بدعوة مُلحَّة من أبنائي ، على إثر وعود متكررة ومؤجَّلة في كل مرة من جانبي لهم ، بسبب مشغولياتي الجمَّة بأشياء أخرى كثيرة ، شاهدت معهم أخيراً ولأول مرة في بحر الأسبوع المنصرم ، الفيلم الروائي السوداني الجديد: ” ستموت في العشرين ” للمخرج أمجد أبو العلا. ذلك الفيلم الذي زين لي الأولاد مشاهدته مراراً من فرط إعجابهم به ، وكيف أنه يعد أول فيلم سوداني يُطرح من خلال موقع ” نتفليكس ” العالمي على اليوتويب الخ ، والذي ذاع صيته مؤخراً ، بعد أن حظي بقبول وتقدير واسعين على الصعيدين الأقليمي والعالمي ، حيث نال جائزة مرموقة بمهرجان البندقية للسينما بإيطاليا ، بل جاء في الأنباء أيضاً أنه قد رُشِّح مؤخراً لنيل إحدى جوائز الأوسكار نفسها ، وذلك لعمري يمثل في حد ذاته فتحاً غير مسبوق بالنسبة للسودان في دنيا الفن السابع على المستوى العالمي ، نتمنى أن تتبعه فتوحات وإنجازات باهرة أخرى في هذا المجال في المستقبل القريب بإذن الله.
هذا ، وبصرف النظر عن الخصائص والمميزات الفنية الصرفة لهذا الفيلم من حيث الإخراج والتصوير والتمثيل والحبكة السينمائية والمؤثرات الصوتية الخ التي تضافرت جميعها لكي تجعل من هذا الفيلم عملاً فنياً عالي المستوى في بابه ، مما أهله لذلك الترحيب والتقدير والإطراء الذي ظل يحظى به داخلياً وخارجيا ، وبقطع النظر كذلك عن الحمولة الإيديولوجية الأساسية التي جسدها ذلك العمل ، والتي يبقى مؤدَّاها العام هو الانحياز للفعل الوجودي للإنسان، انطلاقاً مما يمليه عليه عقله وتفكيره الحر في نطاق عالم الحس والمشاهدة فقط ، وتحمل مسؤوليات وتبعات ما ينجم عن ذلك ، والقطع في المقابل مع سائر أنماط التفكير والسلوك القدري ، ومع أية إملاءات أو تعاليم أخرى من أي نوع تأتيه من أي مصدر آخر ، بحسبان أن ذلك هو سبيل التحرر والانعتاق والتقدم والانطلاق إلى الأمام الخ ، أحسست كمشاهد مع كل ما تقدم ذكره ، بالأثر القوي لفن الطيب صالح بثيماته المميزة على سائر بنية هذا الفيلم ، وذلك من حيث الحبكة ، والسيناريو ، والحوار ، وتصوير الشخصيات ، فضلاً عن الملامح الفولكلورية ، وحتى المؤثرات الفنية والديكور.
والواقع أن تأثير الفن الروائي والقصصي للطيب صالح على مجمل مسيرة الإبداع السردي والدرامي المعاصر في السودان ، أمر مُشاهَد ومُلاحَظ إلى حد كبير. فقد ابتدر هذا الكاتب العبقري حقاً ، أنماطاً من التأليف السردي والدرامي ، ذات السطوة الفنية والمعرفية الآسرة التي ما تزال تغوي أجيالاً متعاقبة من المبدعين السودانيين حذو طريقتها ، والنسج على منوالها قصداً كان ذلك أو عفواً من خلال ما يعرف بالتناص.
ومن الملاحظ أن أثر الطيب صالح يتجلَّى بصفة خاصة على نفر معتبر من ممارسي الكتابة في هذه المجالات الذين ينتمون إلى منطقة وسط وشمال السودان ، إذا ما قورنوا برصفائهم من المناطق الأخرى مثل: إبراهيم اسحق إبراهيم ، والزين بانقا ، وعبد العزيز بركة ساكن على سبيل المثال. فهؤلاء ظلوا ” يصدرون في كتاباتهم بالأحرى عن خلفيات اجتماعية وثقافية مختلفة نوعاً ما.
