تأخرت في الكتابة عن فاجعة رحيل الحبيب الإمام الصادق المهدي بفعل وهول الصدمة والحزن بغية أن يهدأ الألم والحسرة ولكن يبدو أن الانتظار لا يقل عن صعوبة الفقد وهيمنة الحزن، فقد كنا نستمع الي الكلمات في سرادق العزاء وننتظر بلهفة وصبر أن يعتلي الحبيب الامام المنبر لتقديم كلمته هكذا تعودنا.. ولكن ما ننتظره بعيد المنال.. إنها الحقيقة المرة .. فقد رحل الحبيب الإمام:
وقفت أداري الوجد خوف مدامع تبيح من السر الممنع ما أحمي
أغالب بالشك اليقين صبابة وأدفع من صدر الحقيقة بالوهم
تمالكت نفسي أمس عندما حضرت الاحتفال بمولده الميمون 25 ديسمبر 2020 “سلام على الامام في الخالدين” وعزمت أن أكتب وأخرج من الحزن الي الانخراط في مسيرة الوفاء والعطاء كاستحقاق وواجب الحبيب الراحل علينا جميعاً.. أكتب .. وأدرك أن من الصعب إيجاد الكلمات التي تستطيع ان اعبر بها عما يدور بداخلي من مشاعر وافكار، وعما يشتعل في صدري من حزن وأسـى، فلا أدري لمن أبث حزني فالحزن يخيم على الجميع، كيف لا ونحن لا نرثي شخصاً عادي وعابر وإنما رجلا بقامة أمة وهب حياته لخدمة البشرية، عمل ليل نهار من أجل الحق والحقيقة، بحثا عن مستقبل له وفاء ووفاء له مستقبل، أعطى بلا من ولا أذى، وكان نموذجا في المسئولية والإبداع والإصرار والجدية والتحدي في كل الميادين وفي كل الحقب، فسجل في صفحات التاريخ مواقف مشهودة وإضاءات مشرقة وعناوين عريضة.
لقد هزّ خبر وفاته أركان الأمة، وزلزل كيان الدولة، فالفقد جلل، والمصاب عظيم، ووقعه أليم، وكيف لا والفقيد زعيم بمعنى الكلمة، له في النفوس مكانة، وفي القلوب منزلة، أفعاله وأقواله يشهد لها التاريخ والحاضر وسيشهد لها المستقبل بإذن الله، صحيح غاب الحبيب عن المشهد والحياة، ولكن فكره ما زال متأججا يافعا يهدي الى طريق الوسطية والديمقراطية، وعزاؤنا أن العظماء لا يموتون كما يقولون وإنما تنتقل أجسادهم وتبقى أعمالهم تمشي بين الناس، ولا يستطيع النسيان على طي صفحاتهم من ذاكرة الزمن، فالتاريخ لا ينسى من صنعوه وسطروه بأحرف من نور:
كانت في حياتك عظات وأنت اليوم أوعظ منك حيا
لقد شغل الحبيب الإمام الدنيا، وكان محض خير طيلة حياته، لم ينتصر لنفسه أبداً وإنما يقابل الإساءة بالحسنـى والاحسان.. فقد بقى صامداً كالطود الأشـم فلم تلن له قناة وما ضعفت له شكيمة، فسار في طريقه، ضارباً عرض الحائط بكل الضغوط، ومقاوماً كل الإغراءات، ومواجهاً كل الابتلاءات، وأميناً لعهده، وصادقاً في قوله وفعله، وواثقاً من وجهته، متيقناً من النصر وكثيراً ما يردد:
أعازلتي مهلا إذا ما تأخرت قوافلنا يوما فسوف تعود
ولابد من ورد لظمأ تطاولت ليالي سراها واحتواها البيد
مضـى الحبيب الامام بعد أن وضع بصمة واضحة وجلية في ضروب الفكر ومحراب السياسة فلم يورث مالا ولا سلطانا وإنما ورث فكراً ومنهاجاً “ميراث مشارع الحق” وترك تحدياً لمؤيديه في إعمال فكره ونهجه في الحياة العامة، وورطة كبيرة لكل من يحاول الكتابة عنه أو عن أطروحاته ومرافعاته ومراجعاته من منتقدوه.
