أعزائي القراء…
كل عام.. أنتم والوطن بخير
بينما كنت أبحث عن شيء ما في مكتبتي الخاصة، استوقفتني هذه المادة وحدقت فيها طويلاً كأنني استنطق تاريخاً مضى وهو مُثقل بآمال وآلام أمة رزحت تحت نير الظالمين لعقود عجاف. ورأيت فيها ما يمكن أن يُهدى في مستهل عام جديد لعل التفاؤل الذي ينبض من بين سطورها يكون بلسماً لجراح تقيحت وأفرزت صديدها. والمفارقة أنها كُتبت قبل 38 عاماً بالتمام والكمال، وهي خاتمة كتابي الأول الموسوم بعنوان (محنة النخبة السودانية) والذي صدر في القاهرة في يناير من العام 1993م مع أن المتأمل فيها ملياً يظن أنها خُطت بعين اليوم. فأنظروا للرهق الذي رمانا الأبالسة بدائه وأنسلوا غير عابئين بسنوات عزيزة سُلخت سلخاً من جلد الوطن المكلوم!
كانت السنوات (1985م-1992م) التي تناولها هذا الكتاب مليئة بالتجارب السياسية، وهي تجارب بالرغم من قتامتها وضبابيتها لكنني اعتقد جازماً أنها ستكون إضافة جديدة في سجل القوى الوطنية والديمقراطية. ومن المؤكد أنها بسلبياتها وإيجابياتها ستضع بصماتها بوضوح شديد في المسيرة السياسية القادمة للسودان.
برغم بروز مسحة تشاؤمية في سرد وقائعها، إلا أنني أجد نفسي من أكثر المتفائلين بمستقبل السودان الديمقراطي القادم. لأنه بالفعل يوجد ضوء آخر النفق. وحتى لو تنكبت بنا السبل وتعثرت خطاوينا إلا أننا بالغوه ولو بشق الأنفس. وتفاؤلي لا ينطلق من فراغ وإنما هناك كثيراً من الشواهد التي تسنده، فقد أفضت التجارب المستمرة للحكم إلى وقوع السودان تحت قبضة حزب عقائدي ارتدى معطف الإسلام وراح يثبت في أقدامه بأساليب ديكتاتورية وفاشستية فظيعة، لم يشهد السودان لها مثيلاً في تاريخه السياسي برغم تجريبه لنظامين ديكتاتوريين سابقين.
لكن التجربة الراهنة تختلف تماماً، ليس في الممارسات فحسب ولكن لأن حزباً عقائدياً أيدولوجياً سخَّر كل إمكانات الدولة لصالح مشروعه، ويحاول تطويع طاقات الشعب الروحية والجسدية لمصلحته أيضاً، وبدأ فعلياً في تطبيق مشروع الدولة الثيوقراطية. باختصار فقد أتيحت للجبهة الإسلامية فرصة استنزال كل برامجها الأيدولوجية والسياسية والاقتصادية إلى أرض الواقع، وقد أدركت القوى الديمقراطية عمق المأزق الذي قادها له برنامج هذا الحزب مما استوجب وقفة قاسية مع النفس لا تخلو من عتاب وجلدٍ للذات!
تبعاً لذلك عمدت النخبة المثقفة والواعية في المجتمع السوداني إلى الدخول لعش (القضايا المفخخة) التي كانت تخشى مجرد الاقتراب منها، بل تسعد بالاغتراب عنها، طيلة عقود ما بعد الاستقلال. وعليه فقد فرضت قضايا الديمقراطية والدين والدولة والهوية وتوزيع الثروة وجودها بإلحاح شديد، وأدركت هذه النخبة ضرورة مناقشتها بعمق والتحاور حولها بموضوعية، وذلك ما يمكن أن يضع الأسس الكفيلة بالانفكاك عملياً من دوامة الحلقة الشريرة!
برغم أن الخطوة في طورها الجنيني وبرغم أن تجربة الجبهة الإسلامية في الحكم باهظة الكلفة مادياً ومعنوياً، إلا أن الذي يخفف من وطأة كل ذلك الإقدام ثمَّ جرأة الطرح في المواضيع سالفة الذكر. لقد حدثت هجرات جماعية كثيفة ومفزعة من السودان للخارج، وكان ذلك شيئاً طبيعياً نتيجة سياسات القهر والكبت الثقافي والتعتيم الفكري والضنك المعيشي والحروب. ومع أنها ظاهرة سلبية لكن لابد من الإقرار بأن لها إيجابيات تبلورت دون ما تخطيط مسبق، فهذه الشرائح المهاجرة التصقت بواقع أكثر تعقيداً تتحكم فيه سلسلة من الصراعات الفكرية والثقافية والسياسية.
