائل الأحزاب التي وقعت على إعلان كوكادام الصادر عن الاجتماع، لكن سرعان ما تنصلتم من ذلك عندما أصبحت رئيساً للوزراء. وبعد عامين، وقعنا اتفاقاً مع الميرغني «مبادرة السلام السودانية بين الحزب الإتحادي الديمقراطي والحركة الشعبية عام1988م». وبرغم التأييد الشعبي الهائل للاتفاقية، كما عبر عن ذلك الاستقبال الكبير للميرغني في مطار الخرطوم بعد عودته من أديس أبابا، فإن أجهزة الإعلام الحكومية التي تقع تحت سيطرتكم، لم تجد في ذلك حدثاً يستحق التغطية وقد وفرت المناورات البارعة لحكومتكم في تعويق الاتفاقية الوقت للجبهة الإسلامية للتحضير لانقلابها وفي الحقيقة فإن ضم الجبهة لحكومتكم، وخطواتكم البطيئة نحو السلام، أعطى الجبهة الفرصة والوسيلة المناسبة لتنفيذ مخططها تحت الحصانة الكاملة. ورغم ذلك، ولإعطاء كل ذي حق حقه، فإن حزب الأمة قد لعب دوراً هاماً، مع الآخرين، في التوصل إلى مقررات أسمرا المرجعية في يونيو1995م. ولكن أن تنسب لنفسك ولحزبك الفضل في ضم الحركة الشعبية لتحرير السودان للتجمع، كما جاء في رسالتكم، فإن في ذلك تزويرًا وتشويهًا خطيرًا للتاريخ. إن كل الذين شاركوا في مؤتمر أسمرا 1995م يعرفون أن الحركة الشعبية كانت بمثابة الراعي والمنظم لذلك الاجتماع، والكل يعرف الدور الذي لعبته الحركة الشعبية من أجل إنجاح المؤتمر. كذلك فإن من الأشياء التي تُذهب العقل أن نقرأ في رسالتك عن فضلك وفضل حزبك على الحركة في ضمها للتجمع.. إن هذا سخف لا يمكن تفسيره أو تبريره. كذلك فقد نسبت لنفسك الفضل في«تقديم الحركة الشعبية للرأي العام العربي الذي كان يبادلها الشكوك». إن الدول العربية التي زرتها خلال مرحلتنا النضالية، هي مصر، ليبيا، واليمن، وليس لك أو لحزبك أي دور في ترتيب هذه الزيارات. وفي الحقيقة أنك لعبت دوراً سلبياً في هذا الخصوص. إن التكنولوجيا قد جعلت من الصعب إخفاء شيء في هذا العالم، فمعلوماتنا توضح أنك لعبت دوراً معاكساً لما تقوله، وأينما ذهبت في العالم العربي فإن التقارير تقول إنك تشن حملات على الحركة الشعبية، متى ما وجدت الفرصة. ولتوضيح الحقائق، فإن عدداً من المتعاطفين مع الحركة في العالم العربي كانوا يسألوننا أسئلة محرجة مثل: «ما هي المشكلة بينكم وبين رئيس الوزراء السابق؟».
السيد رئيس الوزراء السابق
منذ مؤتمر أسمرا 1995م، كان للحركة الشعبية وحزب الأمة علاقات عمل جيدة، داخل وخارج التجمع الوطني، لكن، ومنذ خروجك من السودان تغير المناخ داخل التجمع الوطني. لقد شعرنا برغبة في إعادة صياغة كل مواثيق ومؤسسات التجمع الوطني. وفي كثير من المرات حاولت جر التجمع لكي يبصم على مشروعك للمصالحة مع نظام الجبهة، وقد نجح التجمع في مقاومة وصد هذه المحاولات. وفي الحقيقة، وأسمح لي هنا أن أستعير صفحة من قاموسك، فإن أعداداً من السودانيين قد حذرونا من أنك قد جئت للتجمع كـ «طابور خامس» للجبهة الإسلامية، وقد أشارت اتفاقيات جنيف وجيبوتي وعلاقتك المتحسنة مع الجبهة، إلى وجود شيء من الحقيقة في هذه الأقاويل. ثم مضت رسالتك لتحدد النقاط التي حدث فيها تباين في وجهات النظر بيننا، ومن جانبي يمكن أن أضيف نقاطاً أخرى. أولى هذه النقاط التي أشرت إليها كانت عملية السلام في إطار الإيقاد، والتي تريد توسيعها لتشمل القضايا التي لم تعالجها. وفي الحقيقة أن ما لم تشمله مبادرة الإيقاد ليس «قضايا» ولكن «أطراف»، وهي إشراك التجمع الوطني الديمقراطي في مبادرة الإيقاد، وإشراك مصر كدولة لها مصالح مشروعة واهتمام بالسودان.. وفيما يختص بالموضوع الأول فقد اتخذت هيئة قيادة التجمع الوطني الديمقراطي قراراً واضحاً يطالب بإشراك التجمع في مفاوضات الإيقاد «مارس1998م». وقد وقعت الحركة على ذلك القرار، لكنها ذكّرت الجميع، وبلا استثناء، بأن قرار ضم التجمع إلى مفاوضات الإيقاد من اختصاص ثلاثة أطراف، هي طرفا التفاوض: الحكومة والحركة الشعبية، والوسطاء. لذلك فإن من الظلم اتهام الحركة الشعبية بعدم التعاطف مع ضم التجمع لمفاوضات الإيقاد، فقرار هيئة القيادة يوضح ويحسم موقف الحركة بشكل واضح. ونحن من جانبنا واثقون من موقف الوسطاء من موضوع ضم التجمع للمفاوضات، ولكننا غير واثقين من موقف حلفائك الجدد في الخرطوم الذين ما زالوا حتى الآن يلوذون بالصمت حول هذا الموضوع. وقد حدث فعلاً تردد، وأثيرت بعض المخاوف من قبل بعض أعضائنا من خطر ضم بعض أطراف التجمع لمبادرة الإيقاد، من أن ذلك قد يؤدي لتعطيل بعض نقاط إعلان مبادئ الإيقاد، خاصة البند المتعلق بالعلاقة بين الدين الدولة. وقد اتضح بعد اتفاق جيبوتي أن تلك المخاوف لم تكن بغير أساس، فقد عمد الاتفاق إلى محاولة طمس بنود إعلان المبادئ، وهو الهدف الذي قاتلت من أجله الجبهة الإسلامية بضراوة. أن اتفاق جيبوتي هو دمج غير شرعي بين إعلان مبادئ الإيقاد، ومقررات أسمرا، الخطاب المتناقض الذي اعتادت عليه الجبهة الإسلامية. أما فيما يتعلق بضم مصر إلى مفاوضات الإيقاد، فقد جاهدت الحركة الشعبية، وبالتشاور مع مصر، من أجل ضم مصر إلى منبر شركاء الإيقاد. كما أنك ادّعيت أن الحركة قد غيرت موقفها من المبادرة المصرية ـ الليبية المشتركة. إن هذا ليس مجرد سوء فهم لموقفنا، لكنه تشويه له. إن موقفنا كان واضحاً دائماً، وقد أوضحناه في طرابلس عندما أيدنا المبادرة، ويمكن تلخيصه في ثلاث نقاط.
ـ عدم جواز وجود مبادرتين في وقت واحد، لهذا فمن الضروري إيجاد صلة بين المبادرة المشتركة ومبادرة الإيقاد، أو التنسيق بينهما، لحرمان نظام الجبهة من عادته في التسويف عن طريق استغلال تعدد المبادرات.
ـ ضرورة أن يستجيب النظام لمطالب تهيئة المناخ للحوار، بما في ذلك إلغاء قانون التوالي ورفع الحظر عن الأحزاب السياسية.
ـ أن يكون للتجمع الوطني موقف تفاوضي موحد قبل الخوض في المفاوضات مع نظام الجبهة، وأن يتم مناقشة موضوع الوقف الشامل لإطلاق النار في إطار الحل الشامل. إن كلاً من مصر وليبيا، اللذين لدينا معهما قنوات اتصال مفتوحة، على علم كامل بموقفنا. وقد ذهبت إلى القاهرة وطرابلس لشرح موقف الحركة، كما عقدت مؤتمراً صحفياً في القاهرة شرحت فيه هذا الموقف بلا أي لبس. لذلك فنحن لا نرى في نقلك وتفسيرك الشائه لموقفنا إلا محاولة لتعكير المياه بيننا وبين هذين البلدين. ولحسن الحظ فإن لهذين البلدين تاريخًا طويلاً، وهم ينظرون للمواقف بعين فاحصة، على عكس ما يفترض بعض الساسة السودانيين. وقد اتجهت رسالتك إلى جانب آخر محاولة تشويهه، وهو الوضع على الساحة الدولية: شبح الحل الدولي المفروض من فوق رؤوس السودانيين، وادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان. وقد أشرت إلى مناقشاتك مع «لاعبين مهمين» في المجتمع الدولي قادتك دون شك إلى أن الحركة الشعبية والحكومة السودانية مسؤوليتان عن إطالة أمد الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان.
