حدثان ساخنان، وقعا غداة صدور قرار الإدارة الأميركية، بتمديد فترة البت في مسألة العقوبات المفروضة على السودان، لثلاثة أشهر، تنتهي في أكتوبر المقبل، وقدمت الحكومة السودانية من خلال الحدثين، هدية من نوع خاص، إلى إدارة الرئيس دونالد ترمب، التي تراقب “سلوك” النظام، بشأن الحريات وحقوق الإنسان.
الحدث الأول، يتمثل في مشاهد القمع، الحصار، التجويع، والأساليب العنصرية، التي مورست بأقسى صورها، ضد طلاب دارفور بجامعة بخت الرضا، خلال هذا الشهر، أما الحدث الثاني، فصنعته هذه الأيام وزارة التربية والتعليم، بشأن عطلة المدارس الكنسية، إذ تقرر أن تتغيًر إلى يومي الجمعة والسبت، وليس الجمعة والأحد، كما كان الحال، قبل صدور القرار العجيب.
فيما يتعلق بطلاب دارفور، يكفي الإشارة إلى أن نظام الرئيس عمر البشير، الذي يتحكًم في البلاد، منذ انقلابه على نظام ديمقراطي، في الثلاثين من يونيو 1989، لجأ إلى أساليب غير مسبوقة، حتى في سجل نظامين ديكتاتوريين، حكما السودان، قبل الحكم الحالي.
نظام البشير منع طلاب دارفور من التحرك صوب الخرطوم، بعدما تقدموا باستقالات جماعية، من جامعة بخت الرضا، احتجاجاً على ممارسات خاطئة وعنصرية، ظالمة، تعرضوا لها، في انتهاك صريح، ليس فقط للقوانين الدولية التي تبيح حرية التنقل، بل في تجاوز صارخ لـ” دستور جمهورية السودان الانتقالي لسنة 2005″ ، الذي نص على “حرية التنقل والإقامة”، و أن “ لكل مواطن الحق في حرية التنقل، وحرية اختيار مكان إقامته، إلاّ لأسباب تقتضيها الصحة العامة أو السلامة، وفقاً لما ينظمه القانون”، ويبدو أن النظام استخدم ” إلا ” لمنع الطلاب، من دخول الخرطوم ومدن أخرى، أي أن القوانين الظالمة تسلب المواطن حريته، وتجعل من أي دستور مجرد حبر على ورق.
مشاهد الحصار تكررت، بعدما قرر الطلاب التحرك إلى دارفور، بالحافلات، بعدما مُنعوا من دخول الخرطوم، وفي الأبيض عاصمة ولاية شمال كردفان، حال النظام دون أن تقوم شخصيات سياسية بتقديم مؤون غذائية، تعين الطلاب، على المأكل والمشرب، في رحلة طويلة وشاقة من قرية الشيخ الياقوت عبر ولاية النيل الأبيض، حيث احتضن شيخها الجليل، بمحبة وكرم ونبل، يُعبًرعن معدن، صوفي نقي، الطلاب المحاصرين، المتجهين، إلى دارفور، في غرب السودان.
ممارسات الحكومة السودانية، ضد طلاب دارفور بجامعة بخت الرضا ، وجامعات أخرى، بغيضة وقبيحة، وغير إنسانية وعنصرية بامتياز، لكن رغم ذلك، أكدت الأحداث صلابة أبناء دارفور، الذين يرفضون نهج الاستبداد، والحصار، والتجويع، والأساليب العنصرية البغيضة، التي باتت عنواناً “يتميًز” به النظام الحاكم.
تشديد نظام البشير، على منع طلاب دارفور، من دخول الخرطوم ومدن أخرى، في طريقهم إلى الفاشر، كشف من جهة أخرى أن الخوف ينتاب الحاكم، الذي يخشى أن يتفاعل أبناء دارفور في جامعات العاصمة المثلثة ( الخرطوم، الخرطوم بحري، وأمدرمان)، والقوى السياسية، ومنظمات المجتمع المدني، مع الطلاب المظلومين ، وهكذا يُركًز النظام باستمرار على تشتيت شمل الطلاب والناس، ليحكم بلداً مقطع الأوصال، بعدما تسببت سياساته الرعناء، في فصل جنوب السودان.
