أسوأ خاتمة تختتم بها السلطة الانتقالية في الخرطوم عام ٢٠٢٠ تتمثل في عملية اختطاف وتعذيب وقتل الشهيد بهاء الدين نوري.
هذا الحدث الدموي تزامن مع تفاعلات تلاحم السودانيين مع جيشهم الباسل الذي يزود عن الأرض على الحدود مع أثيوبيا.
تحرك القوات المسلحة شكل ويشكل عملا ايجابيا ووطنيا يحظى بدعم واحترام ، ما يعني أن الجيش في زمن التحول نحو الديمقراطية في مقدوره أن يلعب دوره المهم والحيوي وبجدارة واقتدار.
إنه دور حماية الوطن وانسانه، وخياره الديمقراطي، وليس الزج به لخوض معارك داخلية لأسباب تخص الحاكم الديكتاتوري، كما كان الحال في سنوات حكم النظام المستبد، الذي أسقطه الشعب بثورته السلمية .
في أجواء الفرح بوثبة جيشنا هذه الأيام جاءت عملية اغتيال الشهيد نوري لتكشف بشاعة فعل مدان، وأسوأ فعل مرفوض عشية بدء العام ٢٠٢١.
الشهيد انسان بسيط،ومكافح، وكان في محل عمله داخل سوق ، وفي عملية أشبه بعمليات القراصنة والمجرمين المحترفين جرى اختطافه بواسطة قوة تابعة لقوات (الدعم السريع) ثم خضع لتعذيب وضرب قاتل،وفقا لتأكيدات عملية التشريح والنيابة،ولا أحد يعرف لماذا جرى ارتكاب مثل هذا العمل اللاانساني .
لا يوجد أي مبرر للاختطاف وتعذيب الشهيد، وترويع أهله، لأنهم على مدى أيام كانوا يبحثون عن إبنهم الذي فقدوه بعدما ذهب كالمعتاد الى عمله وسط الناس وليس في مخبأ ،قبل ان يعلموا بأنه قتل ! .
هذا هو حدث الساعة في السودان الآن بل في كل وقت لأنه يضاف الى سجل الشهداء، وستشكل هذه الجريمة حدا فاصلا في رأيي لقطف ثمار الجهود الشعبية، لمنع ارهاب وقتل المواطنين بدم بارد ، ووضع حد لمسلسل القمع، وبدء تولي الشرطة السودانية والنيابة العامة المستقلة عن الجهاز التنفيذي مسؤوليات التحري أو التوقيف وفقا للقانون اذا كانت هناك تهمة موجهة لأي إنسان.
لا يوجد ما يبرر الاختطاف والقتل للأبرياء الا في عقول هواة التعذيب والسحل .
في حالة نوري فان أدلة جريمة الاختطاف وحجب واخفاء الشهيد عن أسرته ثم التعذيب والقتل العمد واضحة للعيان، وفقا لتأكيدات وبيانات رسمية وغير رسمية .
لا حديث يمكن أن يعلو على الحقيقة التي أشرت اليها في مقال سابق بعنوان (الخروج من مستنقع الارهاب لا يلغي صوت الشارع وغضبه ).
أشرت في المقال الى استمرار (القمع في زمن الحرية) ..
أي أن اغتيال نوري لم يكن الأول وحتما لن يكون الأخير إذا استمر تعامل السلطة الانتقالية مع مثل هذه الأحداث باستخفاف و استهانة وصفت ما وقع من عملية قتل لمواطنين بأنه نتاج (احتكاك ) بين عسكريين ومواطنين،كما جاء في بيان أصدره مجلس الأمن والدفاع هذه الأيام .
في هذا السياق ، معلوم أن تحركات ايجابية جرت على الساحة السودانية، فالنيابة العامة تحركت لتوقيف المتهمين بارتكاب الجريمة، و قيادة (الدعم السريع ) رفعت الحصانة عن منسوبيها المتهمين بارتكاب الجريمة وتعهدت بدعم العدالة ، وتجمع المهنيين كان في صدارة الأصوات والقوى التي تحركت بحيوية .
وكان وما زال في طليعة الثوار لجان المقاومة والشعب بمختلف قطاعاته، للتصدي ورفع الصوت عاليا للتنديد ومواجهة مظاهر القمع .