يا سيادة رئيس الوزراء السابق
نحن نعيش في عالم شفاف لا تخفى فيه الحقائق، ولا يمكن تمرير عبارات مثل هذه علينا، فنحن أيضاً لدينا اتصالات مع «لاعبين مهمين» في المجتمع الدولي. أنا لا أعتقد بوجود أي خطر لتدخل عسكري أجنبي في السودان إن نظريتك حول احتمال فرض حلول دولية على السودانيين هي نظرية مضللة قصدت بها خداع الغافلين، ومحاولة غير أخلاقية لتعبئة الشمال، وما يجاوره، على أسس عنصرية دينية، ولعل هذا يعتبر من أسباب تمريرك لقضية تدويل الأزمة السودانية في إعلان طرابلس وهو الأمر الذي أثرته معك، وقلت لك إنه قضية مفتعلة ستتسبب في بذر الشقاق والخلاف داخل التجمع الوطني، وقد اعتذرت أنت عن ذلك.
ورغم هذا، فإني أود أن أؤكد للجميع، وبلا استثناء، أن الحركة الشعبية تنظيم ناضج يحتكم ويلتزم بمبادئه، وهو أمر يعرفه الشعب السوداني.. ولعدة سنوات ظل موقفنا ثابتاً في رفض الدعوات التي جاءتنا من هؤلاء «اللاعبين المهمين» للقبول بوقف شامل لإطلاق النار قبل التوصل إلى حل سياسي شامل.. كما أننا لم نطلب أبداً من الآخرين أن يحاربوا معركتنا نيابة عنا.
إن مما يُذهب العقل أن تأتي الاتهامات بتدويل الحرب في السودان، من نفس الرجل الذي كان يبحث عن تدخل دولي من الأمم المتحدة يعيده إلى السلطة بمثلما حدث مع إريستيد في هاييتي. كما أن «مناحتك» التي أقمتها عن إطالة أمد الحرب تظل بلا معنى.. لقد كان من الممكن أن ينعم السودان بالسلام منذ عام 1986م لولا مراوغتك في تطبيق إعلان كوكادام في عام 1986م، ثم اتفاقية السلام السودانية في عام 1988م، دع عنك حوار الساعات التسع الذي دار بيننا في عام 1986م.
ونجيء إلى إتهاماتك ومساءلاتك المدهشة لسجل الحركة الشعبية في مجال حقوق الإنسان، والأسوأ من ذلك هو مقارنتك لها مع السياسات المؤسسية للجبهة الإسلامية في هذا المجال. وقد أسميتها «مدهشة» لأنك آخر شخص يمكن أن يعطينا محاضرات عن انتهاكات حقوق الإنسان، ومن يعيش في بيت من زجاج عليه ألا يقذف الآخرين بالحجارة.. وبالرغم من عدم أهمية ملاحظاتك، وعدم ملاءمتها للخط العام لرسالتك، فسنرد عليها ومرة أخرى، قد سعيت من أجل إثارة هذا الموضوع وللحصول على رد عليه.. ولك ما تريد.
إن الحركة الشعبية/ الجيش الشعبي لتحرير السودان، كما تعلم، ليست حكومة ملزمة بالمواثيق والاتفاقيات الدولية المعروفة، إنها حركة تحرير تخوض حرباً من أجل قضية عادلة، لكنها رغم هذا تلتزم بقوانين الحرب الدولية المعروفة، وبالتعامل الحسن مع المدنيين الأبرياء، ومع أسرى الحرب.. وفي هذا المجال فإن سجلنا عبارة عن كتاب مفتوح للجميع، خاصة هؤلاء الذين يعملون في محيطنا.
إن هناك أكثر من «40» منظمة طوعية تعمل في المناطق المحررة، وهؤلاء هم أقدر الناس على الحكم على سجلنا في مجال حقوق الإنسان، وليس أولئك الذين يقررون من أماكن قصية في العالم. لقد بنيت اتهاماتك على أقاويل، وتقارير صحفية، وتقارير لمنظمات حقوق الإنسان الدولية، معظمها مبني على الأقاويل، وتعتمد على مصادر ثانوية مشكوك فيها، كذلك يجب أن أن تعلم أن الحركة الشعبية تعتمد على التأييد والدعم الذي تلقاه من المجتمع المحلي، ومع هذا، وبحكم الطبيعة البشرية، فإن بعض التجاوزات تحدث من المقاتلين، وعندما يتم ضبط مثل هذه التجاوزات فإن مرتكبيها يحالون للمحاكمة طبقاً للقوانين. وفي أثناء الحرب، وأنت أكثر من يعلم ذلك، فقد احتفظنا بالآلاف من الأسرى العسكريين، رغم ما يكلفنا ذلك من مشقة وجهد.. وقد توافقنا أن الانفعالات الإنسانية أكثر ما تكون في قمة فورانها، أثناء الحرب، وبالتالي فإنه أفضل وقت للحكم فيه على مدى احترام حقوق الإنسان هو أثناء الحرب. ولقد غرسنا في جنودنا مبادئ الجيش الشعبي لتحرير السودان التي تقول «إن هدف القتال ليس قتل جندي العدو، ولكن تجريده من القدرة على القتال».. و«إن قتل جندي العدو غير المسلح، أو بعد تجريده من السلاح تعد جريمة».. وقد وقع في أسرنا أعداد كبيرة من الجنود كانوا تحت قيادتك عندما كنت رئيساً للوزراء.. فهل لي أن أسألك كم من جنود الجيش الشعبي أسرهم الجيش واحتفظ بهم عندما كنت رئيساً للوزراء؟
إن التاريخ يقول إنه وبالنسبة لجيشك، فإن أفضل مقاتل جنوبي، حتى إذا كان مجرداً من السلاح، هو الجندي الميت. وعندما كنت رئيساً للوزراء، أعلن رئيس هيئة الأركان اللواء عبدالعظيم صديق «أن الجيش قد أسر «27» من مقاتلي الجيش الشعبي، ولكن تم قتلهم جميعاً لإراحتهم من الألم الذي كانوا يعيشون فيه». إن مثل هذا السلوك يذكر الجنوبيين بفترة المهدية، عندما تم إبادة قبائل جنوبية بكاملها. وطالما أنك نسيت، وصارت لديك الجرأة لدرجة أنك نصبت نفسك قيماً على حقوق الإنسان، فدعنا نذكرك بمذابح جوبا، واو بور التي وقعت في الستينيات، عندما كنت رئيساً للوزراء.
إن هذه الأحداث المؤسفة تعيد للذهن ذكريات مؤلمة أخرى. إن اللامبالاة وعدم إظهار ـ الأسف على مصير مواطنين سودانيين مثلك شمل حتى أقرب حلفائك من الساسة الجنوبيين. إن قصة وليام دينق ستبقى دائماً محفورة في نفوسنا وذاكرتنا.. ولا شيء سيمحوها. إن وليام دينق الذي يفترض أنه حليفك المقرب قُتل ببشاعة بواسطة الجيش عندما كان حزبك في الحكم.. فماذا فعلت في ذلك..؟ إن جهودك المتواصلة النشطة من أجل تقديم قتلة عمك الإمام الهادي أثناء حكم نميري، للمحاكمة، تعطينا صورة أخرى: أنه وفي رؤيتك للسودان فإن المواطنين ينقسمون إلى درجات، ولهذا، وحتى هذه اللحظة فإن قتلة وليام دينق لم يتم تقديمهم للمحاكمة رغم أنك أصبحت في قيادة الحكومة مرتين، ورغم أنك تعرف هؤلاء القتلة جيداً يا سيادة رئيس الوزراء. ولا أستطيع أن أختتم هذه الفقرة في موضوع حقوق الإنسان، الذي فتحته أنت، دون أن أشير إلى«حادثة» بور التي حدثت في الستينيات عندما كنت رئيساً للوزراء لقد ذهبت إلى بور.. وبكيت بحرقة على قبر أحد ضباط الجيش الذين قُتلوا في معركة مع حركة «أنيانيا». ويروى أنك، بطريقة أو بأخرى، أمرت الجيش بالانتقام لمقتل ذلك الضابط.. ولم يكن غريباً بعد رحيلك للخرطوم مباشرة، أن يدبر الجيش وبأعصاب باردة مذبحة يقتل فيها «30» من زعماء وسلاطين القبائل، كان من بينهم السلطان أجانق دوت. وبعض أبناء هؤلاء الزعماء هم قادة الآن في الجيش الشعبي لتحرير السودان وهم قد يغفرون، لكن لا تتوقع منهم أن ينسوا، ومن قبيل تفتيح الجروح وزيادة الآلام أن تأتي أنت، لتحاضرهم عن حقوق الإنسان.
يا سيادة رئيس الوزراء السابق
في أثناء مداولات المؤتمر الإفريقي الجامع الذي عُقد بكمبالا عام1994م، قدم عدد من الأفارقة الذين يعيشون في أمريكا اقتراحاً بمطالبة تجار الرقيق الغربيين بتقديم تعويضات عن عملهم ذاك. وقد دار حوار مثمر ورفيع حول هذا الأمر، لكن في النهاية تمت إجازة الاقتراح الذي يطلب من أبناء تجار الرقيق تقديم هذه التعويضات. وفي حالة السودان، فقد قدم محمد إبراهيم نقد كتابه الموثق عن الرق في السودان في فترة المهدية.. ولن يكون مفاجئاً أن يتقدم بعض أبناء الجنوب بطلب تعويضات من عائلة المهدي عن تجارة الرق التي تمت في عهدهم.. وربما يجب التذكير بأن بعضاً من ثورة آل المهدي الحالية كان عائدها من تجارة الرق، ويمكن توثيق ذلك من كتاب نقد.