مضـى الحبيب الإمام بعد أن رفد المكتبة السودانية بسيل جارف من العناوين والكتب وأوراق العمل والإنتاج المعرفي في الفكر والدين والثقافة والسياسة والمجتمع والبيئة والفلسفة والتاريخ والعلوم، وفق نسق يربط بين كل كتاباته أساسه الجذور الفكرية والتجديد المقاصدي، من كتبه على سبيل المثال لا الحصر (العبادات للإمام المهدي، يسألونك عن المهدية، أحاديث الغربة، الثورات الاسلامية والتحديات، الصحوة الاسلامية ومستقبل الدعوة، المنظور الاسلامي للتنمية الاقتصادية، النهج الاسلامي بين الاستقامة والتشويه، العقوبات الشرعية وموقعها في النظام الاجتماعي الاسلامي، الاعتدال والتطرف وحقوق الانسان في الاسلام، الدولة في الاسلام، جدلية الاصل والعصر، نداءات العصر، نحو مرجعية اسلامية متجددة، حقوق المرأة الاسلامية والانسانية، مسألة جنوب السودان، جهاد في سبيل الديمقراطية، مستقبل الاسلام في السودان، الديمقراطية في السودان عائدة وراجحة، السودان وحقوق الانسان، الانسان بنيان الله، مياه النيل الوعد والوعيد، تحديات التسعينات، ميزان المصير الوطني في السودان، أصم أم يسمع العم سـام، الدين والفلسفة، أيها الجـيل، وغيرها). فقد مزج بين الفكر والسياسة وبين النظرية والتطبيق بعبقرية نادرة قلما تجتمع في رجل واحد، وشكلت أطروحاته إضافة نوعية مؤثرة ومهيمنة ترياقا في زمن الخواء والجمود والتكلس. والمحزن حقاً عدم استفادة السودانيين منها في وقتها، فهي كفيلة بحل إشكالات السودان إذا ما تراضى عليها الجميع، ولكن بعد رفضها بدافع الغيرة السياسية ونقدها من باب التنافس سرعان ما يرجعون اليها ولو بعد حين لأنها نابعة من ضمير وعقل اختزن الهم الوطني كموقف مبدئي لا مساومة ولا تهاون فيه.
مضى الحبيب الإمام بعد أن أثرى الحياة الثقافية والاجتماعية بالإنسانيات السودانية والمكنون الفلكلوري والتراث الشعبي، وغرس قيم الابداع والفضيلة والمجاهدة والصدق والتفاؤل والاعتدال، وأرسى معاني الشموخ والوفاء والتضحية والمقاومة السلمية.
مضى بعد أن رتب مدرسة فكرية متجددة متكاملة الأبعاد والزوايا، وموسوعة سياسية شاملة، وقدم بدائل في كل المجالات، وترك منهجاً قويماً، ويعد حمل لواء التجديد الفكري من أهم نقاط القوة في مأثره القيمية التي يشار اليها بالبنان، فلم يكن مبالغاً البروفسير يوسف فضل عندما قال عنه “ولعلي لا أغالي إذا نظرت اليه باعتباره من رواد التجديد في الفكر الاسلامي المعاصر”. وقد خرّج الحبيب الامام أجيالا من القيادات والكوادر المثابرة والمجتهدة الذين يعول عليهم في رفع راية ميزان التقدمية المؤصلة، وتحمّل مهمة الديمقراطية العائدة والراجحة فكراً وممارسةً.
مضى الحبيب الامام المصلح الاجتماعي الذي يعيش هموم شعبه وأمته، نصيراً للمرأة ومنافحاً في سبيل حقوقها السياسية والانسانية، منشقلاً بالأجيال والشباب وقضاياه ومشكلاته، مكفكفاً دموع ضحايا الحروب والاستبداد والعنف الاسري والسجناء والمعاقين، وزائراً للمرضى ومشاركاً في الأفراح والأتراح، ينعى الموتى ويواسي الثكلى ويكرم الضيف وينجد المستغيث، ومع ذلك كله قدم مجموعة هادفة من مؤلفاته الاجتماعية والتربوية وتصدى بقوة ضد العادات السيئة في المجتمع، وعلت حجته باجتهادات فقهية في القضايا المجتمعية.
