في ظل انشغال الجميع بمعارك ادارة المناهج والدموع التي سكبت فوق منابر المساجد بطريقة تدعو للحيرة والاستغراب من شيوخ آخر الزمان، الذين لم تنزل منهم دمعة واحدة ولو على سبيل المجاملة على الذين سفكت دماؤهم من خيرة شباب الوطن من اعتصام القيادة وحتى استشهاد بهاء الدين، وكأنهم لم يسمعوا من قبل بحديث رسول هذه (صلى الله عليه وسلم) عندما قال فيما معناه ان زوال الكعبة حجراً حجراً اهون عند الله من سفك دم إنسان مسلم ظلماً وعدواناً.
نعود لأصل المقال، ونقول إن وزير الخارجية الأميركي زار الخرطوم وسط الغبار الكثيف لمعارك شيوخ آخر الزمان ضد دكتور عمر القراي، وألقى حجراً ثقيلاً في بركة الجدل القائم حول ماهية الاقتصاد السوداني: هل هو نظام اقتصاد السوق الحر أم هو اقتصاد تتحكم فيه الدولة أم هو خليط بين هذا وذاك، أم هو اقتصاد طفيلي يتحكم فيه الوسطاء والسماسرة. وانا شخصيا مقتنع انه اقتصاد طفيلي يتحكم فيه من يمتلك مليون دولار في حسابه.
ما ادهشني حقاً أن الحكومة والإعلام الرسمي وكثير من مواقع التواصل أقاموا الاحتفالات بهذه الزيارة وحملت مانشيتات الصحف وأخبار الاذاعة وحديث الوزراء كله كان منصبا فقط حول جزئية واحدة فقط ، وهي ان الولايات المتحدة ستدفع لصندوق النقد مليار دولار لصالح ديون السودان، وبإمكان السودان ان يقترض سنوياً مليار ونصف المليار دولار من الصندوق، وسيودع اقتصاد السودان العزلة القسرية التي عاشها سنين عدداً، وسيتمكن من التعامل مع كل بنوك واقتصاديات العالم، وسينتعش الجنيه السوداني قليلاً، وستتدفق الاستثمارات من كل حدب وصوب، وسيودع السودانيون حياة الفقر والمسغبة وسيتوفر البنزين والقمح .
هذه هي الصورة الوردية التي رسمها الإعلام الرسمي، وتحدث عنها الوزراء باستفاضة من لدن وزيرة المالية، وحتى أصغر موظف في وزارتها.
ولكن الذي لم يقله الاعلام بشفافية ولم تستطيع وزيرة المالية أن تفصح عنه بكل وضوح استطاع وزير الخزانة الأميركي ان يقوله بدون تردد .. الرجل قال بوضوح شديد وبدون اي تجميل للكلام: “هناك عمل كثير في انتظار الحكومة لتقوم به من أجل الاستفادة من قروض البنك الدولي، وعلى الحكومة ان تعمل على تصحيح سعر الصرف حتى تستطيع أن تستفيد من هذه القروض”.
وكلام الوزير الاميركي واضح ولا يحتاج الى اي شرح أو تفصيل.. الوزير يقول: “يا حكومى ارفعي يدك عن سعر الصرف والا لن تستطيعي الاستدانة من صندوق النقد، ولن يتم دفع اي مبالغ للسودان ما لم يتم تحرير سعر العملة بشكل كامل”.
وكلام الوزير الأميركي موجود وبالنص في مواقع التواصل (صوت وصورة)، ولكن حكومتنا ممثلة في وزيرة الخارجية لم يعيروا كلامه أي ألتفاته، ولم يتوقف عنده أي من الإعلاميين، ومر كلامه على الجميع مرور الكرام رغم أن هذا الحديث هو مربط الفرس، وهو الكلام الأهم والأخطر في مجمل تصريحات الوزير الإعلامية عند زيارته للخرطوم .
إذن الحكومة الآن عليها أن ترفع يدها نهائياً عن سعر الصرف، ويترك ذلك لآليات السوق لتحديد سعر صرف الدولار امام الجنيه. وقصة تحديد ٥٠ جنيها للدولار الجمركي ما هو إلا ذر للرماد في العيون وقريباً جداً ستعرفون ان الحكومة تركت تحديد سعر الدولار الجمركي لاليات السوق
ومثلما ذادت تعريفة الكهرباء بغتة سيحدث ذلك مع الدولار الجمركي .
وسترتفع الأسعار مرة أخرى بشكل جنوني، وسيسجل التضخم نسباً قياسية في الارتفاع، وستتحول معيشة المواطن الغلبان إلى جحيم لا يطاق .
وصلنا الآن إلى منتصف الشهر الأول من شهر يناير بدون ميزانية رسمية للدولة، وكل المؤشرات تقول إن إجازة الميزانية ربما تتأخر لبضعة أيام أو أسابيع والغلاء الطاحن يفتك بالشعب المغلوب على أمره، ووزيرة ماليتنا في انتظار قروض مؤسسات النقد الدولية، وهذه المؤسسات لن تدفع إذا لم يتم تحرير سعر الصرف بشكل جدي.
هذه هي الحقيقة التي لن تفصح عنها الدكتورة هبه حتى تغادر منصبها في الأيام القادمة، وسنظل كذلك وستظل حالتنا من سيء الى أسوأ ونقضي سحابة يومنا بين صفوف الخبز والوقود والدواء. ولن يصلح معها هتافنا القديم ( لن يحكمنا البنك الدولي)؛ لأنه بالفعل حكمنا، وأطبق بكلتا يديه فوق رقابنا.
منك لله يا دكتورة هبة.