إننا نتوقع منك اعتذاراً وتكفيراً عن هذا الأمر في إطار أي مصالحة وطنية حقيقية، بدلاً من هذا النوع من المحاضرات عن حقوق الإنسان التي لا تفعل شيئاً سوى استثارة الذكريات المؤلمة. إن عدم ملاءمتك للحديث عن حقوق الإنسان ليس محصوراً بالانتهاكات أثناء الحرب، سواء كان هذا في الستينيات أو في الثمانينيات، ولكن يشمل أيضاً سجلك في مجال الديمقراطية الحافل بالكثير الذي يجب ذكره. ألم تكن أنت وحزبك وراء إبعاد أعضاء منتخبين من البرلمان، وحظر حزب سياسي شرعي، ووراء استحداث مادة الردة في مشروع الدستور، نفس التهمة التي أُدين بها شيخ الرابعة والسبعين من عمره وهو محمود محمد طه وأعدم في عهد النميري؟
إذن بأي حق تعطينا محاضرات عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وماضيك وحاضرك ملطخان بالانتهاكات الفاضحة والقاسية.. مع غطرسة وتكبر.إن مشكلتك أنك تظن أن الماضي خارج الحسابات، وأن الحاضر وحده هو الذي يحاسب عليه، بينما المستقبل متروك للأقدار.
لقد زعمت في رسالتك أن الحركة الشعبية «احتفظت دائماً بمسافة تنظيمية وسياسية بينها وبين التجمع».. وأنها «كانت في التجمع.. ولم تكن فيه».. إن هذا أيضاً تشويه للواقع وللحقائق.إن هؤلاء الذين حضروا مؤتمر أسمرا 1995م يشهدون على التضحيات التي قدمتها الحركة من أجل التكيف مع التجمع وجعله يعمل، ولعل هذا يفسر التمثيل البسيط الذي قبلت به الحركة في هيئة قيادة التجمع وفي مكتبه التنفيذي.. وكان يجب عليك أن تقدر هذه الشهامة التي أبدتها وأظهرتها قيادة الحركة في مؤتمر أسمرا، بدلاً من مهاجمتها.
كذلك فقد أشرت إلى اقتراحاتك لتعديل هيكل التجمع والتي لاقت رفضاً واسعاً من الجميع، إنني أود أن أؤكد للجميع وبلا استثناء التزام الحركة الصارم تجاه التجمع الوطني الديمقراطي، سواء في الميدان العسكري أو السياسي. وفي المجال العسكري، كما تعلم، فإن الحركة هي القوة الأكبر، وهذه تضحية ما بعدها تضحية.إن هذا لم يحدث عبر نداء فارغ للهجرة لم يجد آذاناً صاغية، ولكن عبر خطة علمية مستمرة وعبر التزام وقيادة واعية. لكن ربما تعتقد أن المجال السياسي هو الأهم، وربما تمضي في قولك بأن حزبك هو صاحب الشعبية الأكبر في السودان.. لكني أتحدى هذا الزعم: فهل صحيح أن حزبك هو صاحب الأغلبية في السودان؟ إن الحركة الشعبية لم تدخل في أي انتخابات مع حزب الأمة، وبالتالي توجد هناك مقاييس موضوعية للمقارنة في هذا المجال، لأن مسألة «الشعبية» هنا مسألة نسبية، كما أن مسألة الشعبية الأكبر هذه، لم تنعكس في التجمع الوطني الديمقراطي. فقبل مغادرتك الخرطوم للانضمام للتجمع الوطني الديمقراطي في عام «1996م»، كان التبرير الذي يقال لنا عن ضعف حجم عملية التجنيد في حزب الأمة هو وجودك في رهينة لدى نظام الخرطوم. وعندما خرجت أخيراً من السودان ووجهت نداء الهجرة لأنصارك ليلحقوا بك، لم تحدث أي زيادة تذكر في حجم التجنيد. كما تعلم فأنا رئيس القيادة الموحدة لقوات التجمع الوطني الديمقراطي، والواقع يقول إن لواء السودان الجديد يضم بين صفوفه أعداداً من أبناء شمال السودان يفوق حجم كل قوات حزب الأمة، هذا بدون أن نذكر الجنوبيين، والذين أفترض أنهم سودانيون أيضاً.
لهذا فأنا لا أرى أي بُعد موضوعي لزعمك بأن حزبك هو الأكبر في السودان. وإذا كان الشماليون الموجودون في لواء السودان الجديد قد قدموا أرواحهم ودماءهم طواعية فداءاً لقضية الحركة الشعبية، فلماذا لن يقدموا لها أصواتهم في أي انتخابات حرة في السودان.
إن زعمك بأن حزبك هو حزب الأغلبية في السودان، إذن ليس إلا تشويهًا جديدًا للواقع ووهم لا تسنده الحقائق.
يا سيادة رئيس الوزراء السابق
إن وصفك لزملائك في التجمع الوطني الديمقراطي بأنهم «حطب يابس» يعني أكثر من مجرد التباين في وجهات النظر.. إن الذين تسميهم بـ «الحطب اليابس» هم نفس القوى التي نأمل في مشاركتها مهام الفترة الانتقالية في السودان، إلا إذا كنت تعتقد أن مصير السودان أن يحكمه حزب واحد، بل رجل واحد. إن هذا أمر يتعذر إقناعنا به، وهو الذي يجعلنا نقبل أن نتعايش ونتعاون مع جميع السياسيين، حتى مع أصحاب الأوزان الميتة تاريخياً. إن الفشل في التعايش والتكيف مع وجهات نظر الآخرين، بغض النظر عن مدى اختلافهم معنا، لا تنبئ السودان الجديد بأي خير. وباعتبارك الرجل الذي يصور نفسه الآب الروحي ورسول الديمقراطية للسودان، فمن المفترض أن تكون أكثر الناس تقديراً للديمقراطية لأنها هي القوة الحاسمة القادرة على إعطاء كل شخص حجمه الطبيعي. وبالنسبة إلينا نحن الذين ولدنا كأناس عاديين، ليست لدينا أي مشكلة في التعامل مع هذه الحقيقة.
لكن ربما كانت المشكلة مع هؤلاء الذين يعتقدون أن السماء وسمتهم بقدرات خارقة فوق طاقة البشر، تضعهم فوق بقية البشر.. هؤلاء سيفشلون دائماً في التعامل مع أي مناخ ديمقراطي، وخاصة إذا كان مثل ديمقراطيتنا التي يزينها التنوع والتعدد في مستويات مختلفة. لقد دهشت وأنا أقرأ في رسالتك إن لقاء جيبوتي كان من المخطط له أن يكون لقاء ً«عادياً» لكنه تحول إلى شيء آخر. إنها مرة أخرى قدراتك الجلية في أن تنجز في ثلاث ساعات ما عجزنا نحن عن إنجازه خلال عشر سنوات من التفاوض مع الجبهة الإسلامية.. ويا للحسرة، فإنه لا زملاءك في التجمع الوطني الديمقراطي «اجتماع كمبالا» ولا تجمع الداخل لم يشاركوك البهجة في اتفاق جيبوتي.. كما لم تكن أنت مبتهجاً برد فعلهم، وهذا ما أشرت إليه بـ«الحشد المصطنع» في القاهرة.. وبحسبما أعلم فإن حشد القاهرة هذا قد تم بمشاركة كل أحزاب التجمع الوطني. كما أن الموقف الذي اتخذه اجتماع القاهرة قد تم تأكيده في الاجتماع الذي عقدته هيئة القيادة في كمبالا، والذي تعرض فيه حزب الأمة لنقد شديد بسبب عثرة جيبوتي. وبالتأكيد فإن اجتماع كمبالا لم يكن، وبأي معنى، حشداً مصطنعاً، وربما لم يخبرك أحد بأن أحد الأسباب التي يقدمها السودانيون للبطء في التحرك الشعبي «الانتفاضة» لإزالة نظام الجبهة هو خوفهم من أن تؤدي لإعادة بعض أصحاب «الأوزان الميتة» للسلطة.. كما أن كثيرًا من السودانيين يلوموننا على قبولنا لبعض المسؤولين تاريخياً عن الأزمة، كأعضاء في التجمع. وقد أشرت في رسالتك لزيارتي لواشنطن، واستخلصت منها ما يناسب حملتك الدعائية، وألمحت إلى أن الحركة الشعبية تعمل لحساب واشنطن. هذا بالطبع افتراءات وإدعاءات خبيثة تريد أن تشوه بها صورة الحركة لدى بعض الدوائر التي تعرفها.
