الخميس لا سياسة ولن يفلح الفلول..! وهذه البنت الباريسية الخجولة (فيفيان) التي يظن من يراها أنها مولودة في حواري “حي العباسية” كانت تنافح عن السودان وعن تاريخه وثقافته بحمية وحماس عجيبين، وظلت تكتب وتعلِّم وتتعلَّم وتنقّب عن تاريخ السودان في مظانه بمراكز الدنيا ومكتباتها.. ولكننا لم نلتفت إليها بالقدر الكافي؛ فنحن مشغولون بـ(الفتوح الجديدة) في مطاعم السمك! يراها الناس تتجوّل في خفر في ردهات وأروقة جامعة الخرطوم وشعبة اللغة الفرنسية وفي أزقة العباسية رغم أن بعض جدودها كانوا من تلاقح شعوب الفايكنغ بجميلات الجزر الفرنسية، وكان جدها لأمها من جبال البرانس، وتخمّن فيفيان (أو الحاجة أمينة ياجي) أن بعض أصول والدتها تعود إلى الأندلس؛ وربما كان ذلك سبباً في انجذابها نحو الإسلام واللغة العربية! ورغم نشأتها في (مدينة لاروشيل) على الساحل الفرنسي إلا أن الأسرة انتقلت إلى باريس بعد الحرب الكونية، ثم كانت رحلة فيفيان ولقاء المصادفة بالشاب محمد أحمد ياجي- خريج السوربون والدبلوماسي الشهير فيما بعد- الذي جاء إلى فرنسا حينها من جامعة (فؤاد الأول) في مصر لإكمال دراسته بنصيحة عميد الأدب العربي طه حسين.. وكان الزواج ومرافقة ياجي إلى واشنطن وبغداد والكونغو.. ثم استقرت بالسودان وكانت رحلة إنتاجها الغزير وحياتها المُثمرة الخصيبة.. إلى أن حمّ الأجل في 6 ديسمبر 2011 وجرى إنفاذ وصيتها بدفنها في مقابر (حمد النيل).
فهم عميق للدين كما فهمته وطبّقته في حياتها، فهي تعجب للاهتمام بالمظاهر والشكليات مع إهمال جوهر الدين، وتعجب للانفصام بين القول والعمل، والعبادات والأخلاق! وهي قد وصلت للإيمان بعد رحلة طويلة من الشك مثل التي مرّ بها (الإمام الغزالي)..! كانت تكنُّ محبة عارمة لأم درمان بما تمثله من تقاليد شعبية و(مواجبة) وجلسات قهوة و(مناغمة الجيران) ثم انهمكت في الترجمة والبحث والتدريس والتأليف في تاريخ السودان وثقافاته، وفي الدراسات الإسلامية، والأدب الفرنسي، والأدب الإفريقي الفرانكفوني..إلخ وقد ترجمت إلى الفرنسية (الأحاديث الأربعين النووية) وكتبت وترجمت الأحاجي السودانية بتمحيص واستقصاء وجولات مع (الحبوبات) ونساء المدن والأرياف؛ ولشغفها بالمسرح ترجمت بعض الأعمال المسرحية السودانية؛ المك نمر، وتاجوج والمحلق، وخطوبة سهير، وعروس في المطار، ونبتة حبيبتي.. كما ترجمت (يا طالع الشجرة) لتوفيق الحكيم، وترجمت كتاب نعوم شقير (تاريخ السودان وجغرافيته) و(المقاومة الداخلية للحركة المهدية) لمحمد محجوب مالك و(الشلوخ) ليوسف فضل حسن.. و(كتاب التوحيد) لابن عبد الوهاب و(الطراز المنقوش) لعبد القادر الكردفاني، وكانت رسالتها للدكتوراة عن فترة خليفة المهدي عبدالله بن السيد محمد التعايشي وقامت بتأليف كتاب (رجال حول المهدي) و(سلاطين الظل) وتقصد سلاطين الفور بين أعوام 1874-1916، بما يشمل مرحلة مقاومتهم للحكم التركي ثم سيرتهم خلال فترتي المهدية والاحتلال الإنجليزي المصري؛ علاوة على العديد من الدراسات الأخرى والأوراق العلمية في مؤتمرات عديدة داخل وخارج السودان بالإضافة إلى تقديمها لبرنامج إذاعي في القسم الفرنسي بالإذاعة السودانية!
قصة حياة غاية في الإمتاع والإفادة كتبها بإحساس شفيف د.مكي البدري وهو من مترجمي أعمال صاحبة السيرة.. وقد أحسنت دار مدارك للطباعة والنشر في إخراج كتاب أنيق عنها.. وعلى غلافه صورتها بالثوب السوداني وهي ترمي – بكل أناقة وإتقان – طرفه الأعلى على كتفها الأيسر.
murtadamore@gmail.com