(1)
ترَى لِمَه أرادتْ ليَ الأقدار الغلّابة أن أطالع رواية “الطليعي الأسود” للبناني إدوارد عطية التي ترجمها البروفسور النابه بدر الدين الهاشمي، فلا أبلغ فصلها الأخير، إلا ويبلغني نبأ رحيل صديقي الكبير حسن عابدين . . ؟
كنتُ أعرف أنّ للرّاحل قصّة مع تلك الرواية التي كاد أن ينساها أهل السودان وهي عنهم. أعرف عن الرّاحل العزيز، أنّهُ مهمومٌ بالتاريخ الإجتماعي ، لأنّ علم التاريخ الذي تخصّص فيه، لا يقف على الوثائق والمستندات الرسمية وحدها ، بل هو العلم الذي يمشي مع الناس وبهم وعنهم وإليهم. مؤلف عابدين قبل الأخير : “سودانيون وانجليز”، كان تمريناً مشوقاً في هذا الاتجاه .
(2)
تعود علاقتي بالدكتور عابدين ومعرفتي به منذ أيامي طالباً في كلية الاقتصاد وهو يحاضر في شعبة التاريخ بكلية الآداب ، بعد عودته من بعثته للدكتوراة في الولايات المتحدة الأمريكية. التقينا في العاصمة السعودية الرياض على أيامي قنصلا في سفارتنا هناك ودكتور حسن محاضرا في جامعة الملك سعود . ثم جمعتنا وزارة الخارجية ، حين جاءها سفيراً بالتعيين السياسي. توثقت علاقتي به وبأسرته، بعد أن عملتُ سفيرا ثانٍ نائباً له وهو سفيرٌ للسّودان في المملكة المتحدة في عام 2000م وحتى 2006م..
تقاسمتُ مع الرّاحل حسن عابدين اهتماماتٍ فكرية شتى، اقتراباً وابتعاداً، وإنْ تباينتْ رؤانا حول بعض تلك الاهتمامات ، لكنها لم تلامس حدودَ الاختلاف المفضي إلى تباعد أو خصام . كان مشاركاً هو في تدشين بعض مؤلفاتي، كما شاركتُ أنا في تدشين بعض انتاجه الفكري. .
(3)
في خلال مبادلاتنا ومفاكراتنا الأدبية تلك ، فاتحني مرّة عن فشله في الحصول على رواية “الطليعي الأسود” (لندن،1952) لمؤلفها اللبناني “الكولونيالي” القديم إدوارد عطية. يوافقني الرّاحل حسن عابدين في النظر الموضوعي إلى تجربة اللبناني إدوارد عطية، إلى أبعد من وظيفته في إدارة العلاقات العامة التابعة للاستخبارات . كان إدوارد قريباً من السكرتير الإداري نائب الحاكم العام في السودان : دوغلاس نيوبولد، وأيضاً هوَ ذلك المُخلص لرئيسه المباشر في قـلـم المخابرات: المستر “بيـني”. الكولونيالي دوغلاس نيوبولد هو مؤسّس الإذاعة السودانية عام 1940م ، وله يدٌ طولى في تأسيس كلية الخرطوم الجامعية ، التي كبرتْ بعد رحيله ببضعة سنوات فشمختْ جامعة كاملة المعالم .
وبرغم ما حكتْ رواية “الطليعي الأسود”، عن ملامسةٍ تمّت بين المُستعمِر (بكسر الميم) والمُستعمَر(بفتح الميم) ، فإنّ صدورها في عام 1952م باللغة الإنجليزية ، لم يُحدث صدىً يقارب ذلك الذي لقيته أعمال روائية في الأدب العربي، صدرتْ لاحقاً ، مثل رواية يحيَ حقي “قنديل أم هاشم”(1968م)، أو رواية سهيل إدريس “الحيّ اللاتيني” (1954م). ولقد نجد في الأدب الأفريقي من يتناول ظاهرة “الكولونيالية” في القارة الأفريقية، مثل النيجيري شينوا أشيبي في روايته “تداعي الأشياء”، وهي أيضا صدرت في زمان بعد رواية إدوارد عطية تلك. .
(4)
من الصّدف المحضة، أنْ حفظتْ في مكتبتي الشخصيّة، نسخة مصوّرة لرواية “الطليعي الأسود”، وافاني بها صديقي الناقد البحاثة دكتور أحمد الصادق برير، نائب المدير السابق في معهد “سيلتي” بالخرطوم، والقابع في بريّـة إحدى الجامعات السعودية ، التي حجبته عنا زمانا تطاول سنين عددا.