والمدهش أنك لم تجد غضاضة في أن تسلم الحكومة الأمريكية نسخة من الرسالة التي بعثت بها إليّ أليست هذه هي نفس واشنطن التي تحاول إبعاد نفسك منها واتهامنا بممالاتها؟
يا سيادة رئيس الوزراء السابق
إن الشعب السوداني يعرف تاريخ وسجل الحركة الشعبية كحركة وطنية مستقلة تقف ضد المظالم والتحيزات. لقد ظلت الحركة الشعبية ثابتة عند مواقفها السياسية حول كل القضايا: شروط الوحدة، العلاقة بين الدين والدولة، واحترام التنوع والتعدد في السودان.. وهكذا سواء في واشنطن، أو القاهرة أو طرابلس، أو أي مكان آخر فنحن متمسكون بمواقفنا المبدئية. وإذا ما اتفقت معنا واشنطن، أو أي عاصمة أخرى، في مواقفنا، فإن هذا مما نرحِّب به. ثم مضيت في اتهام الحركة الشعبية بمعارضة مشاركة التجمع الوطني في مفاوضات الإيقاد، وبتكرارها للاقتراحات المرفوضة التي قدمها المبعوث الأمريكي هاري جونستون، وكلا الاتهامين باطلان وظالمان. إن الحركة الشعبية تؤيد قرار التجمع الوطني في مارس 1998م بهذا الشأن، وقد أكدت بوضوح موقفها هذا في اجتماع كمبالا ورحبت بمشاركة التجمع في الإيقاد. ولكن بقيت إشكاليات طريقة المشاركة، وموقف الوسطاء وحكومة الجبهة. أما فيما يتعلق بالإجراءات التي اقترحتها لضم التجمع الوطني للجنة الفنية لوفد الحركة، فقد قصد به أن يكون إجراءاً انتقالياً حتى تقرر الأطراف المعنية مسألة مشاركة التجمع الوطني الكاملة في المفاوضات. ولقد كنا نتوقع أن تلاقي خطوتنا هذه المباركة والثناء، وليس اللوم، لأننا قصدنا به إيجاد وسيلة سريعة لإشراك التجمع في المفاوضات.. ولقد عقدت جولة مفاوضات واحدة بعد اجتماع كمبالا، ولو كانت دعوتنا تلك قد وجدت الاستجابة، لكان قد تم تأكيد مشاركة التجمع في المفاوضات، واختبار جدية أصدقائك الجدد في الخرطوم في قبول مشاركة التجمع.
أما فيما يتعلق بالتباين في وجهات النظر بين واشنطن والعواصم الأخرى حول مبادرات السلام، فإن هذا أمر لا علاقة للحركة به. وإن موقفنا حول المبادرة المصرية الليبية المشتركة واضح جداً، ولكنك حاولت أن تكسب بعض النقاط من خلال تعبئة هذه الدول ضدنا. إننا نرحب، وبحرارة، بالمبادرة المصرية الليبية المشتركة على أساس النقاط التي ذكرناها سابقاً، والتي تتوافق مع إعلان طرابلس ومع مصلحة وحدة بلادنا.. السودان الجديد. ولضمان المشاركة المصرية الليبية، فقد اقترحنا تكوين «منبر شركاء الإيقاد الأفارقة» والذي سيضم مصر وليبيا، إلى جانب سبع دول إفريقية أخرى.. فبحق السماء: ماهي العلاقة بين موقف الحركة الشعبية، واقتراحات وفد هاري جونستون، والتي قلت إننا كررناها في كمبالا؟. والغريب أنك أنت شخصياً استعرت شيئاً من اقتراحنا حول منبر شركاء الإيقاد الأفارقة، عندما اقترحت لـ «مؤتمرك الجامع» آلية وساطة سمّيتها «2 + 5» تضم جيراننا من الشمال الإفريقي والقرن الإفريقي، بمساندة منبر شركاء الإيقاد.
لقد وصفت خطابي في كمبالا بأنه كان قاسياً وحاداً وظالماً. وفي الحقيقة أنه كان حاداً في موضوعيته. لقد استهللت خطابي ذاك بمقولة للدكتور فرانسيس دينق يقول فيها «إن الذي يفرق في السودان، هو المسكوت عنه». أنا اؤمن فعلاً بأن الوقت قد حان للتوقف عن دفن رؤوسنا في الرمال، وإخفاء خلافاتنا تحت الغطاء، نحن مدينون للشعب السوداني بأن نقول الحقيقة، وأن نتوقف عن تغطية الأخطاء بجدار مزيّف. لقد أثبتت رسالتك أننا كنا على حق، عندما ألمحت إلى أنك وحزبك فوق المساءلة لأنكم تمثلون الأغلبية في السودان. كذلك فقد زعمت عجبًا عندما قلت بأن حزبك «كان له الدور الأكبر بين الأحزاب الشمالية في إيجاد السياسات الجديدة التي تستجيب لقضايا المجموعات السودانية المهمشة». إن هذه فعلاً مقولات ضخمة تكشف كل البلاء الموجود في السودان القديم: الاعتقاد عند بعض الساسة أن لهم حقاً تاريخياً وأبدياً في ملكية السودان، إن لم يكن حقاً سماوياً مقدساً. لكن على كل حال.. شكراً لك على المدخل. وحقيقة، طالما كانت هنالك قوى مهمشة، فلا بد من وجود قوى مهمشة. وواحد من المهمشين هو شخصكم، وقد قمتم بتعريف أنفسكم عبر مقولة أنكم كنتم صاحب الدور الكبير في قضايا المجموعات المهمشة. هل أحتاج إلى مزيد من القول؟!.وصفت رسالتكم اللغة التي استخدمتها في خطابي في كمبالا بأنها تبنت «اللغة السياسية لبعض المثقفين الشماليين الذي فقدوا مواقعهم والذين يرغبون في دفع الحركة الشعبية لتخوض بالنيابة عنهم معاركهم الخاسرة إن الحركة الشعبية ـ يا سيادة رئيس الوزراء السابق ـ ليست معروضة في سوق الرقيق أو سوق المواشي، وأنت أول من يعلم ذلك..
كم مرة رفضنا دعواتك لتكوين تحالف ثنائي بيننا يستبعد الآخرين؟ وبالرغم من أني لا أعرف هؤلاء الأفراد أصحاب القضايا الخاسرة، لكني أعرف جيداً إن لا أحد يمكن أن يستخدم الحركة الشعبية لتخوض له معاركه، خاسرة كانت أم غير خاسرة. إن هذا جزء أساسي من المشكلة، فبعض القوى السياسية لديها قدر من الوقاحة لتفكر أنها يمكن أن تشق طريقها نحو السلطة مستخدمة الآخرين في ذلك. كما أن هناك تلميحات فاسدة في اتهاماتك هذي، وهي أن الشماليين في الحركة الشعبية هم الذين يتولون التفكير والتنظير وهم بالتالي يضللون الحركة.. إن هذه الأفكار المضللة ليست جديدة، كما أنها ليست محصورة فيك وحدك. إنها فكرة منتشرة عند بعض القوى السياسية الشمالية التي فشلت محاولاتها في استخدام الحركة الشعبية كوسيلة للوصول للسلطة.. فما هي الحقيقة في هذا الادعاء؟ لقد أسست الحركة الشعبية لرؤيتها للسودان الجديد في ما منفستو الحركة الذي أعلن في يوليو1983م، وفي ذلك الوقت لم يكن هناك شمالي واحد عضو في الحركة الشعبية. إذن فإن رؤية الحركة الشعبية «والتي تم تحديدها بدون وجود أي شمالي فيها» هي التي جذبت الشماليين لعضوية الحركة. إنه تشويه فظيع لحقائق التاريخ، إن لم يكن شوفينية متعصبة، أن يفكر أي شخص أن الشماليين في الحركة الشعبية هم الذين يتولون التفكير والتنظير.
أخيراً: وبالإشارة إلى ما سمّيته سعيك الاستراتيجي «نحو السلام العادل، الديمقراطية، الاستقرار الإقليمي، واستعادة مكانة السودان بين الأمم» إن هذه عبارات خطابية جوفاء كما تدلنا على ذلك حقائق الواقع البائس، والتي عددناها سابقاً. إن السودان الجديد الذي ينعم بالسلام والديمقراطية واحترام المجتمع الدولي لا يمكن ولادته على أيدي هؤلاء الذين يركزون جل همهم على تعبئة الخمر القديمة في قنانٍ جديدة، مهما كان جمال هذه القناني. إن المؤشرات تدل على أن مشروعك للحل السياسي الشامل هو صيغة مموهة للمصالحة مع نظام الجبهة الإسلامية، وإستسلام له، بخلاف مصالحتك مع نظام نميري في عام1977م. لقد حذرتك في خطابي في اجتماع هيئة القيادة بأسمرا في يونيو1999م من هذا المشروع البائس، وكانت نصيحتي لك أن من الأفضل أن تبقى أنت وحزب الأمة داخل التجمع الوطني الديمقراطي بدلاً من الالتحاق بسفينة الجبهة الإسلامية الغارقة.. لقد اكتفى اجتماع كمبالا بتوجيه النقد لحزب الأمة، وكما تعلم فإننا لم نضغط من أجل استبعاد حزب الأمة من التجمع، ولا يزال هذا هو موقفنا.
