تمر حركة التغيير الثوري والانتقال الديمقراطى في السودان التي افترعتها ثورة ديسمبر بازمات شتى سياسية واقتصادية واجتماعية تهدد مستقبل التحول الوطني برمته إذا لم يتم التعامل مع معطياتها ودلالاتها بقدر عالي من الوعي الثوري اللازم لتفهم أسبابها وممكنات تجاوزها.
يثير هذا المقال تساؤلات موضوعية لتفسير جوهر أزمة الانتقال من زاويتي مفهوم الثورة والتغيير ومدى استجابة واستيعاب قوي الثورة لفهمه والوعي بمتطلباته؟ ومن زاوية أخرى طبيعة التمايزات النوعية بين مكونات الثورة وأثرها على عملية التغيير الثوري بافاقه الكلية؟
إن الحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وهي ما اصطلح سياسيا على تسميتها بالأزمة الوطنية الشاملة التي تأخذ تمظهرات شتى في مناحي الحياة، فحالة الأزمة هي التي تشكل الظرف الموضوعى للثورة والتغيير بكافة اوجهه وهو ماتم في ثورة ديسمبر المجيدة.
الثورة هي اسلوب من أساليب التغيير الاجتماعي تشمل الأوضاع والبنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. تعني الثورة بناء نظام جديد يرفع أعلى مستوى لرخاء القسم الأعظم للجماهير ويطيح بالنظام الاقتصادي والسياسي السائد الذي يقوم على الاستغلال..
تختلف الرؤى حول مفهوم الثورة والتغيير حسب المنظور الايدلوجي ومنهج التحليل السياسي التاريخي والاختصاص ويستخدم للتعبير عن التغيير في مجالات سياسية وغير سياسية.
عرفت موسوعة العلوم الاجتماعية الثورة(التغييرات الجذرية في البنى المؤسسية للمجتمع التي تعمل على تبديل المجتمع ظاهريا وجوهريا من نمط سائد إلى نمط جديد يتوافق مع قيم وأهداف الثورة).
وضمن الإطار الشكلاني قد تكون الثورة عنيفة ودموية وقدتكون سلمية- وهو صفة ثورتنا- وقد تكون فجائية سريعة أو بطيئة تدريجية وفق التقييمات التي تخضع لها الثورة السودانية وتعامل حكومتها الانتقالية إزاء تحديات الانتقال الديمقراطي.
يري كرين برنتون في كتابه تشريح الثورة أن الثوره(عملية حركية دينامية تتميز بالانتقال من بنيان اجتماعي إلى بنيان اجتماعي آخر) بينما يرى هاري ايكشتاين أن الثورة(محاولات التغيير بالعنف أو التهديد باستخدامه ضد سياسات في الحكم أو ضد حكام أو ضد منظمة)..
وفي جانب آخر يراها بيتر أمان انها(انكسار مؤقت أو طويل الأمد لاحتكار الدولة للسلطة يكون مصحوبا بانخفاض الطاعة) ووفق النظرة الماركسية للثورة والتغيير يقول يوري كرازين:إن معنى الثورة الاجتماعية وظيفتها لايمكن فهمها الا حينما تنظر لتاريخ المجتمع على حقيقته كسلسلة متصلة من التشكيلات الاقتصادية – الاجتماعية، والثورة شكل من أشكال الانتقال من تشكيل إلى آخر، وهي قفزة من التشكيل الاقتصادي والاجتماعي البالي إلى تشكيل أكثر تقدما مضمونه السياسي انتقال السلطة إلى الطبقات الثورية.. المفهوم الذي يراه كرازين ذا مضمون اجتماعي طبقي مرتبط بمنهج التحليل الماركسي للتطور الاجتماعي.
إزاء ما تقدم هل تبدو قوي الثورة السودانية بمختلف تكويناتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية على توافق في استيعاب مفهوم التغيير الثوري على اي وجه؟ وبالتالي الوعي بمتطلباته واولوياته واتساق ذلك مع القرار السياسي أو الاقتصادي أو خلافه لا أرى وجها من المنطق إزاء المنظور في فترة الانتقال مايشئ بذلك..
إن من مهمات الثورة في بلادنا بناء مجتمع متماسك ينبذ العنف والعنصرية والإقصاء وبناء دولة على الطراز الديمقراطي التعاقدي وهذا مااشرته شعارات الثورة والتي عبرت عن مضامين التغيير المطلوب في شتى مناحي الحياة، والافتراق عن جوهر هذه الشعارات هو مايبدو مظهرا من مظاهر أزمات الانتقال الماثلة.
إن بناء آليات الانتقال في العدالة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحقوق الإنسان، عدالة انتقالية ذات مقاربات سياسية تعتمد على تسهيل الانتقال الذي يعتبر جسرا من نمط الانتقال من نمط الحكم التسلطي إلى نمط ديمقراطى تشاركي. آليات الانتقال المشار إليها تتطلب إصلاح مؤسسات الدولة حيث لايمكن أن تنمو العدالة الا في وجود سيادة القانون ومحاكمة المسؤلين عن جرائم الفساد وحقوق الإنسان والجرائم الاقتصادية.
في جانب آخر لابد للتغيير الثورى من الإصلاح التشريعي والدستوري بالتخلص من قوانين الماضي وسن قوانين ودستور جديدين.
في إطار المناهج لاغنى للتغيير الثورى عن تغيير المناهج واستبدالها بمناهج ترسخ قيم الحرية والديمقراطية والسلام والعدالة وإزالة ماشابها من تشوهات. في جانب الإصلاح السياسي نقل المجتمع من التسلطية إلى الديمقراطية حيث يتطلب هذا التغيير في أسلوب وأدوات الحكم وكيفية إدارة الدولة، وتعزيز سمات المشاركة والتمثيل وسيادة الدستور والقانون وحماية الحريات والفصل بين السلطات..
وفي المجال الاجتماعي الاقتصادي يتطلب التغيير الثوري الاستناد إلى تفجير طاقات الوطن وقدراته التنموية وتعزيز دور الدولة بتلازم البناء والأعمار الاقتصادي مع السياسي كمطلوبات عضوية متماسكة..
مما تقدم هل يبدو أننا نقترب من تمثل مفاهيم الثورة والتغيير الثوري؟ وهل طبيعة القوى الثورية بكل أقسامها متوافقة على مفهوم كلي للتغيير ومطلوباته واولوياته؟ لا أعتقد ذلك.. وفيما أرى أنه لابد من العمل في اتجاهين متناسقين اولهما دفع الحكومة الانتقالية لمزيد من الالتزام والمسؤولية في اتخاذ القرارات والسياسات العامه المنسجمة مع أهداف الثورة العامة.
وثانيهما حشد الشعب وقواه الثورية في جبهة واحدة تحت مظلة مشروع وطني متوافق عليه إزاء كل قضايا الانتقال لتجاوز حالة الانقسام والصراع التي تصب في خانة قوي التربص بمشروع التغيير الثوري..ان عبور تحديات الانتقال يمر عبر هذا الوعي المطلوب المفقود..