هذه الجريمة تضع السلطة الانتقالية أمام أصعب الاختبارات،ويشمل ذلك مجلس السيادة والحكومة الانتقالية و(قوى الحرية) و(مجلس الشركاء) الذي لم نسمع منه حتى الآن موقفا عمليا في هذا الشأن .
كل هذه الجهات اذا لم تتخذ مواقف عملية ملموسة ، وخطوات تضع حدا لممارسات العصابات التي تمارس الاختطاف والتعذيب والاعتقال والقتل ،فانها ستزيد البون الشاسع الذي يفصلها عن الشارع الغاضب عليها حاليا.
هذا يعني أنه في حال استمرار مسلسل الدم الذي يهدد أمن المواطن بالقتل فان هذا المسلسل المرفوض يحمل بذور الاطاحة بالسلطة الانتقالية الحالية بمسمياتها المتعددة، وهذا سيكون نتيجة طبيعية لحراك شعبي مجرب، اذ كانت وستكون الكلمة الفصل في معارك الوطن وساحاته لصوت الشعب، ممثلا في شبابه من الجنسين.
هذا معناه أيضا أنه في حال استمرت عمليات البلطجة والقرصنة من منسوبين للدعم السريع أو غيره من الأجهزة العسكرية والأمنية ،فان السلطة الانتقالية ستؤكد -بفشلها في حماية المواطن من المغامرين المنتهكين لحقوق الإنسان- أنها لا تستحق أن تقود الشعب، بعد ثورة سلمية رفعت العدالة عنوانا حيويا يحظى بأولوية لا مساومة بشأنها، الى جانب (الحرية والسلام).
اغتيال بهاء الدين نوري امتحان قاس للعسكريين (شركاء) الفترة الانتقالية،اذ أنهم مسؤولون عن ادارة الأجهزة الأمنية والعسكرية، فهم يعينون وزيري الدفاع والداخلية في حكومة الفترة الانتقالية التي لا حول لها ولا طول في هذا الشأن .
أي أن (الشركاء العسكريين) مسؤولون عن أي خلل أوتجاوزات صارخة غير قانونية في اداء منسوبي الأجهزة العسكرية والأمنية ،.
يبدو واضحا أنهم في مسيس الحاجة الى الاهتمام بتنظيم وتطوير وتحديث وتدريب الأجهزة كافة بشأن المناخ الجديد في السودان واستحقاقاته ،وفي صدارتها احترام سيادة القانون وحقوق الانسان، وليس الاهتمام الشديد بالحكم وفرض سياسات خارجية غير متوازنة على السودانيين .
في هذا السياق أحيي تلاحم لجان المقاومة والشارع بشكل عام مع أسرة الشهيد نوري وكل شهداء الثورة السلمية.
تشييعكم المهيب للشهيد حمل رسالة عنوانها الأهم أن ثورتنا مستمرة، ولن يتوقف نبض الشارع ،لأنه سيرسم بقوة واقتدار ملامح سودان الحرية والسلام والعدالة لجميع السودانيين، سواء كانوا من مؤيدي وداعمي ثورة الشعب المدهشة، أو حتى من وضعوا أنفسهم في مواقع أخري،لأنهم سودانيون، ويجب أن يحظى الجميع بمظلة العدالة لا القمع أو الانتقام أو الإقصاء.
أحيي أسر الشهداء كافة، وبينهم أسرة بهاء الدين نوري،وكان رائعا حديث محمد نوري شقيق الشهيد الذي خاطب المشيعين بنبض الاعتدال والمنطق والقانون ،رغم الوجع الشديد .
لستم وحدكم يا نوري، ويا أسر الشهداء ..
كل عشاق الحرية والعدالة معكم الى أن يتم احقاق الحق بمحاكمة من سفكوا الدماء وروعوا أمهات وآباء وأخوات وإخوة الشهيد والشهيدة والجريح والجريحة والمفقود والمفقودة.
الثورة عملية مستمرة .. تنتصر بالتضحيات.. وبدماء الشهداء.. وبتمسكنا الصارم بقيم الثورة، وسلميتنا الباهرة ..ووعينا بأولويات المرحلة ..
المستقبل للعدالة..
المستقبل لسيادة القانون ..
لا مستقبل للقتلة والمجرمين..
لندن – ٣٠ ديسمبر ٢٠٢٠