في الختام، أشرت إلى قلقك ومخاوفك من المتغيرات الإقليمية والدولية، ونحن في بحثنا عن السلام والعدل والمساواة منذ عام1983م، لم نحد أبداً عن أهدافنا المبدئية، على الرغم من رمال السياسة الإقليمية والدولية المتحركة. نحن نناضل من أجل العدالة، المساواة لكل القوميات والثقافات، ومن أجل إتاحة فرص متكافئة وأرضية سياسية ممهدة للجميع، بغض النظر عن الدين، العرق، أو الجنس. وفي ظل مثل هذه الأوضاع فقط تتحقق الوحدة ويصبح السودان الجديد ممكناً، ولن يكون للديمقراطية معنى إلا في ظل السودان الجديد. إن هذه قيمة أساسية ثابتة وغير خاضعة للمتغيرات الإقليمية والدولية. وعلى كل، فإن تعبيراتك المبتهجة بالمتغيرات التي حدثت لصالح الجبهة الإسلامية تكشف أشياء كثيرة. ومن وجهة نظرنا، فإن العائد من التمسك بالمبادئ الأساسية أهم بكثير من العائد من ما سميته «تقلص مساحة العناد عند الجبهة الإسلامية». إن للحركة الشعبية سجلاً حافلاً في البحث عن السلام. ومنذ أيام نميري تحادثنا مع كل الحكومات في الخرطوم، بما في ذلك حكومتك وحكومة الجبهة الإسلامية، ولهذا فليس بمقدور أحد أن يتهمنا بأننا استئصاليون، وهذه واحدة من العبارات الطنانة التي بدأت تسود في خطابك مؤخراً، مع كلمة «تدويل المشكلة». وقد عقدنا مع الجبهة الإسلامية وحدها أكثر من عشر جولات تفاوضية مختلفة. لهذا، فنحن نعرف، أكثر من الآخرين، طبيعة هذا الوحش، وبالتأكيد لسنا علي استعداد لقبول افتراضاتك المثيرة للسخرية، خاصة عندما يتعلق بالصورة الخداعة لنظام الجبهة «المعدل» التي يروج لها بعض اللاهثين من أجل استعادة سلطة وهمية.
وأخيراً تقبل تحياتي
جون قرنق دي مابيور
31/يناير/2000 م ياي
كوش الجديدة ـ السودان
كشفت هذه الرسائل التي ساهم في صياغتها شماليو الحركة من مستشاري قرنق بوضوح عن بعد المسافة الفكرية والسياسية والنفسية بين الحركة الشعبية وتوجهاتها وبين حزب الأمة وتوجهاته السياسية ورؤيته لمستقبل البلاد .ورغم وجود ميل لدى بعض قيادات حزب الأمة نحو الحركة الشعبية إلا أن قراءة السيد الصادق المهدي لتوجهات وخطط الحركة الشعبية كانت هي الأقرب للصواب خاصة بعد أن تركت الحركة الشعبية حلفائها في قارعة الطريق ومضت في صفقتها مع حكومة الانقاذ التي ذهبت بالجنوب إلى غير رجعة .
زعماء بين السياسة والقداسة
شهدت تلك الفترة شحنا سياسيا بين اطراف التجمع الوطني وقد جاء ذلك الوضع نتيجة للخلط بين ما هو سياسي وما هو مرتبط بالزعامة الدينية والطائفية وكان ابلغ تعبير عن تلك الحالة ما شهدته اروقة التجمع الوطني من تجاذب بين رئيس التجمع التي يفترض ان رئاسته كانت رئاسة رمزية ليست لها صلاحيات تنفيذية وبين الأمين العام للتجمع الذي اوكل لأمانته تنفيذ برامج التجمع الوطني بمقتضى ما تم الاتفاق عليه في اسمرا عام خمسة وتسعين.
وقد عززت خلافات بعض فصائل المعارضة وعلى رأسها الحزب الاتحادي والحركة الشعبية الحزب الشيوعي مع حزب الأمة من ارتفاع وتيرة ذلك التجاذب حيث رأت تلك الفصائل تقليص نشاط الأمين العام بانتزاع بعض صلاحياته وإلحاقها لرئيس التجمع الذي كان وجوده رمزيا فقط سيما وأن تلك الفصائل كانت تعتقد ان مبادرات حزب الأمة وحديثه المستمر عن الحل السياسي هو تمهيد للتصالح مع النظام والغريب أن تلك الفصائل هي من صالح النظام وشاركه السلطة عبر ماسمي باتفاق القاهرة بعد توقيع اتفاق نيفاشا بين الحركة الشعبية والنظام السوداني .
في حوار صحفي سبق أن أجريته مع الأمين العام للتجمع الوطني مبارك المهدي بعد منتصف التسعينات لصحيفة البيان الاماراتية نشر حينذاك وتناقلته صحف سودانية عديدة كشف الأمين العام للتجمع عن جوهر خلافاته مع رئيس التجمع الوطني السيد محمد عثمان الميرغني وقال” إنه يكن احتراما للميرغني لكن الميرغني يريد أن يمارس دوره السياسي كرئيس للتجمع
الميرغني .. القداسة والسياسة
ويطالبنا في نفس الوقت ان نتعامل معه كزعيم لطائفة دينية أي بنوع من السمع والطاعة رغم أننا ننتمي إلى أحزاب أخرى تتفق او تختلف مع حزبه وآراءه وقراراته وهذا هو سر الخلاف .”
وقد تابع المعاصرون لتلك الفترة مظاهر الخلافات داخل التجمع الوطني بين الرئاسة التي يمثلها الميرغني وحزبها الذي يستنصر بالحركة الشعبية والشيوعيين وبعض الفصائل الأخرى في تلك الفترة لمواجهة حزب الامة وبين الأمانة العامة التي يتولى إدارتها مبارك المهدي وحزبه وهي خلافات بلغت أوجها بتجميد حزب الأمة لنشاطه في التجمع بعد اجتماع مصوع الشهير.
في منتصف التسعينات أيام انعقاد مؤتمر أسمرة في العاصمة الإريترية كانت النقاشات قد بلغت أوجها بشان بنود اتفاق أسمرة وبعد تخطي عقبة الاتفاق بدأ النقاش حول التشكيل التنظيمي الذي كان تم الاتفاق ان يكون من هيئة قيادة لوضع السياسات تضم قادة الأحزاب والفصائل وجهاز تنفيذي لإدارة نشاط المعارضة عوضا عن لجنة التسيير التي أحاطت بها المشاكل .
لم يكن الميرغني متحمسا للظهور السياسي في تلك الفترة إلا انه وبعد ضغط شخصي من الدكتور عمر نورالدائم وبحكم علاقته الشخصية به والذي كان يرى إن وجود الميرغني في التجمع سيقطع الطريق أمام أي مساومات محتملة من قبل النظام للحزب الاتحادي لشرخ صف المعارضة بالإضافة الى ضغوط الدولة المضيفة التي كانت تريد إنجاح المؤتمر بانضمام الميرغني إلى قادة المعارضة ، قبل الميرغني تحت هذه الضغوط تولى رئاسة تشريفية لهيئة القيادة على ان يتولى العقيد قرنق منصب نائب رئيس هيئة القيادة وأن يكون الجهاز التنفيذي من مسؤولية حزب الأمة بحيث يتولى مبارك المهدي بدعم من فصائل التجمع منصب الأمين العام .
إلا أن تطور الصراع بين فصائل المعارضة فيما بعد واصطفافها ضد حزب الأمة دفع في اتجاه تحويل رئاسة التجمع إلى رئاسة تنفيذية بما يخالف اللوائح المنظمة المتفق عليها وذلك لتقييد حركة حزب الأمة وعزله لاحقا وهو ما سبب النزاع بين الميرغني ومبارك وبين الأمة وفصائل التجمع الأخرى بمافيها الحركة الشعبية والذي ادى إلى تجميد حزب الأمة لنشاطه من خلال التجمع والانطلاق بمبادراته منفردا .
لقد ألقى ذلك النزاع بآثاره السلبية على عمل المعارضة ونشاطها حيث تحول التجمع إلى أداة في يد الحركة الشعبية بمباركة الميرغني الذي كان يعول على تحالفه مع قرنق ويجاهر بذلك التنسيق والتحالف الذي غدرت به الحركة الشعبية بعد أن تركت الميرغني وتجمعه في القاهرة وقامت بتوقيع اتفاق ثنائي في نيفاشا مع نظام الإنقاذ .
وقد طرح أسلوب إدارة السيد الميرغني للعمل السياسي سواء داخل حزبه او في العمل العام تساؤلا حول حدود العلاقة بين ما تستوجبه قداسة زعيم الطائفة الدينية ومتطلبات وضرورات العمل السياسي وهو الخلط الذي تبدو نتائجه جلية في ضوء تجربة الميرغني السياسية كزعيم وهي تجربة مليئة بالمفارقات حسب البعض لا تتطابق بأي حال مع متطلبات العمل السياسي المدني .
