(1)
اتفاقية أبراهام (أو إبراهيم) هو عنوان الاتفاقيات التي أبرمتها حكومة إسرائيل مع الإمارات والبحرين وأخيراً مع السودان. والاسم من اختراع الحكومة الإسرائيلية، وأطلق الرئيس الأميركي، ترامب، مزحة أنه كان يظن أن تلك الاتفاقية ستحمل اسمه هو، لا اسم النبي إبراهيم، كما أوحتْ إسرائيل.
يتعجّب السودانيون، وهم يتابعون مسرحية توقيع الحكومة الانتقالية في بلدهم “اتفاقية إبراهيم” تلك مع الجانب الأميركي، والأعجب أن يتم التوقيع في غياب الطرف الثاني الرئيسي، ممثل إسرائيل. ما شوهد على الشاشات حفل توقيع غاية في الغرابة، طرفاه وزير أميركي ووزير العدل السوداني، فيما نصّ الاتفاق على تفعيل تعهّد سابق قطعته القيادة السودانية، عبر محادثة هاتفية مع الرئيس المغادر ترامب، لتطبيع السودان علاقاته مع دولة إسرائيل، ثمناً غير مباشر لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
(2)
بغضّ النظر عن محتوى الاتفاق الذي نسب إلى النبي إبراهيم، فهنالك شأنٌ سياسي له تداعياته الخطيرة، ليس على الولايات المتحدة ولا على دولة إسرائيل، بل على السودان الذي دفع شبابه ثمناً غالياً حتى أسقط حكم عمر البشير قبل نحو عامين، فإذا من يمثلونه لا يسمعون صوته وهم يسارعون في التطبيع مع دولة إسرائيل، ومن دون تفويض يذكر. وتبرز هنا عدة ملاحظات، قد يراها بعضهم أموراً شكلية غير ذات أثر، ولكن دلالاتها لا تخفى على المتابع الحصيف. تتصل أولاها بمن وقعا ذلك الاتفاق المقدّر أن يفضي إلى تطبيع كامل بين السودان وإسرائيل. عن الجانب السوداني، وهو الطرف الأول، وقّع وزير العدل على الاتفاق، ولم يحضر من يمثل الجانب الإسرائيلي، وهو الطرف الثاني المعني بالاتفاق، في الحفل المراسمي. أما العرّاب المؤقت، فهو وزير الخزانة الأميركي، والذي بدا أن العرّاب الأصلي، وهو الرئيس دونالد ترامب، فوّضه للتوقيع.
أما وأن الاتفاق يتصل، في محتواه، بتطبيع العلاقات بين خصمين، واستئناف علاقاتهما الدبلوماسية، يتبادر إلى ذهن المراقب سؤالٌ عن غياب وزيري الخارجية في السودان وإسرائيل المختصيْن بهذا الشأن؟ وإذا كان وزير الخارجية السوداني المكلف موجوداً في الخرطوم، لماذا لم يكلف بالتوقيع على اتفاق التطبيع، وذلك ملف وزارته، ولا يعالجه وزير العدل السوداني، وهو غير مختص بالعلاقات الخارجية؟
(3)
أما الطرف الذي وقع على “اتفاق إبراهيم”، وهو ممثل الحكومة الأميركية، أليس للمراقب أن يتساءل عن ماهية التكييف القانوني لإخراج حفل التوقيع من الناحية المراسمية، أو إن تمّ الصورة المناسبة؟ لربّما يسأل مَن يسأل، إنْ تمّ التأكد من التفويض القانوني لمن وقّعوا ذلك ذلك الاتفاق من حكوماتهم، والاطمئنان إلى مدى توافق الإجراء مع مقتضيات القانون الدولي والتقاليد الدبلوماسية المرعية؟
ذلك أمر لا ينبغي التغافل عن أهميته، إذ هو يتصل بإلزامية بنود ذلك الاتفاق بين طرف حاضر قام بالتوقيع وطرف غائب لم يشارك من يمثله. ثمّة أسئلة قد تشكّك في صدقية ذلك الاتفاق وإلزاميته.
(4)
أمر شكليٌ آخر، قد لا يفطن إليه مراقبٌ غير مدرك لأهميته، يتصل بالمكان الذي تم فيه تنظيم حفل توقيع “اتفاق إبراهيم” واتفاقية منح الولايات المتحدة مليار دولار للسودان سداداً لمتأخراتٍ يطلبها البنك الدولي، فقد تمّ ذلك كله في مكاتب السفارة الأميركية في الخرطوم. وتلك مفارقة تثير العجب، وفيها مفارقة بينة للتقاليد والأعراف الدبلوماسية. من الطبيعي أن تتولى وزارة الخارجية السودانية تنظيم حفل التوقيع على “اتفاق إبراهيم” في مقرّها، لا في مقرّ السفارة الأميركية. ذلك واجب المضيف تجاه ضيفه، بل هو من أبجديات الأتيكيت الدبلوماسي. أما اتفاق المنحة المالية الذي قدم الوزيرالأميركي بشأنه إلى الخرطوم، فكان متوقعاً أن يوقعه، في مكاتب وزارة المالية، وزير المالية السوداني ووزير الخزانة الأميركي الزائر.
(5)
يرى مراقبون سودانيون تلك الأمور، وإن بدتْ شكلية، أنها عكستْ سوء تقدير من الضيف، وهو وزير أميركي زائر، ومن المضيف، وهي الحكومة الانتقالية في الخرطوم. والخشية أن تثير هذه التجاوزات زوبعة لن تهدأ، إذ يرى بعضهم، خصوصاً من الأطراف التي تشارك في الحكومة الانتقالية، وتعارض التطبيع مع دولة إسرائيل، أن في سوء تنظيم توقيع الاتفاقين شبهة تفريط في أمور سيادية لم تراعَ فيها الأعراف الدبلوماسية التي تحفظ كرامة البلاد. من المستهجن أن يذهب وزراء سودانيون كبار إلى سفارة أجنبية ليوقعوا اتفاقيات مع مسؤولين من دولة تلك السفارة.
(6)
وفي المقارنة بين مراسم توقيع وزيري خارجية الإمارات والبحرين “اتفاق إبراهيم” في واشنطن، وبحضور الأطراف الثلاثة المعنية، والعرّاب دونالد ترامب بشخصه، فإن مراسم التوقيع التي تمت في الخرطوم عكست استخفافاً لا يليق، واستسهالاً من الرئيس الأميركي المغادر الذي بعث بوزير خزانته لينجز المهمة، ولم يعبأ حتى بإخطار دولة إسرائيل لإرسال مندوب عنها ليوقع الاتفاق مع وصيفه السوداني في الخرطوم. وأقل وصفٍ للدبلوماسية التي ظلّ يتبعها ترامب، وهو يرفع شعاره “أميركا أولاً”، خلال أعوامه الأربعة في البيت الأبيض، يجول كالثور في مستودع الخزف، أنها دبلوماسية أساسها المقايضة، هذا إن لم نقل إنها دبلوماسية الابتزاز ولَي الأذرع.
يبقى على الحكومة السودانية الانتقالية ضبط ملفاتها، واتباع الشفافية المطلوبة مع شعبها.