تفاقم مأزق التعبير السياسوي عن الهويات التاريخية في السودان في لحظة سياسية انفجرت معها كل التعبيرات المكتومة للمجموعات السودانية من غير الناطقين بالعربية طوال عقود، لتنعكس صراعاً سياسيوياً يتوسل الحقوق، مستلهماً الهويات التاريخية الخام في أكثر من منطقة من مناطق السودان.
كان انفجار سؤال الهويات التاريخية في الإطار السياسوي، في جوهره، تعبيراً عن اختلال كبير في حقوق المواطنة في سياسات دولة المركز الناطقة بالعربية، منذ ما بعد الاستقلال حيال عديد من مواطنيها من غير الناطقين باللغة العربية، في الجنوب والشرق والغرب، وحتى الشمال.
ولعل أبرز تعبير عن هذا الصراع كان في الجنوب، الذي تفاقمت فيه الحرب الأهلية منذ عام 1955، وراح ضحيتها ثلاثة ملايين من المواطنين السودانيين من الجنوب والشمال، لتنتهي في نهاية المطاف بانفصال دولة جنوب السودان في عام 2011م، ذلك الانفصال الذي أشار إليه الكاتب اللبناني حازم صاغية في إحدى مقالاته كبداية للحراك الذي عبرت عنه، بعد ذلك، ظاهرة ما سمي “الربيع العربي”.
إن تسييس الهويات التاريخية عبر تعبيرات مأزومة للحركات السودانية التي توسلت هوياتها الطرفية، كان في تقديرنا مأزقاً وغطاءً لنزعات مبهمة، عجزت عن تكييف تلك الهويات في الإطار المعرفي، لكن العامل الأكثر خطورة تمثل في أن ذلك الحراك كان منعسكاً لخطاب هوية أيديولوجي لنظام انقلاب الإخوان المسلمين، الذي دبره الراحل حسن الترابي، ونفذه الجنرال عمر البشير في عام 1989 على النظام الديمقراطي، الذي ترأسه الصادق المهدي بعد الانتخابات التي أعقبت انتفاضة الشعب السوداني في أبريل (نيسان) 1985م.
بطبيعة الحال، منذ أن تبلور خطاب الهوية في طابعه الإسلاموي المؤدلج مع حسن البنا عند تأسيسه لجماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وحد خطاب الإخوان رؤية عدائية دوغمائية للغرب برمته، خلافاً لرؤية المدرسة الإصلاحية (مدرسة الإمام محمد عبده التي كانت تفرق تفريقاً واضحاً بين غرب استعماري وغرب حضاري). ومنذ ذلك الحين، تفاقم انفجار خطاب الهوية على يد الإخوان المسلمين، وشكل مأزقاً تاريخياً لمجتمعات المسلمين المعاصرة وللمجتمع الدولي، وذلك ما ظهر واضحاً منذ نهاية السبعينيات في الأحداث والصراعات والتفجيرات والاغتيالات التي صاحبت هذا الخطاب، بعد أن تمدد إلى حركات إسلامية أخرى تناسلت تحت اسم خطاب الهوية الإسلاموي المفخخ، حتى وصل الأمر إلى قيام دولة “داعش” الإرهابية عام 2014.
وهكذا، فاقم خطاب الهوية المؤدلج للإخوان المسلمين عبر تجربة نظام الإنقاذ في السودان، على مدى 30 عاماً، استفزازاً لجميع المكونات السودانية (من حيث إنه خطاب هوية مؤدلجة، ولا يعكس تعبيراً معرفياً عن الإسلام)، سواءً أكانت تلك المكونات من المسلمين أم من غير المسلمين في السودان، وهو استفزاز تراكم على خزين الإقصاء واختلال حقوق المواطنة، الذي شمل الغرب والشرق والجنوب منذ استقلال السودان، ومن ثم أسس ذلك الخطاب للحظة انفجار هائلة لتلك الهويات السودانية في ردود فعلها عليه، وكانت النتائج الكارثية لهذا الخطاب الهوياتي المؤدلج في الاجتماع السياسي للسودانيين: انفصال الجنوب، حرب أهلية كبرى في دارفور، حركات تمرد في الشرق وتدمير جهاز الدولة السودانية العام ونظامها المدني وبناها التحتية في العديد من جوانب ما تبقى من تركة الجهاز المدني والتعليمي والإداري، الذي توفر للسودانيين بعد الاستقلال عام 1956م.