يرى مراقبون أن العمل السياسي في كل مراحله وظروفه يقتضي قدرا من التواصل المباشر بين القيادات والقواعد وتحمل القيادات وتعرضها للمناقشات وتقبل النقد إلا أن قيادة الاتحادي الديمقراطي المتمثلة في الميرغني لم تكن تقبل اي نوع من النقد او المراجعة ليس في إطار حزبها فحسب بل حتى من الأحزاب الأخرى التي يفترض انها منافس سياسي لها وترى ان يتم التعامل معه بوصفها زعامة لطائفة دينية ولم يكن يقبل أنصار الميرغني ذلك أيضا ويفترضون ان يعامل الجميع الميرغني كما يعاملونه هم ليس في السياق الاجتماعي والروحي بل حتى في السياق السياسي .
إلا ان المتمردين على هذه الثقافة السائدة في الحزب الاتحادي الديمقراطي يرون غير ذلك ويتحفظون على تدخل زعامة الحزب في التفاصيل والخصومات والتي يرون انها تتطور احيانا للملاحقات التي تتم للناشطين غير المرضي عنهم سواء من داخل الحزب او من خارجه وقد يمتد ذلك إلى الصحافيين الذين يعتقد أنهم لا يدينون له بالولاء .
وقد سبق ان دفعت الصحفية سعيدة رمضان المحررة في صحيفة الوفد المصرية في تلك الفترة ثمنا لمواقفها المناقضة لموقف زعامة الحزب الاتحادي السياسية وتم فصلها فعليا من الصحيفة بناءا على ضغوط مباشرة من مكتب الميرغني على قيادة حزب الوفد التي تملك الصحيفة والتي تكن احتراما خاصا للميرغني. وقد اصدرت سعيدة رمضان بعد فصلها كتابا شهيرا في تلك الفترة شرحت فيه اسباب وتداعيات فصلها متهمة زعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي بأنه كان وراء فصلها من الصحيفة .
وتشكل هذه الازدواجية مشكلة حقيقية بين السياسي والمقدس خاصة في حالة السيد محمد عثمان الميرغني كما تبرهن عليه العديد من الواقع. وبمقارنة زعامة الميرغني والمهدي المتشابهتان من حيث انهما تستندان على كيانين دينيين نجد أن هناك فرق شاسع يشهد به الجميع حتى من يختلفون مع المهدي في توجهاته السياسية وأفكاره، حيث يجمع الكثيرون أن السيد الصادق المهدي قد فطن مبكرا لعلة التداخل بين الديني والسياسي في التعامل مع الآخرين سياسيا، وقدم نهجا خاصا في الموائمة بين موقعه الديني في زعامة كيانه الديني ودوره كزعيم سياسي يهاجم وينتقد بحدة على جميع المنابر بل وتحمله لقهر الأنظمة الشمولية وتصديه المباشر لها بالقول والموقف والفكرة .
كما أنه نجح في التواصل الشعبي والحوارات المفتوحة المباشرة مع طوائف المجتمع وفئاته ومنظماته المدنية التي شملت حتى الاتحادات الفنية والموسيقية والرياضية وفرق الدراما والفلكلور السوداني والجماعات الإبداعية والمنظمات والكيانات وله سجل حافل في هذا المجال تشهد عليه جميع المنابر داخل السودان وخارجه وتبنى الدفاع عن قضايا المرأة وحقوقها ودورها .
وقد عبر القيادي المرموق في الحزب الاتحادي الديمقراطي الراحل السفير على أبو سن عن هذه الحالة في إحدى رسائله وهو يخاطب السيد محمد عثمان الميرغني تحت عنوان “خطاب مفتوح للميرغني” في آخر أيامه في القاهرة بعد ما ناله من عنت السياسية وظلم حزبه له وهو يعبر عن عدم رضائه بما يجري في ساحة حزبه في نقاط عديدة وجهها أبوسن في خطابه للميرغني اقتطف منها مايلي وهو يخاطب الميرغني في رسالته قائلا :
ـ ” أتضح بجلاء أن ضيقك بالنصح والمشورة يكمن وراء هذا النفور والاستبعاد ،
وما زال الاتحاديون يتذاكرون موقفك بعد أن فرغنا من إعداد وثائق مؤتمر أسمرا 1995 الذى ساهم فيه الاتحاديون بوضع فكرة ” حقوق الأنسان ” بدلا عن فكرة ” العلمانية ” أو رفض الدين. وكانوا هم الذين أصروا على مناقشة ” القضايا المصيرية ” بينما كان بعض أعضاء التجمع يخاف من أثارتها في مؤتمر أسمرا. وحينما عدت أنت من غيابك وبدأ العدّ التنازلي للسفر وتكوين الوفد المسافر قالوا لك : من الطبيعي أن يذهب محمد سرالختم وعلى أبوسـن لأن الأول زعيم معروف هناك وقبائل المنطقة منهم أخواله والثاني قبيلته الشكرية حدودها مشتركة مع أرتريا وبعضهم يسكن داخلها وهو متزوج أبنة ناظر البني عامر ونصفهم فى أرتريا، فكان ردك : (عشان كده ديل الأثنين ما يكونوا فى الوفد ، عايزينّهم يبقوا لي زعما هناك؟!!) فسافرت بوفد لم يستوعب ما أُعِدّ من وثائق وظهر جليا عجز الحزب وهوانه أمام هامة د. قرنق العالية وانتهيتم إلى توقيع أتفاق معيب يسمح بتقرير المصير قبل إجراء انتخابات عامة يعرف فيها شعب الجنوب والشمال قادتهم ليتحقق الاستقرار أيا كان الخيار.”
“وما زال الاتحاديون يتذاكرون كيف أن رجالا شرفاء مثل الأساتذة مرغنى سليمان وأمين عكاشة وغيرهم شباب كثير كانوا من أقرب الناس إليك ضقت بنصحهم المخلص فضاقوا بك، وجفوتهم فجفوك، وأبعدتهم فأبعدوك.
وما زال الاتحاديون يتذاكرون كيف سقط وفارق الحياة بفعل الغيظ وجرح الكرامة والضيم رجال أعطوك من جهدهم ومالهم وذات أنفسهم ما شهد به الأعداء ثم فوجئوا بالخذلان والعقوق لمجرّد إبداء رأى مخالف لك. منهم د. عثمان عبدالنبى وإبراهيم حمد ويوسف أحمد يوسف وغيرهم كثير.”
8 ـ فَهْمُك لاتفاقية توحيد الحزبين ” الوطنى الاتحادي ” و ” الشعب الديمقراطي” ينطوي على الرغبة في الظلم والتشفي والأذلال للاتحاديين وهذا واضح، ولكنه ينطوي أيضا على المكابرة والافتراض بأنك أذكى من والدكم السيد على وأقدر منه، وكان رحمه الله يعرف الأضرار الكامنة في محاولة تولى رئاسة الحزب من جانبه فقرر ترك تلك المهمة لمن هم أعرف بها وأقدر عليها، ولم يكن السيد على في موقف ضعيف أو مُتَهَاوٍ بل على العكس كان صاحب نفوذ وكلمة داخل الحزب الموحد برئاسة المرحوم الأزهري. وكان ألأجدر بك أن تستجيب لنداءات الشيخ الجليل حمد كمبال ومئات ” خلفاء ” الختمية الذين ناشدوك وما زالوا الابتعاد عن هذا “الدَّرْب الغِوِيْتِسْ ” الذى سلكته بنا فأضعت سنوات عمرك وعمرنا، نحرث في البحر.
ويُعتَبر إصرارك على رئاسة الحزب تنكُّرا للأسس التي قامت عليها إعادة توحيد الحزبين الاتحاديين وتوزيع الأدوار بين القيادات ، ومن الواضح أنك قررت الاستفادة من الفراغ الذى خلّفه رحيل قيادات الصف الأول من الوطني الاتحادي قبل الانتفاضة فحاولت أن تَكُونَ أنت الواجهة الوحيدة للحزب ساعيا بذلك إلى فرض واقع جديد متنكّر لأسس التوحيد فقررت أن تكون رئيساً للحزب والطائفة معا.
ربما دار بخَلَدِك أن من حقّك أن تجارى السيد الصادق المهدى الذي تحول ببيت المهدى من ” رعاية ” حزب الأمة إلى رئاسته. ولكن الفارق كبير، فبغض النظر عما أثبتته تجربة السيد الصادق بصورة قاطعة من أن حزب الأمة لن يفلح ما لم يخرج من جلابيب” حزب الأُسْرة ” وتصبح رئاسته مفتوحة لكافة أبناء الشعب، فأن طموحات الصادق المهدى مبررة بعلمه وثقافته العالية ونظرته التحديثية، وإن لم تنجح هذه المؤهلات في إخفاء الصورة ـ التي ظلّ يتردد طويلا بين نزعها والانطلاق خارجها وبين الاستسلام لقيودها وأصفادها المعيقة سياسيا ـ صورة الزعيم الديني، الإمام، شيخ الطريقة واجب الطاعة. أما حالتك يا أخي السيد محمد فأنها تختلف. ذلك أن جماهير الاتحاديين، وحتى الختمية ، هي جماهير مناطق الوعى التي أنجبت الزعماء الوطنيين التقدميين المثقفين العلماء الذين قادوا النضال وحققوا الاستقلال. ولعلّ حزب الأمة كان سيكون أقوى وأكثر تماسكا لو أن السيد الصادق أكتفى بموقع المفكر والقائد الروحي وله في ذلك باعٌ لا يُدانَى ، والأمر هو هو بالنسبة إليك لو اكتفيت بالزعامة الروحية. . وعلى أية حال ، فالمقارنة غير قائمة أصلا، لا شكلاً ولا موضوعاً.