كان للرّاحل حسن عابدين رؤية حول الجذور الفكرية لرواية “موسم الهجرة إلى الشمال”. وإنْ كان لا يعدّ نفسه ناقداً، لكنهُ لم يكن على قناعة بالذي راجَ كون عبقري الرواية العربية الطيب صالح، قد نظر في الرواية القصيرة “في قلب الظلام” لجوزيف كونراد ، والتي تدور أحداثها بين لندن والكونغو ، لما فيها من ملامسة لظاهرة الكولونيالية. كانت تلك الظاهرة من هواجس الطيب صالح الأشدّ، حينَ رسم شخصية مصطفى سعيد في روايته تلك، كمصادم قويّ الشكيمة في منازلة المُستعمِر(بكسر الميم) في عقر أرضه، ثمّ انكفائه إلى جذوره لائذاً ببيئته الريفية في السودان، مولياً ظهره لكلّ تاريخ تلك المصادمة التي غدرتْ به في لندن .
(5)
فاتحني صديقي الكبير الرّاحل حسن عابدين بعد أنْ اطلع على النسخة شبه المعطوبة لرواية عطية تلك، فكتب لي تعليقاً في أول صفحة من نسختي من تلك الرواية : أنها بديعة وجديرة بأن تترجم إلى العربية . تداولنا معاً حول شكوكٍ طافت بذهنه إنْ كان الطيّب صالح قد نظر في رواية “الطليعي الأسود” ، فهيَ قد صدرتْ في عام 1952م، في ذات الأيام التي حلّ فيها الطيب موظفاً في هيئة الإذاعة البريطانية. لم نقطع- لا أنا ولا هو – إن كان الأمر كذلك. أمّا عن ترجمة رواية “الطليعي الأسود”، فقد ذكّرته أنّي أتذكر إطلاعي على بعض فصولها مترجمة إلى العربية بقلم الأديب الصحفي السر حسن فضل، منشورة في إحدى الصحف السودانية اليومية قبل سنوات بعيدة. لم أقطع أني رأيتها كتاباً مُترجما. أشار إليّ الراحل حسن عابدين أن أحثّ صديقي البروف بدر الدين الهاشمي ليعمل على ترجمتها.
(6)
ثم كان أن غادر لزيارة كبرى كريمته وأسرتها المقيمة في الولايات المتحدة في كولورادو، وتلك عادته كلّ عام من أعوام تقاعده المُريح. في إحدى زياراته لكولورادو، حدثني أنّهُ عثر على نسـخة أصلية عبر “أمازون دوت كوم”، هي الأولى والأخيرة عندهم . حينَ فاتح بدرالدين إن كان سيعمل على انجاز ترجمة تلك |الرواية “البديعة”، سـرّه أن وجد الهاشمي أشـدَّ حماساً لانجازها، فدفع إليه في محل اقامته في سلطنة عمان بتلك النسخة الأصلية.
لم ينقطع دكتور عابدين عن زياراته السنوية لكولورادو، ليبعد عن أجواء الإرتباك السياسي الذي تعيشه البلاد، وثورة ديسمبر 2018م تتعثر خطاها وتضطرب بين مُكونيهَا المدني والعسكري، ولا يكاد يرسى سفينُها على شاطيءٍ مريح. فاجأني بروفسور الهاشمي بصدور ترجمته المتقنة لرواية “الطليعي الأسود” عن دار المصوّرات الخرطومية، في طبعة أنيقة في نحو 560 صفحة من القطع المتوسط ، وذلك بعد أن عكفَ على ترجمتها من تلك النسخة التي وافاهُ بها الرّاحل حسن عابدين. إنّي أقول لكَ، عزيزي القاريء، إنها ترجمة متقنة، لأنكَ إنْ طالعتَ فصولها لمَا خالجكَ شــكٌّ أنّ كاتبها لا بُـدّ روائيٌّ عربيٌّ فصيحُ، كتبها بلغته العربية الناصعة، لكنّ الهاشمي هو الذي ترجم. .
(7)
إبّان تلكم الأيام، أنجز الرّاحل حسن عابدين كتاباً مميّزاً وفريداً في موضوعه، يعالج جوانب من العلاقات الإنسانية بين السودانيين والإنجليز ، أو لأكون دقيقاً : العلاقات الإنسانية بين المستعمِر والمستعمَر. أثار الكتاب جدلاً واسعاً لشبهة مقاصد الكتاب، إنْ كانت فيه تبرئة للمستعمر من مظلمة ظاهرة الاستعمار البغبضة. حمل كتاب الرّاحل عابدين شيئاً من تأثره بما ورد في رواية إدوارد عطية : “الطليعي الأسود” . رؤية د. عابدين ، وقد توافق رؤية الكثير من أصحاب النظر الموضوعي ، أنْ ليسَ كلّ التجربة الكولونيالية قد حملتْ شروراً وآثاما. ذلك مبحث أفاض فيه مفكرون كبار، مثل إدوارد الآخر: إدوارد سعيد، الذي خاض بفكره في تحليل ظاهرة الاستشراق وأدب ما قبل وبعد “الكولونيالية”.