فحين ظهرت عناوين التسييس للهويات التاريخية في الإطار المضمر لخطاب حركات الهامش السياسي، لم يكن التعبير عن هذه الهويات (باستثناء الخطاب الذي طرحه الزعيم الراحل جون قرنق) يعكس وعياً حقيقياً بمضمونها، ولهذا فإن الخلط الواضح، بين المطالبة بحقوق المواطنة، وبين الإحساس المهيمن بأن في تلك الهويات التاريخية قيمة تمييزية مضافة للمنتمين إليها على سودانيين آخرين، جعل من ردود فعلها على خطاب الهوية الإسلاموية لنظام الإنقاذ ممزوجاً بكثير من العناصر، التي لا تعكس منطقاً موضوعياً في أي تحليل معرفي لخطاب الهوية السودانية، والأخطر من ذلك أن تعبير خطاب الهوية المضاد في أساليب تلك الحركات (وبما أنه لم يكن يضمر في الغالب أي هوية معرفية للأصول الثقافية الخاصة بها) كان من الضروري أن يؤدي إلى تمثيلات ضارة وانعزالية، لأن أي تأويل لخطاب هوية تاريخية ما، لا يستصحب رؤية معرفية معاصرة لحيثيات تلك الهوية، فإنه سيقع بالضرورة في شراك تمثيلات ضارة.
هكذا، بدا في كثير من ردود فعل خطاب الهوية المضاد للجماعات السودانية على الهوية الأيديولوجية لدولة الإنقاذ، تعبيرات مأزومة عكست انهماماً أقرب إلى الأوتوقراطية والانعزالية، على طريقة رمي الجنين مع الماء القذر، فبدا واضحاً أن ثمة حساسية غير مفهومة ضد اللغة العربية في ذلك الصراع الأيديولوجي المعبأ، كما أنه (نظراً إلى غياب مفاعيل الإدراك المعرفي في أي تمثل لهوية تاريخية معينة، لا يبصر إطاراً عاماً للهوية السودانية العامة) كانت النزعات الأوتوقراطية والعنصرية لدى البعض هي الأقرب للتعبير عن تلك الهويات التاريخية.
وغني عن القول إنه في غياب أي تمثل معرفي مجزوء لأي هوية تاريخية سودانية في إطار الهوية السودانية العامة (واللغة العربية إحدى ركائز تلك الهوية) سيكون البديل عن ذلك، أولاً: انشقاق في الحركات التي تزعم تبني خطاب الهوية عبر النزاع الذي سيتأتى بالضرورة من غياب التمثل المعرفي المعاصر للهوية الخاصة في إطار الهوية العامة، وثانياً: ستكون هناك نزعات واضحة للأوتوقراطية والانعزالية، وهي نزعات تصاحب بالضرورة أي خطاب سياسوي يتبنى الهويات التاريخية دون إدراك لهوية عامة في النطاق الجيوسياسي الذي يتحرك فيه ذلك الخطاب.
واليوم، في ظل الثورة السودانية، لا تزال هناك مفاعيل ضارة لخطاب الهويات التاريخية المسيسة. فالخطاب الأساسي الذي طرح ذلك عبر أطروحة د. جون قرنق للسودان الجديد كانت نتيجتها مؤسفة، لا من حيث صحة أصولها النظرية التي تعترف بسودانية اللغة العربية والدين الإسلامي، ولكن للظروف السياسية المتعنتة التي خرب بها نظام البشير اتفاقية “نيفاشا” في عام 2005 مع “الحركة الشعبية”، على الرغم من الإشكالات التي أحاطت بظروف تلك الاتفاقية وبنيتها. ولهذا فإن ما بقي اليوم تقريباً من خطاب الهوية في الحركة الشعبية عبر التعبير الذي سمي “الكتلة التاريخية، لا يكاد يعكس خطاباً متماسكاً للهوية السودانية، لا من ناحية المفهوم (الذي تعود جذوره إلى المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي، الذي أراد به معنى تاريخياً للمعاصرة)، ولا من ناحية ما يريد به البعض من تمييز متوهم لشعوب السودان القديمة كـ”النوبة” و”البجا” وغيرهما، على مطلق من يستحقون حقوق المواطنة في الخريطة الجيوسياسية للسودان. ولهذا كان من تعسف بعض المنظرين لمفهوم “الكتلة التاريخية” من أمثال د. محمد جلال هاشم من يحاول نفي هجرات عربية موثقة ومقدرة لقبائل سودانية، ويرد أصول تلك القبائل جميعاً إلى المكون الكوشي النوبي في شمال البلاد، في تقليد نظري يشابه تلك التعريفات التي اعتمدتها أنظمة تولوتارية بناءً على النفي الأيديولوجي لكل من يحمل هوية مغايرة للهوية الرسمية للدولة، كما أطلق الأتراك الطورانيون على أكراد تركيا وصف “أتراك الجبال”!