وتعبر فقرات رسالة أبوسن حول هذا الموضوع عن حقيقة الجدل الذي كان يشغل السياسيين السودانيين بمختلف مستوياتهم حول ضرورات إعادة تنظيم هيكل المعارضة في الخارج لإنجاح مشروع المعارضة وهو المشروع الذي انتهى بالفشل وتفرق شمل المعارضة لوجود اشخاص غير مناسبين لتولى مهام غير مناسبة لهم فقط لأنهم محاطون بأوضاع اجتماعية دينية تخطى تأثيرها الطائفة إلى شأن وطن بأكمله .
ولعل هذه الفقرات تعكس جانبا من طبيعة الخلاف داخل الحزب الواحد الذي يتداخل فيه السياسي والمقدس .
أما على جانب حزب الأمة فرغم النموذج الجديد الذي قدمه السيد الصادق المهدي في الموائمة بين مقتضيات الإمامة الدينية والزعامة السياسية إلا أن انتقادات عديدة لاتزال تنال من البناء التنظيمي للحزب الذي تعرض لمحاولات الانشقاقات لأسباب عديدة ومتباينة. غير أن الخطاب السياسي للحزب ظل موحدا وقادرا على الحضور عبر المبادرات العديدة والرؤى المحددة في كل القضايا حتى بدأ هناك من يتساءل عن جدوى هذه المبادرات المتواترة دون أن ترى النور على ارض الواقع .
الأمة وجدوى المبادرات
بهذه المبادرات اشتهر حزب الأمة القومي دون غيره من الأحزاب السودانية بأنه الأكثر مبادرة بالرؤى والحلول السياسية واطلاق المذكرات والمبادرات لحل أزمات البلاد المختلفة من موقعه في المعارضة حتى أن البعض يأخذ عليه كثرة تلك المبادرات وعقد الاتفاقات مع القوى السياسية المختلفة التي بلغت مئات المبادرات والاتفاقات مع كل الطيف السياسي السوداني، حاكمين ومعارضين .
غير ان فلسفة حزب الأمة في ذلك انه يرى ان الحزب السياسي الجاد لابد ان يكون معني باطلاق المبادرات وهذا من صميم دوره وإلا أصبح جثة هامدة ويرى أن محصلتة السياسية في هذا الجانب قد فتحت له دروبا سياسية عديدة عززت من رصيده النظري رغم ان هناك من يرى انها لم تبلغ مداها وكثيرا ما تتعرض للانتكاس خاصة مع القوى السياسية المختلفة .التي سرعان ما تتراجع عن التزامها في التطبيق .
آخرون يرون أن حزب الأمة يعني فقط بإطلاق المبادرات وعقد الاتفاقات دون إيجاد الآليات اللازمة لمتابعتها ونفاذها ، ورغم القيمة السياسية والفكرية النظرية لهذه المبادرات والاتفاقيات إلا ان الاستمرار في إطلاقها دون وجود آليات لتقييمها ودراستها والنظر في أسباب تعثرها يحيل دور الحزب السياسي في هذا الجانب إلى حلقة مفرغة وإلى نشاط غير منتج.
ورغم القيمة السياسية لهذه المبادرات يبقى السؤال مطروحا حول الأسباب الموضوعية التي تعيق عملية الالتزام بالمواثيق والاتفاقات هل هي علة في السياسة أم هي علة في العقلية السياسية للأحزاب السودانية سيما وان نماذج عديدة عبرت عن هذه الحالة .
في أواخر عام 1998 وبعد مباحثات استمرت ثلاثة أيام في جنيف اتفق رئيس حزب الأمة السيد الصادق المهدي والأمين العام للمؤتمر الشعبي الدكتور حسن الترابي على بيان اتفاق جنيف بعد جولات من اللقاءات غير المباشرة بين قياديين في الحزبين. أما المسائل المتفق عليها بينهما فهي أن يكون في السودان نظام حكم ديمقراطي وتهيئة المناخ وعقد مؤتمر يجمع السودانيين من أجل الاتفاق على القضايا الخلافية ورغم أن الاتفاق لم يحقق نتائجه إلا أنه جاء حتميا بعد تطورات عديدة على صعيدي الحكم والمعارضة .
فعلى صعيد المعارضة الخارجية بلغت حالة الشد والجذب بين معظم تنظيمات التجمع الوطني بزعامة الحركة الشعبية وبمباركة الاتحادي الديمقراطي وتضامن الشيوعي من جهة و حزب الأمة من الجهة الأخرى بلغت أوجها في اجتماع المعارضة بمصوع باريتريا حيث اتفقت تلك التنظيمات على عزل حزب الأمة عن التحالف على خلفية تنافس وصراع سياسي على الامانة العامة للتجمع تقوده الحركة الشعبية والاتحادي في مواجهة ما يعتبرونه مبادرات حزب الأمة المفاجئة ونشاطاته السياسية غير المقيدة بموافقة التجمع ورغبته في الحل السياسي مع النظام وهو ما دفع بحزب الأمة في نهاية المطاف إلى تجميد نشاطه في التجمع ومتابعة نشاطه بحرية منفردا كحزب سياسي دون قيد وكان قرارا أجمعت عليه معظم قيادات الحزب في الداخل والخارج .
وضمن مراجعاته لتلك الظروف وجد حزب الأمة أنه وبعد كل جهوده ومساهماته في بناء ودعم التجمع الوطني وجهده في ضم الحركة الشعبية للتجمع وبناء تنظيم القيادة الشرعية للقوات المسلحة ودعم قيام المؤتمرات والأنشطة المعارضة في الخارج وتقديم المبادرات تلو المبادرات وجد نفسه متهما من حلفائه بسعيه إلى التصالح مع نظام الإنقاذ واقتسام السلطة معه وهي اتهامات قصد بها التشكيك في مواقفه لأسباب سياسية وتنافسية حزبية حسب وصفه لها ولم تكن واردة أصلا في أجندته.
تزامن ذلك أيضا مع متغيرات في المعادلة الإقليمية بعد اندلاع الحرب الاريترية- الإثيوبية وأصبحت مصر بدورها تنظر إلى الأزمة السودانية بصورة أكثر شمولا لا تستثني طرفا بمن في ذلك النظام الحاكم مما جعل حظا أوفر لإمكانية الحلول السياسية التي كان يرفضها التجمع ويتهم حزب الأمة بالترويج لها.
ولعل المفارقة أن جميع الفصائل التي اتهمت حزب الأمة تلك الأيام بلهاثه نحو السلطة قد أعطوا الأولوية عند اتفاقهم مع نظام الإنقاذ في اتفاق القاهرة لقسمة السلطة دون الاهتمام بتنفيذ برامج حل الأزمة التي عارضوا من أجلها أو اشتراط مشاركتهم بتنفيذها بل اخذوا مواقعهم في منظومة مؤسسات نظام الإنقاذ ، بينما أصبح الحزب المتهم بالتهافت يحافظ على مكانه خارج دائرة السلطة لعشرين عاما رغم أن النظام عرض عليه الحكم مناصفة في اتفاق جيبوتي وهو الاتفاق الذي رفضه لاشتراطه الوصول إلى حل سياسي شامل تشارك فيه جميع الأطراف وليس اتفاقا شراكة ثنائية بين الحزبين.
على الجانب الآخر لم يكن حال الإنقاذ بأفضل حيث بدا التنافس والصراع يدب في أوصال المنظومة الحاكمة بسبب السعي للاستئثار بالسلطة المطلقة وقد كان هذا هو أحد دوافع الترابي للقاء جنيف في مواجهة خصومه النظاميين وتلاميذه المتمردين.
وما أن أعلنت المفاصلة بين جماعة القصر وجماعة المنشية حتى جاء اتفاق “نداء الوطن “في جيبوتي بين حزب الأمة والمؤتمر الوطني بزعامة البشير في 25 من نوفمبر عام 1999 وهو لقاء استهدف به المؤتمر الوطني سحب البساط من تحت قدمي الترابي ووثيقة جنيف .
وبإعلان اتفاق جيبوتي ذهب اتفاق جنيف أدراج الرياح ولم يصمد اتفاق جيبوتي بل انقلب على حزب الأمة إلى غير ما هدف إليه حيث تصاعد التباين في تقييم الاتفاق والتزاماته داخل أروقة حزب الأمة وثار الجدل حول مدى قربه وبعده عن الإجماع القومي والوطني وأسس حل الأزمة السودانية . كان البعض يرى أن الدخول مع الإنقاذ في شراكة بمقتضى الاتفاق الذي منح حزب الأمة قسطا مقدرا يقارب 50 بالمئة من السلطة والمسؤولية قد يحّمل الحزب كل أخطاء الإنقاذ في حال عدم مشاركة الآخرين ، بينما رأى البعض الآخر أن المشاركة قد تمنح الحزب القدرة على التأثير المباشر .
