تقلب الولايات المتحدة، بل العالم برمته، اليوم صفحة ترمب بكل ما فيها من سياسات ومواقف تأثرت بها دول كثيرة، وتفتح أميركا ومعها أيضاً العالم صفحة السياسي المحنك جو بايدن، الذي يأتي إلى الساحة محملاً بتجربة واسعة في السياستين الداخلية والخارجية لبلاده.
ويهمّنا في السودان أن الرجل يأتي وقد استطعنا في عهد ترمب التخلص من وصمة الوجود في قائمة الدول الراعية للإرهاب لجريرة النظام السابق، الذي رفع شعارات لم ينل منها الوطن غير الويلات داخلياً وخارجياً.
وعلى الرغم من إملاءات ترمب واشتراطه التطبيع مع إسرائيل إلا أن من المهم الخروج من ذلك النفق المظلم، الذي تأثر به السودان، على الرغم من عنتريات النظام السابق، وتوعده بأن أميركا قد دنا عذابها، أو عنجهية رئيسه الذي وضعها تحت “الجزمة” بلغة حنجورية بحتة، لم تقدم، ولكنها أخرت، فدفع السودان وأبناؤه ثمناً غالياً.
وأهم ما في الأمر أن بايدن أبدى تعاطفاً مع السودان، وترمب يملي شرط التطبيع مع إسرائيل، ورأى ذلك ابتزازاً لا يليق، ولعل هذا يجعلنا نتفاءل بأن يكون موقف إدارته من السودان مبنياً على رؤية تأخذ أهمية هذا البلد في تحقيق الاستقرار في منطقة مشتعلة، ومرشحة لمزيد من الاشتعال بفعل تقاطع مصالح دول كثيرة، بعضها قوى عظمى، وبعضها قوى إقليمية تبحث عن التأثير وإثبات الوجود، وترسيخ قدمها في منطقة تعاني الفقر، وبها دول وقوى سياسية قابلة للاستمالة بسحر المال، والإغراء بتحقيق مصالح ذاتية ضيقة.
وللأسف، نعيش في السودان اليوم واقعاً مريراً يلقي بظلاله السالبة على ثورة مهرها أبناؤه بدمائهم الزكية، وتضحياتهم الجسيمة، ويمكن أن تزداد مرارة هذا الواقع إذا لم نسرع بمعالجة أسباب النكد، وفي مقدمتها الانحراف عن الهدف الأسمى، وهو إقامة دولة مدنية حديثة، تسودها القيم الديمقراطية المتمثلة في حرية الاختيار، واتساع الساحة لكل من يتوسم في نفسه القدرة على العطاء، والاحتكام إلى الشعب، لاختيار من يراه مناسباً، وارتضاء الجميع باللعبة الديمقراطية، وسيادة حكم القانون، والمساواة، وأن تكون المواطنة هي الأساس، لا القبلية والجهوية، وأن تكون الكفاءة أساس المفاضلة في الوظائف العامة، وغير ذلك من القيم التي جعلت الولايات المتحدة نفسها تتجاوز محاولات ترمب الانقلاب على ديمقراطيتها الراسخة.
إن القوى السياسية والمجتمعية الحية مطالبة اليوم نسيان ما قد يكون من خلاف أو اختلاف بينها، وأن تركز في المشترك العام، والعمل على توسيع مساحته، ويعدّ تحقيق التعايش السلمي بين مكونات المجتمع من الأولويات القصوى، لأن من دونه لن نحصد غير الندم.
ولا يجب أن نمارس الهروب بإلقاء اللوم على طرف ثالث يظلّ حاضراً دوماً، لأننا لا نريد الاعتراف بالحقيقة، وهي أن هناك هشاشة في بنائنا الاجتماعي، وأن ممارسات الإنقاذ القائمة على ضمان استمراره مهما كان الثمن من أسباب اتساع الهوة بين مكونات المجتمع.
وحتى لا نبكي على اللبن المسكوب، ونكتفي باجترار مرارات الماضي، علينا أن نبذل كل جهد ممكن في سبيل تمتين جبهتنا الداخلية بتحقيق الألفة والتعايش السلمي بينها، وجعل قبول الآخر مبدأ حياتياً نتمسك به، بدلاً من الاستعلاء الذي نمارسه على بعضنا بعضاً.
وعلينا أن نعي أن لا بايدن أو غيره يمكن أن يساعدنا ما دمنا مجتمعاً متخلفاً يعلي القبلية، ويتمسك بالجهوية، ويتقاتل أبناؤه بعد ثورة عظيمة على المناصب والمكاسب، بينما أهلهم الذين رفعوا السلاح بدعوى أنهم يعانون التهميش يتقاتلون اليوم على لا شيء، بينما كان الواجب يحتم عليهم -أقصد حملة السلاح سابقاً وأطراف السلام حالياً- أن يكونوا بينهم، متلمسين مشكلاتهم، وملتمسين كل السبل من أجل بث روح التسامح، وإطفاء نيران الفتن.
ولهؤلاء ولكل الطامعين في المناصب، نهدي رائعة الشاعر الدكتور مازن الشريف التي تغنى بها الفنان لطفي بوشناق، حتى بكى فأبكى:
يشهد الله والزمن
أنا حلمي كلمة وحده أن يظل عندي وطن.
لا حروب ولا خراب لا مصايب . .لا محن.
خذوا المناصب والمكاسب.
لكن خلّولي الوطن.