(8)
حينَ شرعتُ في تصفّح فصولِ رواية “الطليعي الأسوّد”، أفرحني صديقي الهاشمي لإشارته في مفتتح صفحاتها إلى الفضل الذي جاءه من د.حسن عابدين بإهدائه نسخة الرواية إليه، وحثه له على ترجمتها. ذلك من وفاء أعرفه عند الهاشمي. كنتُ أعرف عنه كذلك حرصه دائماً ليوصي شـقيقته الدكتورة نازك الهاشمي، لتسلمني نسخاً من كلّ إصدارةٍ تخرج لهُ عن “دار المصورات”. تسلمتُ بالفعل نسختي من نازك، ثمَّ ترقبتُ عودة عابدين من كولورادو لأطلعه على المفاجأة الجميلة التي تنتظره في الخرطوم .
ولأنهُ عوّدني أن يسارع في الاتصال بي حين يؤوب من الولايات المتحة، لم يخالجني شكٌّ أنّهُ لم يصل الخرطوم بعد. التهمتُ فصول رواية “الطليعي الأسود” خلال أيـام. كــان د.عابدين وقتها قد وصل الخرطوم وحاصرته الجائحة ولزم المستشفى ، ولم أكن أعلم . سعيتُ حثيثاً أتقصّى عن حقيقة الخبر، ولم أظفر بشيء. ومن يعرفون عميق صلاتي بدكتورحسن لاحقوني بالسؤال عنه ، وأنا عاجز وهاتفه لا يستجيب، ولم أكن أعلم بداية، أنه قد عاد إلى الخرطوم. صديقنا المشترك العزيز حسن تاج السر يهاتفني من لندن. ابراهيم طه على واتسابه من روما . السّر سيدأحمد كذلك من كندا. ذلك إشفاق أثار مخاوفي . بعد محاولات عديدة أجابني ابنه الطبيب أيمن، وأكد لي إصابة الدكتور بالجائحة، تحاصره في صراعٍ غير متكافيء وهو يدلف إلى سنته الأولى من سنواته الثمانين. قال لي أيمن أن حالته الصحية غير مطمئنة. زاد ت مخاوفي بعد حديث أيمن . من قلقي هاتفت صديقنا المشترك والذي بينه ودكتور عابدين مودة عميقة. قال لي البروف على شمو أنه قد حدثه البارحة وبدت حالته إلى تحسّن، وإنْ لاحظ وهناً في صوته.
(9)
بعد دقائق من مكالمتي مع البروف، وجدتُ خبر رّحيل د.حسن عابدين قد انتشر في مواقع الواتساب، وعبارات التعازي تتواتر من “قروب” إلى آخر. بعد مضي ساعات على رحيله، عُدتُ لأصدقائه ومعارفه أعزّي، إذ لم أجد طريقاً لأعزّي أسرته . هاتفتُ البروف علي شـمّو، فكاد من حزنه أن لا يصدق النبأ ، مؤكداً لي ثانبة أنه قد تحدث معه البارحة. غير مرافقي الدكتور عابدين زوجه وإبنه- فيما هو يصارع العلّة الغادرة – كان البروف شـمّو هو آخر من تحدّث معه ، من بين أصدقائه.
(10)
في الثلاثين من ديسمبر2020م ، رَحلَ من تخصّص في علم التاريخ، لكنه لم يكتفِ بتدريسه، بل آثر أن يتجوّل بشخصهِ ومواقفه في أزمنة التاريخ وأمكنته . لقد أهدى إدوارد عطية روايته التي ملكتْ لبَّ د.حسن إلى الطليعيين جميعاً، لكأنّهُ ألمحَ إلى المبادرين الشجعان الذين لا يبالون بمن يرضى أو من يسخط . آخر أمره عبر دكتور حسن عابدين إلى الشاطيء الآخر . . إلى من استرد وديعته ، سبحانه وتعالى . له الرحمة والمغفرة، وصبّر الله السيدة الجليلة مناهل أبو كشوة وبنيها المكلومين . .
الخرطوم – 2 يناير 2021م