لم أتحمَّس لتعيين الدكتور عمر القراي مديراً للمركز القومي للمناهج والبحث التربوي، ولا يتعلّق عدم حماستي بأيِّ موقف سلبي من الرجل، بقدر ما يتعلق بما يمكن أن يوجده من توجس لدى كثيرين بسبب انتمائه للحزب الجمهوري.
وذلك لظني في ذلك الوقت أنَّ هناك من سيتربَّص به بعيداً عن أدائه، وسيحاول النيل من الحكومة الانتقالية، وإثارة الرأي العام ضدها، وخصوصاً فلول النظام البائد، الذين يتصيَّدون أي خطأ، من أجل تضخيمه، ومحاولة الاستفادة منه بأقصى ما يمكن.
فور تعيين الرجل، تبادلت الرأي مع صديقي الزميل فيصل عبداللطيف، الذي وجدته يوافقني على أنَّ هذا التعيين سيمثّل عبئاً كبيراً، تدفع تبعاته حكومة حمدوك، وقد حدث ما توقعناه بأسرع مما تخيلنا وأشرس.
إنَّ تعديل المناهج وتطويرها مطلبُ كلِّ تربوي أصيل يدرك ما في مناهجنا من قصور يؤثر سلباً في تنشئة الأجيال، ومن ثَمَّ، في كل مناحي الحياة؛ لأنَّ التعليم هو أساس أيِّ تقدُّم.
وندرك جميعاً أنَّ أدلجة التعليم في ظلِّ النظام البائد، الذي لعب في المناهج، وعاث فيها فساداً، من أكثر المعوقات التي تواجهها بلادنا، وهي تحاول اللحاق بركب العصر.
ولكنَّ إصلاحَ فساد المرحلة الماضية كان يتطلَّب رؤية أعمق، أكثر من تولية شخص له فكره الخاص الذي لا يوافق فكر كثيرين في المجتمع بغض النظر عن مدى صحة ما يعتنقه من فكر، ولكنَّ هذا التباين حريٌّ بأن يوجد توجساً لدى كثيرين، ولا يمكن إقناع أحد بأنَّ ما سيقوم به من عمل لن يتأثر بفكره.
لقد أخطأت حكومة د. حمدوك بهذا الاختيار، وأتاحت الفرصة للمتربصين بها، وخصوصاً من أهل الهَوَس الديني الذين لم يكفهم 30 عاماً من العزف على وتر الدين لتجييش البسطاء، واللعب على “الدقون”، ولا يزالون يروّجون لبضاعتهم التي لا تعرف الكساد؛ بسبب التديُّن المغروس في نفوس أهلنا، وكثير منهم تأخذه العاطفة، وتعوزه المعرفة العميقة بأمور دينه.
وبدا التغيير في المناهج لكثيرين من خبراء التربية والتعليم، حسب ما تورده وسائل الإعلام من آراء ووجهات نظر، كأنه “قصٌّ ولصق” أكثر من كونه دراسةً وتحليلاً يعقبهما التغيير المأمول.
إنَّ المكابرة في قضية مصيرية لن تفيد، فينبغي الإسراع بقفل هذا الباب الذي تأتي منه الريح، والاعتراف بخطأ الاختيار، مع تقديرنا للرجل، وما يملكه من معرفة وعلم وخبرة في مجاله، ولكن المصلحة العليا تقتضي عدم تضييع الوقت في مواجهة هجمة شرسة، لا تستهدفه فحسب، وإنما تستهدف التغيير الذي أحدثته ثورتنا المجيدة.
ومثل هذا الخطأ في الاختيار كان سبباً في توهين الحكومة الانتقالية، سواء تعلق الأمر بالوزراء أو الولاة، وغيرهم من المسؤولين، حتى سالت دماء بسبب ذلك.
وقد يرى بعضنا أن تنحية القراي رضوخ للتيار المتشدد، الذي قد يطمع في ممارسة مزيد من الضغوط لإشاعة فكره، وفرضه على المجتمع، استمراراً لما كان يمارسه في ظل النظام البائد، ولكن الواقع أنَّ تطوير التعليم لن يتحقق في هذه الأجواء المشحونة، وهو يتطلَّب عملاً جماعياً عبر حلقات نقاش، ومؤتمرات، بمشاركة خبراء، لهم قدرتهم على التقييم، ورسم تصور إستراتيجي يمكن تبنِّيه من دون عواصف هوجاء تثير الغبار، وتشتت الفكر.
وحسناً فعلاً الدكتور القراي حين قدم استقالته، وإن بدا غاضباً من رئيس الوزراء الذي وجه إليه خطاب الاستقالة، مستعرضاً ما تعرض له من هجوم شرس، وصل إلى حد التهديد بالتصفية.
وإذ اتفق مع بعض ما أورده القراي حول تعامل رئيس الوزراء معه، إلا أن الاستقالة حلّ مثالي، لتلوث المناخ، الذي لن يتيح له تقديم ما من شأنه إنجاز الهدف الذي جاء من أجله، وما انتهى إليه الأمر يؤكد توجسي الذي كان عند تعيينه.
إن من تطاولوا على الدكتور عمر القراي بالعنف اللفظي والتهديد، والذين فتح فيهم بلاغات، فينبغي محاكمتهم، والنظر في الاتهامات الموجهة منه، حتى ينال كل ذي حقٍّ حقَّه، وينال المذنب ما يستحق من عقوبة حتى يكون عبرةً؛ لأنَّ هذا هو سبيل إقامة دولة مدنية يسودها النظام، ويحكمها القانون، وعليه هو شخصياً أن يتمسك بحقه، ويصل بالتقاضي إلى النهايات.
وهذا الدرس يوضح أن المرحلة تتطلب، ونحن في انتظار حكومة جديدة، حسن الاختيار، والتدقيق فيمن يتولون المسؤولية، ولا يكفي التأهيل والخبرة، في بعض الأحيان، وإنما لا بد من قراءة البيئة المحيطة التي سيتعامل معها المسؤول، والتأكد من قدرته على التفاعل معها، والاستفادة من كلِّ العناصر لبلوغ النجاح بتميّز.
ملحوظة: كتبت المقال قبل استقالة الدكتور عمر القراي، ووضعت بعض اللمسات بعدها، بما يناسب المقام.