لقد وجد المثقفون السودانيون أنفسهم في أتون هذه المعارك يشقون عبابها ويخوضون غمارها مع الخائضين، وذلك لابد أن ينتج واقعاً جديداً يمكن إضافته لتجارب سابقة، وكان المثقف السوداني فيما مضى يميل لانطوائية الأفكار، بل تأخذه العزة بالإثم فلا يأبه لما يقال، ويقبل على أحاديث الشفاهة والمساجلات غير المنتجة، ويظلم نفسه كثيراً وهو نتاج واقع متعدد ثقافياً وفكرياً ودينياً وسياسياً، لا يؤثر ذلك لشح في المعرفة أو ضن بها أو هروب من المخاطر وإيثار النأي والسلامة، وإنما نتيجة عوامل كثيرة ومتداخلة تحكمها اللا مبالاة أحياناً والضيق والتذمر أحياناً أخر!
هؤلاء المهاجرون اقتحموا أسوار منظمات المجتمع المدني والهيئات والأكاديميات المعنية بشئون المعرفة والعلم والتكنلوجيا وحقوق الإنسان وسجلوا تواجداً في كبريات الصحف والمجلات والدوريات، يبتدرون الندوات، ويقيمون المحاضرات، وينظمون المهرجانات في إطار حركة دؤوبة. كما أن الغربة التقليدية في بعض الأقطار العربية لم تعُد كلها ترفاً، كما لم تصبح أسيرة النستولوجيا والبكائيات الحزينة والشجن الرومانسي. فالهم السوداني بقضاياه المفخخة وجد متسعاً في الحوارات، واتضح جلياً نُبل الهدف وسمو الغاية في الكيفية التي يمكن أن ينطلق بها هذا المارد الجبار إلى الأمام. وفي كل لا شك أن الاحتكاك المباشر بواقع حضاري منفتح له دوافعه التحريضية والمستفزة إيجابياً، بحسب أن تلك طيوراً مهاجرة لابد وأن تعود يوماً لأوكارها كي تشارك في عملية التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي للوطن!
إن تجربة الجبهة الإسلامية في الحكم مع كلفتها الباهظة أعطت القناعة الكاملة بجدوى الديمقراطية (بضدها تتبين الأشياء). كما أعطت القناعة أيضاً بأن التطرف مؤذٍ والتسلط أكثر إيذاءً لا سيما أن واقع السودان وتركيبته المُعقدة لا تحتمل الاشتطاط في الرأي أو التعصب في الفكر، وبالقدر نفسه لا تحتمل المهادنة ولا (مسك العصا من الوسط). لكن القائمين على أمر النظام الحالي في السودان أخطأوا قراءة هذا الواقع واعتقدوا أن صبر السودانيين إذعان وصمتهم استسلام، وتلك حقائق لا نقول إنهم نسوها بل تناسوها!
إن الناظر لخريطة العالم اليوم بكل مكوناته، يجد الحديث عن الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان مادة يومية مطروحة بسخاء لكل من يريد أن يقتات منها، وأصبحت هناك مؤازرة حقيقية من الدول التي نعمت بهذه الخيارات تجاه الدول التي حُرمت منها. كما أصبح العالم لا يرى بأساً في فرض كل ذلك بآليات جديدة اهتداءً بمؤشرات نظام عالمي جديد. وذلك ما ذهب إليه فرانسيس فوكوياما المفكر الأمريكي الياباني الأصل في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير) والذي خلص فيه إلى انتصار الديمقراطية الليبرالية في النموذج الغربي انتصاراً كاملاً بعد انحسار النموذج الشيوعي.
وفي واقع الأمر ذلك ما ينطبق على السودان بعد تلك التجارب العديدة والمريرة. ولو كان الحديث حديث أمانٍ – قبل طي صفحات هذا الكتاب – لتمنيت مخلصاً أن يدفع المثقف السوداني بنفسه أكثر وأكثر ويدلو بدلوه في الحرية التي ننشدها وبالطريقة الديمقراطية التي ناضلنا من أجلها. فقد آن أوان اللحظة التي يزيل فيه بعض الناس ما علق بعيونهم من غشاوة وما لصق بآذانهم من وقر. ليتنا جعلنا من شعارات الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية واقعاً معاشاً وليس ترفاً نتعاطاه عند اللزوم. لأنني أمل أن لا تتجرع أجيالنا المقبلة محناً أخرى لنخب أُخر، ونكون حينها أشبه (بآل بورون) لم نتعلم شيئاً ولم ننس شيئاً!
والله من وراء القصد.
القاهرة يناير 1993م
آخر الكلام لابد من المحاسبة والديمقراطية وإن طال السفر!!
تعليق: حقاً فقد صدق الطغرائي في ما قال: أُعلَّل النفس بالآمال أرقُبُها/ ما أضيق العيشَ لولا فُسحة الأمَل.
ولهذا تلك أمة داهمها مخاض الثورة عند جذع الوطن!
عن صحيفة الديمقراطي