ولعل أول ما يلفت انتباهنا على سبيل المقارنة بين فيلم ” ستموت في العشرين ” وأعمال الطيب صالح مثل روايتي: ” عرس الزين ” و ” موسم الهجرة إلى الشمال ” مثلاً ، ذلك الحضور القوي للشأن الغيبي والماورائي والصوفي الخ في كليهما ، وما يجري مجرى ذلك من النبوءات وأقوال العرافين والنساك والشيوخ الخ ، وإن اختلف موقف الفيلم الذي كأنه يضمر موقفاً مُغايراً نوعاً ما للحمولة الإيديولوجية والرسالة الأخلاقية لمجمل أعمال الطيب صالح ، بإزاء الروحانيات وعالم الغيب بصفة عامة.
مهما يكن من أمر ، فإن الروح الفنية العامة للطيب صالح – بحسب رأينا – ظلت مهيمنة على بنية هذا الفيلم بصفة مجملة ، كما تجلت في تفاصيل محددة بعينها فيه.
فالكمبو ، أي معسكر العمال الزراعيين الموسميين القائم إلى جوار قرية بطل الفيلم ” مُزمِّل ” ، ذلك الكمبو بتركيبته وخصائصه السكانية والاجتماعية والاقتصادية ، هو نفسه ” الواحة ” أو واحة الخدم ، ذلك الحي العشوائي الذي كان يقوم على هامش قرية ” ود حامد ” في رواية ” عرس الزين ” ، و الذي كان يقصده طلاب اللذة والقصف والعربدة من شباب القرية ومراهقيها.
أما القونة ” ست النساء ” ، خليلة ” سليمان ” الفنان والمثقف صديق البطل ” مُزَّمل ” رغم فارق السن ، وعرّابه على درب ” الحداثة والتحرر و الانعتاق ” ، فلعلها تقابل ” السَّارة ” إحدى فتيات الواحة ، وصاحبة سيف الدين في رواية عرس الزين.
وأما سليمان نفسه ، والذي جسد دوره وأجاده بامتياز ، ابن جيلنا ودفعتنا بالجامعة الفنان القدير الدكتور محمود ميسرة السرّاج ، فيبدو كما لو كان مزيجاً بين شخصيتي ” سيف الدين ” في رواية: عرس الزين في بوهيميته ، ومصطفى سعيد في رواية: ” موسم الهجرة إلى الشمال ” في ثقافته وأسفاره وانفتاحه على العالم على التوالي. أفلا تذكرنا غرفة سليمان الغريبة بمحتوياتها وأثاثها، وخصوصاً بشذوذها عن سياقها في تلك القرية البسيطة من قرى الريف السوداني ، بغرفة مصطفى سعيد الغامضة بمنزله في قرية ود حامد بأثاثها وديكورها الإفرنجي ، ولوحاتها ومقتنياتها الفنية ؟. ربما الفرق الوحيد هو خلو غرفة سليمان من تلك الكتب الكثيرة جداً التي كانت تنوء بها أرفف غرفة مصطفى سعيد ، والتي ربما عوَّض عنها وجود آلة العرض السينمائي في غرفة سليمان.
وإلى جانب ذلك ، تذكرنا الألفاظ النابية التي فاه بها ” سليمان ” في حوار له مع ” مزمل ” نوعاً ما ، بسفاهة بنت مجذوب في رواية: موسم الهجرة إلى الشمال ، مع اختلاف السياقين اختلافاً بائنا.
أما موضوعياً ورمزياً أيضاً ، فإن مشهد البطل مزمّل وهو يعدو بكل قوته وراء الشاحنة المتجهة من قريته نحو الخرطوم ، فتذكرنا بمشهد غرق مصطفى سعيد في النيل ، أو بالأحرى اختفائه بين أمواجه الصاخبة التي حملته ذات فيضان استثنائي نحو الشمال. ولعل مزمل قد قرر أن يعمل بنصيحة عرابه سليمان بأن يرحل من قريته بالجزيرة أي من اتجاه الجنوب ، إلى الخرطوم العاصمة شمالاً مع اتجاه النيل في جريانه ، ومنها إلى مصر ثم أوروبا ، وذاك هو لعمري الشمال نفسه الذي كانت تهفو إليه نفس مصطفى سعيد.
خالد محمد فرح \ الخرطوم