علمنا التاريخ، أن الطلاب في السودان، هم دائماً “رأس الرمح”، في أي عمل وطني خلًاق، بالأمس كانوا في صدارة مواكب التغيير، عندما اندلعت ثورتان شعبيتان في أكتوبر 1964 وأبريل 1985، فأطاحتا سلمياً ، بالهتاف ، والمسيرات، نظامين عسكرييًن.
هذا يعني أن النظام يدرك تماماً أن أبناء دارفور، ” القابضين على الجمر” منذ سنوات عدة، يُعتبرون، بحراكهم السلمي، نشطاء “الانتفاضة” التي تأتي، في أي بلد، نتيجة لتراكم الأحداث والأحزان، إنهم حملة مشاعلها، لأن قضية دارفور، كانت وستبقى هي قضية ” السودان في دارفور”، بكل تعقيداتها، وقضاياها المتشابكة، التي تتصدًرها قضية الحرية، والديمقراطية، والعيش الكريم.
الحكومة السودانية، فشلت حتى الآن في التوصل إلى حل شامل لأزمة ” السودان في دارفور”، رغم الجهود الإقليمية والدولية التي بُذلت، من “اتفاقية أبوجا” إلى “وثيقة الدوحة” ومحطات أخرى.
الأزمة في دارفور مستمرة، ولهذا السبب، تتعامل الحكومة مع طلبة وطالبات دارفور في الجامعات تعاملاً “أمنياً “، خصوصاً أن هناك نحو 4 ملايين نازح ولاجئ (دارفوري ودارفورية)، غير أبناء دارفور في ” الشتات” (في الخارج) بحسب مصادر واسعة الاطلاع، تؤكد “أن الحكومة السودانية تتعامل مع طلاب دارفور، باعتبار أنهم امتداد للحركات ( الدارفورية) المسلحة”.
وفقاً لهذه الرؤية فان ” الحكومة ترى أن كل أبناء دارفور في الجامعات ضد النظام، ويؤيدون الحركات المسلحة، وتتعامل معهم تعاملاً أمنياً، رغم أن مطالبهم هي مطالب طلاب”، وهذا يعني أنها تحرص على قمعهم ومصادرة حرياتهم.
في سياق الأزمة جاء قرار وزارة التربية والتعليم، الذي تلقته الكنائس، و نصً على منع الطلاب المسيحيين من عطلة الأحد ( تفاصيل الخبر هنا في صحيفة “التحرير” الالكترونية)، ويؤشر القرار العشوائي ، إلى طبيعة النهج الاستبدادي، الذي لا يحترم التعددية الدينية وحقوق الإنسان، و يؤكد في الوقت نفسه على مستوى ودرجة الغباء السياسي.
قرار وزارة التربية والتعليم يعني أن الحكومة تتصرف بدون أدنى احترام للإنسان السوداني، وحقه المشروع، في التمتع بحقوقه الإنسانية والسياسية والدينية، وبينها حقوق العبادة للمسيحيين، ما يعني أن النظام ينتهك حقوق المسلمين (أبناء دارفور مثلاً)، كما ينتهك حقوق المسيحيين، وحقوق المواطنة بشكل عام.
على سبيل المثال فقط، ورغم أن النظام لا يحترم قوانينه، فان الدستور الانتقالي، نص على أن تحترم الدولة “الحقوق الدينية“، وجاء في فصله الأول، تحت عنوان ” الحقوق” أن تحترم الدولة ” العبادة والتجمع وفقاً لشعائر أي دين أو معتقد، وإنشاء أماكن لتلك الأغراض والمحافظة عليها”، ومن دون شك فان عطلة الأحد حق للمسيحيين.
ما جرى ويجري لطلاب دارفور في جامعة بخت الرضا، وغيرها، إضافة إلى استهداف حق الطلاب المسيحيين، بمصادرة حقهم في عطلة الأحد، بمدارس كنسية، ذات طبيعة خاصة، يشكل انتهاكاً صارخاً، لحقوق الإنسان السوداني المسلم والمسيحي، كما ينم ذلك عن “غباء سياسي” شديد ومتزايد.
أزمة طلاب دارفور والطلاب المسيحيين، تؤكد مجدداً، أن النظام في السودان يضرب الحريات السياسية والفردية، ويحرم الإنسان السوداني من حقوقه، التي نصت عليها الأديان واحترمتها القيم الإنسانية العليا، والقوانين الدولية، كما أن قراراته، العشوائية، الرعناء، تضرب قيم العدالة والمساواة والتعايش بين الأعراق والثقافات والأديان.