• حضرتُ اليوم، السبت 26 ديسمبر، ندوةً إسفيريةً رائعة، ‹ومُحزِنة› في نفس الوقت، دعت لها المجالس التخصصية للأطباء السودانيين بدول الخليج، وأدارها من الرياض بروفيسور إبراهيم أحمد باني..
شارك في هذه الندوة الرائعة البروفيسورات:
د. محمد المكي أحمد رئيس مجلس التخصصات الطبية.
د. الزين كرار رئيس المجلس الطبي السوداني الأسبق.
د. محمد أحمد عبد الله رئيس اللجنة الإستشارية لبرنامج الإمتياز..
د. أمل عبده مدير الموارد البشرية والتدريب بوزارة الصحة الإتحادية.
الأستاذ أزهري موسى مدير شؤون العاملين بوزارة المالية.
كان عنوان الندوة (مسار الطبيب السوداني)، ويُقصد بالطبيب السوداني هنا الأطباء البشريون، وأطباءُ الأسنان، والصيادلة !!
تناولت الندوة الواقع المُحزن للأطباء اليوم، وبخاصة صغارهم، وما يُتاح لهم، بأعدادهم المهولة، من فرص تعليمية وتدريبية بائسة، ثم عَرَجت على الرؤى المستقبلية التي يراها هؤلاء الأساتيذ من حيث برامج التعليم ثم الإمتياز، والتدريب، والإبتعاث للتخصصات العالية، والتخصصات الدقيقة..
•™️ما أرعبني فعلاً هو مقدار الدمار غير المحدود، المشوب بالفوضى والعشوائية، والذي يتعرض له، حتى هذه اللحظة، القطاع الصحي في بلادنا !!
ومع شعور الأسى الذي خرجتُ به، وربما خرج به كلُّ من حضر هذا المنشط، ولكن ما يسعِد فعلاً هو أنَّ أساتذتنا الأجلاء، الذين ما يزالون داخل البلاد، ويقبضون على جمر القضية، هم ممسكون تماماً بأطراف قضيتهم، ويملكون الرؤية الثاقبة لحلحلتها، كما أنهم على إستعداد فوري، وتفاؤل، لإعادة وضع هذا القطاع في مساره الصحيح، ومن جديد !
• إنَّ أكبر مشكلة عصفت بالقطاع الصحي في الثلاثين سنةً الماحقة الآخيرة، ليست هي الإهمال، ولا التدمير المتعمّد، ولا التخصيص، ولا البيع والمصادرة ووضع اليد، ولا الإحتياز غير المشروع لمؤسسات القطاع الصحي، ولا هو صرف أقل من 4٪ من ميزانية الدولة عليه !! إنما المصيبة الكبرى التي عصفت بقطاع الصحة هي أن الحكومة البائدة كانت تصرِّح بسخاءٍ متهوِّر، وبعشوائية، بفتح كليات الطب، والأسنان والصيدلة لكل من ‹هب ودب› من محاسيبها أو مقربيها أو رأسمالييها، حتى ولو كان هذا ‹الهاب الداب› لا يملك إلا ‹مجرَّد كُرنُك› صغير في قريةٍ عشوائيةٍ نائية!!..
وما إن يستلم هذا ‹المَحظِي› تصديقه إلا ويبدأ، وعلى الفور، في ‹تفريخ› جيوش جرَّارة من ‹أرباع› الأطباء، ‹وأنصاف› أطباء الأسنان والصيادلة والدفع بهم في السوق المترامية المتاحة، وهم لم ينالوا ربما عُشر معشار ما كان يناله الخريج من تلك الكليات في أوقاتٍ سابقة.. ثم تندفع هذه الجيوش المهولة من ‹الأطباء› والذين يكون بعضهم، وحتى التخرج، لم يدخل غرفة عمليات ولو لمرةٍ واحدة، يتدافع هؤلاء إلى وزارة الصحة يطالبونها لتجد لهم فرص الإمتياز، والتدريب المهني، ثم الإبتعاث للتخصص، وخلافه !!
لقد أدهشني أن عدد أطباء الأسنان وحدهم الذين ينتظرون فرص تدريب الإمتياز الآن يزيد عن ستة آلاف طبيب..ومما يُحزن له أن وزارة الصحة، وبإمكانياتها المحدودة، لن تستطيع تأمين فُرص تدريب لهؤلاء ولا حتى في العشر سنوات القادمة، هذا إذا توقف تخريج أطباء الأسنان تماماً، ناهيك عن أطباء العموم، وأطباء الصيدلة !!
إنها الكارثة بالمعنى الدقيق للكلمة !!
• الواضح المؤلم أن الحكومة البائدة لم تكتفِ بتدمير مؤسسات الصحة وحدها، وإنما دمَّرت العناصر البشرية الطبية ومناهج تعليمِها كذلك..حتى أن البروفيسور محمد أحمد عبد الله ذكر أنهم باتوا على إقتناع بإدخال مقرر للغة الإنجليزية للأطباء ضمن برامج التدريب بعد التخرج!! فأي مستوى وصل إليه الحال يا تُرى ؟!!!
• لقد بلغ عدد كليات الطب في بلادنا أكثر من 70 كلية يمتلك القطاع الخاص حوالي 44 منها ويتم القبول هناك حتى للناجحين بنسبة 50٪.. يعني فقط مجرد النجاح في الشهادة السودانية يؤهِّل الطالب في هذه الكليات (العشوائية) ليحمل لقب طبيب في جمهورية السودان.. فأي مستوى وصل إليه الحال يا تُرى ؟!!
• كان من رأي أساتيذنا في هذه الندوة، وهو رأيٌ صحيحٌ مائة بالمائة، أن تتوقف هذه الكليات ‹التآمرية› العشوائية الباهتة، وفوراً، عن قبول أي طلاب جُدد، وتكتفي بتخريج فقط ما ‹بحوزتها› من طلاب ..ولكن ذلك لن يتم إلا بقرارٍ شجاع يصدر فوراً، وبلا تأخير، ممن يهمه الأمر!!
• في علم التجارة هناك مقولةٌ مشهورة مفادها أنك إذا أردتَ إنجاح مشروع خاسر عليك بإيقاف الخسارة الجارية فيه أولاً، ثم إبحث في سُبل تحقيق أرباح بعد ذلك..
وفي قطاع الصحة هذا، أرجوكم أوقفوا تخريج ‹أنصاف التمرجية› هؤلاء، ثم أبحثوا عن تأهيل من تخرج منهم وما زال ينتظر خارج الباب فرصاً للتدريب !!