تواجه ثورة ديسمبر مهمة شاقة هي مهمة بناء الدولة السودانية في أعقاب التشويه الذي تعرضت له صورة ووظيفة الدولة في عهد نظام الانقاذ، و يمكن التدليل على طبيعة دولة الإنقاذ المشوهة بحديث المخلوع الذي سربته قناة العربية في برنامجها حول أسرار الإخوان المسلمين في السودان، حيث ذكر بأن الدولة الآن هي ( ملك ) للحركة الاسلامية!! كانوا ينظرون للدولة كملكية خاصة بهم وليس كدولة لجميع السودانيين. هذا المفهوم المشوه لسلطة الحاكم هو إرث ثقيل على الثورة.
في عهد الانقاذ كانت الدولة تسيطر بصورة شاملة على كل صغيرة وكبيرة، السيطرة تتنزل رأسيا من رئيس الجمهورية حتى اللجنة الشعبية للحي او القرية، ثم تدعم هذه السيطرة بعلاقات افقية مع مؤسسات مثل جهاز الأمن والأمن الشعبي وإتحادات الشباب والمرأة والطلاب وإلخ، ثم تشرعن هذه السلطات عبر قرارات من المجلس الوطني والمجالس التشريعية الولائية والمحليات المسيطر عليها ايضا من قبل الكيزان، هذه السيطرة الكيزانية هي التي خنقت الشعب و أضعفت قدرته على الإنتاج و الإبداع، وذلك لأن الترقي والنجاح في ظل دولة الحركة الاسلامية لم يكن يعتمد على القدرات ولا على الابتكار وإنما على الانتماء والولاء للحركة الاسلامية، و هذا ما قاد إلى ضعف التدريب، إنعدام التنافس والطموح، قلة الانتاج، تقزم المؤسسات، انكماش سوق العمل، وهجرة العقول والقدرات السودانية، والنتيجة الأخيرة كانت كما شاهد الجميع فشلا و انهيارا في كل شيء.
إعادة بناء الدولة بواسطة ثورة ديسمبر يستوجب عددا من الخطوات: تفريغ العقول التي تخدم في الخدمة العامة من مفهوم النظام المسيطر الذي كانت تمثله الانقاذ، ثم تحريرها من عقلية الخوف من جهاز الدولة ومن وهم سيطرة وقوة وغلبة الذي بيده السلطة، فالسلطة في ظل الثورة سلطة الشعب وليست سلطة رئيس مجلس السيادة او رئيس مجلس الوزراء، كما يتطلب بناء الدولة تحرير الابتكار والإبداع، إستقطاب الكفاءات المهاجرة، زيادة التدريب، إطلاق روح المنافسة وتشجيع الطموح، تقليل مدى سيطرة الدولة وزيادة مساحة القطاع الخاص.
في عالم اليوم الدول التي حافظت على اقتصاد قوي هي الدول التي قللت من وظائف الدولة وتنازلت عنها للقطاعات الخاصة المؤهلة، بينما الدول الفقيرة والمنهارة اقتصاديا هي الدول التي تهيمن فيها الدولة على كل صغيرة وكبيرة ، و تسيطر الدولة فيها بصورة مطلقة على أدوات الانتاج والسوق والاستثمار وتقديم الخدمات .
هيمنة الدولة تعني هيمنة القطاع العام و هو قطاع بيروقراطي ضعيف الابتكار والتحفيز ولا يشجع على المنافسة والأنجاز، بينما زيادة مساحة القطاع الخاص ستزيد العمل التنافسي وترفد الواقع بالقدرات التنافسية الممتازة، قصص مثل نجاح ستيف جوبز صاحب أبل او مارك زوكنبيرغ صاحب الفيس بوك ما كان يمكن أن تظهر لو كانت تهيمن على أمريكا دولة مسيطرة لا تشجع الابتكار و التنافس والنجاح .
دولة الثورة بيدها ان تستبدل دولة الكيزان المشوهة بدولة بيروقراطية نمطية -كما هو سائد الآن للاسف- و ستكون النتائج متشابهة مع تفوق طفيف لصالح دولة الثورة، بينما بيدها ايضا ان تحدث ثورة حقيقية في مفهوم الدولة وطبيعتها، بمواكبة المفهوم الجديد للدولة في العالم، الدولة التي تفسح المجال العام تدريجيا للقدرات الفردية والجماعية لتأسيس الأعمال والابتكار، على أن تتفرغ الدولة لتوفير الأمن والسلام و تنظيم القوانين لخدمة تطور البلد وعدالة الفرص والمنافسة.
sondy25@gmail.com