وحتى لا يتهم حزب الأمة باقتسام السلطة مع نظام الإنقاذ من قبل القوى السياسية الأخرى ربط حزب الأمة قبوله المشاركة بإشراك جميع القوى السياسية ، علما بان القوى السياسية الأخرى لم تتردد في قبول مشاركة الإنقاذ عبر اتفاق القاهرة فيما بعد دون الاهتمام بموقف حزب الأمة ، وهو ذات الموقف الذي انتهجته ابتداءا الحركة الشعبية مع المؤتمر الوطني في اتفاق الشراكة في نيفاشا عندما أهملت حلفائها في التجمع بحجة انها هي التي تقاتل وتحمل السلاح .
ومثلما كان حصاد حزب الأمة هشيما من دوره ومشاركته في التجمع الذي عزله في اجتماع مصوع باريتريا ، كان حصاده هشيما أيضا من اتفاق جنيف ، وجيبوتي بل انقلبت تلك الاتفاقات نغمة على بنائه التنظيمي حيث تفشت جرثومة الانسلاخ والانشقاقات بكل تداعياتها ومسبباتها وحيثياتها السياسية والذاتية ومشاهدها الدرامية .
قنع حزب الأمة بوجوده خارج السلطة وعلى سلمية معارضته معها يقدم المبادرات ويقترح الحلول غير انه ظل خارج دائرة الفعل والمشاركة التنفيذية فاستشعر نظام الإنقاذ من حزب الأمة ما اعتبره مبدئية وطنية قادته حسبما عبر قادته إلى الإسراع في استكمال حواره وإبرام اتفاق جديد مع الأمة ليضم إلى قائمة اتفاقاته السابقة وهو ماسمي “باتفاق التراضي الوطني” الذي امن على نفس القضايا والمواقف. حيث تعهد البشير والمهدي بالعمل سويا من اجل إنجاح الاتفاق مع كل القوى السياسية في البلاد وإيجاد جبهة وطنية وجمع القوى في مؤتمر شامل.
استغرق التفاوض حول ذلك الاتفاق سبعة أشهر بين قيادات الحزبين, ووصفه السيد الصادق المهدي بأنه كسفينة نوح، .وبرغم أن الإعلان عن الاتفاق لم يكن مفاجئا، وتم التمهيد بشكل كبير لإعلانه من قبل حزب الأمة إلا أنه أثار ردود أفعال واسعة ما بين مؤيد أو معارض وفسر الاتفاق علي أنه حلف جديد حول الثوابت العربية الإسلامية وأن ذلك سيدفع الآخرين للانخراط في حلف مواز. بل تساءل البعض عما إذا كانت الحركة الشعبية ستكون محور الحلف المضاد، أم أن الاتفاق لا يعدو أن يكون محاولة من حزب المؤتمر الوطني للحصول علي تأييد حزب الأمة لمواقفه في أبيي ودارفور بلا مقابل حقيقي يحصل عليه حزب الأمة.ولم تخف الحركة الشعبية لتحرير السودان مخاوفها من اتفاق التراضي الوطني رغم ترحيبها به.
المهدي والبشير جدل الشرعية والانقلاب
سئل السيد الصادق المهدي عم إذا كان متفائلا بنجاح هذا الاتفاق؟ قال: لا خيار أمامنا غير ذلك ووضعنا أشبه بأناس في ساحة وأصابتهم مصيبة وليس أمامهم إلا طريق واحد للخروج، وهذا هو وضعنا، والاتفاق يبحث في بندين رئيسيين هما كيفية تحقيق السلام العادل والتحول والديمقراطي وآليات تحقيق ما يتم الاتفاق عليه، ولن يعزل هذا الاتفاق أحدا، وليس فيه شيء غامض أو مدسوس أو مضطرب ومتناقض.
ورغم التفاؤل الذي أبداه المهدي آنذاك إلا أنه اضطر إلى نعي الاتفاق فيما بعد في حوار مع صحيفة أجراس الحرية بتاريخ 12/7/2009 قال السيد الصادق المهدي :
” اتفاق التراضي الوطني عرف بصورة محددة وتم توقيعه، ولكن مبادرة أهل السودان أصبحت خطوة بديلة له، بالرغم من أننا سعينا لأن تكون تلك المبادرة مكملة له ، ونستطيع القول أن الموضوع برمته قد مات ،لأن فكرة مبادرة أهل السودان كانت حل مشكلة دارفور على أساس قومي ومخاطبة القضايا الأخرى المتضمنة في التراضي ، ولكن هذا لم يحدث بالفعل ، فالتوصيات التي صدرت من ملتقى مبادرة أهل السودان اختلفت عما كنا نتوقع ، وهذا أدى إلى أن لقاءات الدوحة تم التفاوض فيها برؤية المؤتمر الوطني لا برؤية قومية ، ومن ناحية عملية فإن مبادرة أهل السودان نسخت التراضي، واجتماعات الدوحة نسخت مبادرة أهل السودان ، ولذلك نحن نتحدث الآن عن ضرورة الالتزام بمبدأ الحلول القومية للقضايا السودانية ولكن لابد أن يكون ذلك بنظرة جديدة لأن تلك الأطر قد انتهت.”
ومع تمادي بعض قيادات المؤتمر الوطني في تعطيل الاتفاق وسد الطرقات والمنافذ أمام مشاركة الآخرين في القضايا القومية على نحو ما ورد حسب رأي قيادات في حزب الأمة اعتبر كثير من المراقبين أن إعلان اتفاق الأمة وحركة العدل والمساواة من القاهرة جاء كرد فعل غير متوقع مثل خطوة ساخنة أربكت المؤتمر الوطني وهو ماعكسته بعض التصريحات والحملات غير الموفقة من قبل قيادات في المؤتمر الوطني( الحزب الحاكم) .
وجاء الاتفاق مع حركة العدل والمساواة ليفتح الباب لاستقطاب جديد وإشعال حالة من الحماس المؤقت لدى المعارضين من داخل دهاليز السلطة ومن خارجها رغم أن الحركة الشعبية سرعان ما أعادت حساباتها عند إثارة دستورية الحكومة ووقفت في خندق المؤتمر الوطني للدفاع عن مكاسبها .ولطبيعة الظروف السياسية التي خلقتها اتفاقية نيفاشا لاتملك الحركة الشعبية إلا أن يكون قلبها مع علي وسيفها مع معاوية، هي مع المعارضة للضغط على شركائها لإنفاذ بنود اتفاقها معهم وهي في نفس الوقت مع المؤتمر الوطني للحفاظ على مكاسبها وقسمتها في السلطة والثروة دون انتقاص ولعل ما أثير حول شرعية الحكومة وتخندق الحركة إلى جانب المؤتمر الوطني مثال واضح على ذلك .أما مجموعة التجمع الوطني فهي أيضا مع عدم شرعية الحكومة ودستوريتها لكنها في نفس الوقت مع المكاسب التي تتمتع بها في أروقة السلطة ، بينما يقف الاتحادي الديمقراطي بزعامة الميرغني داخل السلطة حاكما وخارجها معارضا يجري في كل الاتجاهات.
ذهب الجنوب ولملمت الحركة الشعبية اطرافها ورحلت لتواجه مصيرها المجهول ودخلت بعد عام من نشوة النصر في حرب اهلية ذات طابع قبلي في صراع على السلطة والموارد خلفت ألاف القتلى والجرحى وفتحت ابواب الجنوب لمخاطر الفقر والمجاعة والأمراض الفتاكة في مشاهد انسانية مؤسفة.
وفي الشمال الوطن الأم انفرد المؤتمر الوطني بالسلطة منتقلا من فشل إلى فشل في إدارة الحكم حيث تكشفت جرائم الفساد التي ازكمت الأنوف في دولة التوجه الحضاري وازدادت حمى الصراعات القبلية وحروب الحركات المسلحة وتردت الخدمات وزادت معدلات النزوح داخل الوطن والهجرة خارجه وازداد الاغنياء غنى والفقراء فقرا وتحولت مؤسسات الدولة إلى مؤسسات جباية يدفع فيها الفقراء كلفة بذخ الاغنياء بسلطة الحاكم على المحكوم .
واتجه الحزب الحاكم إلى مواجهة التململات والصراعات داخل صفوفه فأبعد من أبعد وأعفى من أعفى وعاد إلى مربع الانقاذ الأول بإعادة تشكيل الدولة الأمنية في قوالب مدنية وحوّل شعارات الحوار الوطني إلى شعارات استهلاكية لتضليل الرأي العام المحلى والإقليمي والدولي وبقي السودان يتخبط في أزماته الأساسية بين معارضة مضيق عليها امنيا ودولة فاشلة سياسيا واقتصاديا ومحاصرة اقليميا ودوليا .
عقد من السنوات مضى في معارضة النظام كانت القاهرة فيه شاهدا على التفاصيل وعشرة اخرى مضت فيها النظام مراوغا، تارة بسيف المعز وتارة بذهبه في مساومته انقسم الوطن إلى نصفين، ثم احترقت شعارات السودان الجديد بغياب صاحبها ومنظّرها عن مسرح الحياة، بينما أصبح حال الحزب الحاكم الذي آزر الحركة الشعبية باللهاث على طريق الانفصال يواجه تداعيات الانفصال التي لم يحسب لها حساب، بعد إغفالها في نصوص الاتفاق كحال المستجير من النار بالرمضاء .