وهكذا، إذا كان ميراث “الحركة الشعبية” في السودان الجديد عند جون قرنق قد تحول بعضه إلى تنظير ديماغوجي لهويات تاريخية، تتصل بكتلة سودانية قديمة، فإن أخطر ما يحيل إليه هذا الفهم هو: الانسداد نظرياً، وعملياً قد يؤدي إلى ممارسات إقصاء بناءً على الهويات التاريخية القديمة. ومن الغريب أن هذا الشخص (د. محمد جلال هاشم) تجده يعجز عن تفسير أي إمكانية لتواصل السودانيين في إطار هوية معاصرة تشملهم جميعاً بغير اللغة العربية، وفق رؤيته للهوية التي ترى أن على أي سوداني أن يتحدث بلغته الأم، من دون أي تفسير لكيفية شروط التفضيل التي تتوفر فيها أي مقارنة بين إمكانات اللغة العربية وإمكانات اللغة الإنجليزية في علاقتهما بهوية السودانيين المعاصرة!
وفي تقديرنا، فإن المرحلة التي تخوض فيها الثورة السودانية، اليوم، اشتغالات طويلة المدى في الجانب السياسي العام من أجل ترميم ما خربه نظام الإخوان المسلمين، سيمر، في الوقت ذاته، زمن طويل قبل أي تسوية نظرية تاريخية حيال مفهوم الهوية السودانية بسبب الخراب الذي أحدثه خطاب الهوية المؤدلج لـ”الإخوان المسلمين” في بنية الواقع السوداني، وهو واقع استجاب فيه دعاة الهويات التاريخية الطرفية لخطاب الهوية الإسلاموي المؤدلج، بخطاب تهميش كان في أغلبه شبيهاً له في الأسلوب والرؤية، وأحدث آثاراً مماثلة تمثلت في إعاقات حقيقية أمام أي فهم معاصر للهوية التاريخية للسودان، بهدف تأويلها ضمن هوية معاصرة وشاملة للسودانيين اليوم!
ربما تمر مياه كثيرة تحت جسر الأيديولوجيا التاريخية لخطاب الجماعات السودانية، من دون أن تصل تلك الجماعات إلى وعي حقيقي بأن أي مفهوم لهوية طرفية لا يمكنه أن يكون اليوم تعبيراً معرفياً عن حقيقتها، إلا بوصفها هوية طرفية في إطار معاصر ومنظوم في مجرى الهوية العامة من ناحية، وتعبيراً لا ينفك عن مفهوم المواطنة المعاصر، من ناحية ثانية، ذلك أن مسألة التعبير عن أي هوية تاريخية طرفية لمكون سوداني لا بد أن تجد تعريفها المعاصر في منظومة إدارة التنوع الثقافي في سياسات الدولة السودانية، لأن أي تعبير سياسي معاصر لخطاب هوية تاريخية، فضلاً عن أنه سيكون تعبيراً عدمياً وخطيراً (إذا أراد أصحابه بعث هوياتهم التاريخية الطرفية الخام بحذافيرها)، فهو كذلك سيسقط في مواجهة الهويات الأخرى، أو حتى الروايات الأخرى للهوية الواحدة!
ولهذا، فإن العلاقة الجدلية بين التعبير عن الهوية ضمن خطاب المواطنة هي العلاقة الوحيدة التي ستضمن لجميع السودانيين حقوقاً متساوية في الدستور.
إن مسألة التعدد الثقافي وإدارة التنوع يجب أن يتم فهمها في إطار رمزي يحفظ لجميع المكونات السودانية، عبر النسبة والتناسب، تعبيراً حراً وجميلاً في الفضاء العام والإعلام، لكن إذا توهم البعض إدارة التنوع على أنها شكل من أشكال تسييس الهويات التاريخية في المجال العام، فسيكون هذا الوهم طريقاً ملكياً للخراب.
وبصورة عامة، إذا لم يتم التفريق بين معنيين مختلفين في فهم الهويات التاريخية والتنوع الثقافي، فسينطوي ذلك على خطر كبير على تماسك الهوية الوطنية العامة، بحيث يجب التفريق بين الهوية التاريخية كتجربة معاصرة وتعبير تلقائي عن التصالح مع الذات، وبين الهويات الثقافية التاريخية كتأويل سياسي، ففي هذه الأخيرة ستكون نتائجه إقصائية وكارثية.
وللأسف، كثيرون من الأفرقاء السياسيين الذي يرفعون شعار الهويات التاريخية في السودان، لا يدركون أن تعبيراتهم السياسوية العدمية عن هوياتهم تلك، إنما في حقيقتها ردود فعل مأزومة على خطاب هوية إسلاموي مأزوم، تبناه نظام “الإخوان المسلمين” في السودان على مدى 30 عاماً، وخرب به الاجتماع السياسي للسودانيين.
إن الذين يمارسون خلطاً ضاراً ومدمراً بين السياسي والثقافي في تعبيراتهم عن الهويات التاريخية الطرفية لمكوناتهم، يشكلون خطراً على الهوية الوطنية السودانية، سواء أكانوا مدركين لذلك الخطر، أم غير مدركين!
نقلا عن الاندبندنت العربية