مضى الحبيب الإمام المفكر الإنساني العضوي الذي لا تقيده حدود ولم تشغله القطرية المحلية من الدفاع عن حقوق وقضايا الشعوب، والتصدي للطغيان الدولي، والتبشير بمعالم الفجر الجديد، فكان يملك رؤى وحلولا ومشروعا حضاريا تتجاوز عناصره ومكوناته وتأثيراته السودان إلى آفاق الساحة الدولية الأكثر اتساعا، وبتفرده وتميزه كرمته الساحة الدولية والاقليمية بعضوية اللجنة التنفيذية لنادي مدريد، والمجموعة الاستشارية الخاصة بمجموعة العمل الدولية للدبلوماسية الوقائية، والمجلس الاسلامي الأوربي، ورئيساً للمنتدى العالمي للوسطية، وعضواً في مجلس الحكماء العربي لفض المنازعات، وعضواً في المجلس العربي للمياه، وعضواً في المؤتمر القومي الاسلامي، ونال جائزة قوسي للسلام كرجل دولة، واختاره معهد الدراسات الموضوعية بالهند من الشخصيات الاكثر تأثيراً وغيرها، كما كرم داخل السودان بعدد وافر من الاوسمة وشهادات التكريم والتشريف في الفكر والثقافة والبيئة ومناصرة المرأة والديمقراطية.
مضى الحبيب الامام رجل الديمقراطية الذي كان يقبل النقد بصـدر رحب ويؤمن بالحوار والتفاكر وكثيراً ما يردد “نصف رائيك عند أخيك أو أختك”، كنا نجادله في وجهات نظره وكان يحفزنا على ذلك، وعندما يشتد النقاش كنا نسأله “يا حبيب هل أنت شايف حاجة نحنا ما شايفنها” فكان يصارحنا ويبوح بما يتوفر لديه من معلومات وحقائق وتحليل وإحساس، حينها نعلم فنلزم، كما أن الديمقراطية عنده أشمل معنى وأوسع نطاق تعني (المؤسسية، النقد وقبول الاخر، حقوق الانسان والحريات الاساسية، المشاركة والتشاركية مقدمة على التمثيل النيابي، والعمل بمبادئ الحكم الرشيد).
مضى الحبيب المناضل الجسور، فقد كانت حياته سلسلة متصلة من النضال والكفاح الوطني والانساني، يكاد يكون أكثر سياسي سوداني قضى حياته في السجون والمنافي، رجل المبادئ والمواقف والثبات عليها لم يداهن ولم يهادن ولم يساوم علي حساب وطنه ودينه، كان يبذل الوسع كله من أجل مبادئه، تطاول عليه الاقزام فصبر، استهدفته الدكتاتوريات فثبت، طالته حملات التشويه والتشويش وتزوير الحقائق والاتهامات والمحاكمات السياسية والاعلامية فاحتسب، وبقى قابضاً على الجمر ومتحملاً ظلم ذوي القربى وهو يردد قوله تعالى “رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ”.
مضى الحبيب الإمام وترك حباً صادقاً ووفاءً نبيلاً، تجلى في برقيات النعي والاحتساب من المجموعات الدينية والزعامات الاهلية وكتابات المفكرين والمثقفين والإعلاميين والسياسيين والشباب والنساء، فالكل ينعيه بصدق ويعدد مأثره، واللافت أن كل جهة داخل وخارج السودان تشير في نعيها الي وشيجة انتماء وارتباط الحبيب الامام لها وبها وانه جزء منها – الكل يدعي صلة القربى – وهذا الادعاء صحيح لأن العطاء الانساني للحبيب الإمام كان مدرارا ومشاعا، ولسان حال الكل بأن “الإمام مّـر من هنـا”، لقد بكاءه منتقدوه قبل أتباعه، لأنه كان يوفر مساحة لاحترام الاخر المختلف معه بلا حدود مقارنة بغيره من السياسيين، فقد صدق الاستاذ الحاج وراق حينما قال ذات مرة “سيكون أول النادمين والمتضررين من غياب الصادق المهدي عن المشهد هؤلاء الذين يهاجمونه ويبغضونه”.
خيـراً فعل المكتب الخاص للحبيب الامام الصادق المهدي أن وضـع من خلال الاحتفال بذكرى ميلاده الميمون خارطة طريق لأثره الباقي، وكذلك فعلت هيئة شئون الأنصار في خطبة الانتقال، ويعمل حزب الأمة القومي في ذات الاتجاه للمحافظة على مشارع الحق وإعمال منهج الإمام الديمقراطي المؤسسي لتحقيق أهداف الحزب الوطنية السامية.. إذاً هناك إجماع على تحويل رحيل الحبيب الإمام الي حياة جديدة لفكره وأطروحاته وأدبه وفاءاً لمشروعه الإنساني التنويري.. ولعله هذا هو الوفاء الحقيقي لرجل أعطى كل شيء ولم يأخذ سوى حب الناس.. وليس هناك نعي أحسن من نعيه لنفسه “أفضل الناس في هذا الوجود شخص يترحم مشيعوه قائلين: لقد شيعنا حقاني الي الحق.. إن الي ربك الرجعـى”..